أرشيف

النساء و الرقص على أنامل خولان الطيال! مليحة الأسعدي

 لكل أمة من الأمم موروثها الثقافي الذي تتناقله عبر الأجيال المتعاقبة، وهو يعكس بشكل أو بآخر همَّ الفرد وطرائقه في تشكليل الحياة بتنوعاتها المختلفة، وللمرأة اليمنية في هذا المجال باع طويل هضمته الثقافة التي استوعبت الريف اليمني بتقاليده وعاداته وأعرافه القبلية , هذا إذا ما استثنينا بعض الأصوات التي استطاعت بشكل أو بآخر فرض حقها في التعبير بالكلمة الشاعرة رغم السلطة الذكورية التي تسعى دائماً إلى (أرجلة) النساء اللواتي سطع يسطع نجمهن في هذا الإطار حتى رأيت أحد مثقفينا يسأل في مقال له عن ما إذا كانت غزال المقدشية ـ على سبيل المثال ـ شاعرا أو شاعرة ؟!!!

 

 

 

أعترف للقارئ بشيء من المكاشفة أني لا أؤمن بتصنيف الأدب أو الفن إلى أدب نسوي أو غيره، لأن الأدب إنسانيٌ فقط، ومن ثم سأطمح من خلال هذه الأسطر القليلة إلى كشف النقاب عن بعض الأهازيج التي تنتجها النساء في أعراس (بني شداد ـ خولان الطيال) , لا لكونه أدبا نسويا ولكن لكونه أدبا أنتجته النساء وأخفته الأعراف لمجرد أن منتجه امرأة، وهي أهازيج لازالت عماد العرس الخولاني حتى اللحظة رغم الغزو الإلكتروني الذي جعل من الأغنية (دليفري) لا تعترف بالإبداع والهوية.

 

 

 

 والنمط الذي تخيرته هو ما أطلقت عليه نساء المنطقة اسم (الحلة) إلى جانب (النسوانية) التي بدأت بالاختفاء تدريجيا لسببين : السبب الأول أنه يعتمد على قصائد لا أبيات شعرية متفرقة مرتجلة كما هي عليه (الحلة) والسبب الثاني : يمكن أن نرجعه إلى كون إنتاج (النسوانية) قد توقف منذ زمن طويل ولم يعد يعتمد إلا على المحفوظ من القصائد ومن ثم فلم يعد قادرا على الوفاء بجو المرح الذي تسعى إليه الفتيات في المنطقة فهجرنه شيئا فشيئا حتى لم تعد تسمعه إلا من خلال نساء كبيرات في السن نهاية العرس بعد إلحاح كبير من مثيلاتهن، وامتعاض أكبر من الفتيات الصغيرات …!!

 

 

ويا قلبي اسلا ولا تدي غبــــونك لحد

لا كنت في نار حمرا قلت انا في غدق

 

 

 

  تكاد (النسوانية) على جمالها أن تطمر نهائيا في ظل التعسف الذي يلحق بها ؛ وإن قلت تكاد فلأني متفائلة جدا فقد طمر جزء كبير منها لدرجة أني لم أتمكن من استيفاء قصيدة واحدة رغم إصراري الشديد على إيجادها كاملة إذ تأكد لي من أكثر من مصدر أنها قصيدة طويلة ضاعت في غياهب الزمن الآثم، و بعد بحث طويل استطعت أن أحصل على نزر قليل لايكاد يفي بالغرض من جدات تسنى لي إقناعهن بحاجتي إليها في هذا المقال، وكدن لا يطلعنني علي أي شيء منها ؛ حياءً تارة أو خوفا من أن أهزأ بهذا الفن كأترابي تارة ثانية .

 

 

 

و (النسوانية ) مفرد يجمعنه على (النسوانيات) وهي كأي أدب شعبي آخر يتحقق بالكلمة المنظومة والإيقاع الحي والحركات المتسقة الهادئة عند اللعب/الرقص، وقوام هذه الرقصة امرأتان أو ثلاث على الأكثر في (المِلعَاب) و  هو المكان المتوسط لمجلس السمر  وبالمقابل امرأة تجلس في حلقة تضم عدداً من النساء اللواتي يتناوبن على دق الطبل في حال تعب (الدقاقة) أي التي تدق الطبل بإيقاع ثابت ورتيب:

 

 

يا والده يا ضنينه يا زبيب كل عــــــــود

 

يا من جرح قلبش السالي جعل ما يعــود

 

يمسي محنَّن، ويصبح في غميق اللحود

 

جِعِل له الـــوِرد والحمَّـى تدقــــــه دقوق

 

جِعِل مصيره جهنـَّم حومها والوقـــــود ..

 

 

 

وكما يلحظ القارئ فبث الهموم اليومية هو قوامها الذي ترتكز عليه، وفيها تقوم أكبر اللاعبات/الراقصات سناً بقول البيت الأول من المقطوعة الشعرية بصوت يكاد لا يصل إلا إلى التي ترافقها الرقص فقط، يتلو ذلك غناءٌ شجي لهما معا بصوت  يتسق مع دق الطبل الهادئ ويصل إلى النساء الجالسات في (الديوان) مجلس العرس، يصاحب ذلك رقصة رتيبة جدا تعكس رتابة حياة الريف إلى حد بعيد، فتقوم اللاعبات/الراقصات بالتقدم خطوة طويلة إلى الأمام ثم يتراجعن القهقرى بخطوات متقاربة جدا وهادئة جدا تعتمد على رشاقة خطوتهن في سحب الأرجل على الأرض واتساقها مع الشجن الكبير الذي يحملنه في أصواتهن، وهكذا دواليك يعدن للتقدم ذات الخطوة الطويلة، وذات التراجع مع الاستمرار في قول أبيات (النسوانية) بذات الطريقة التي تقوم فيها المرأة الأكبر سنا بتلقين جارتها في الرقص البيت الثاني ثم الثالث حتى  لو كانت تحفظ أبيات القصيدة كاملة، ويستمرذلك لأحد الأجلين إما أن تنتهي القصيدة وهذا قد يتجاوز ربع الساعة، وإما أن تتعب اللاعبات/الراقصات من الرقص والشجن.

 

 

 

وأود أن أشير إلى أن قصيدة (النسوانية) قد تأتي على وزن واحد وقافية واحدة، وقد تأتي على وزن واحد وأكثر من قافية , كما هو حال هذه القصيدة الأكثر شهرة وضياعا في المنطقة :

 

 

سلام يا دار من راســـش نشــوف القبـَـلْ

 

ونشرب المــــا من الغُـرفة وبَرده يطــــلْ

 

فيش البنات الصبـايا سَــع نهيــم الغـَــزَلْ

 

كريم يا بارق الليــــــله تجلجل وجــــــــرْ

 

واوطى ملاحا المسمَّى (عرعرة) والحَجرْ

 

لي منعكم منع يا اهل الوادي المشتهَـــــــرْ

 

لي منعكم فـ الصوافي لا تجس شي ذُمـــرْ

 

كريم يا بـــارق الليـــــــله ورعـــــده دكمْ

 

من فوق مهنون خيـَّـل بــــارقه والسَّــخمْ

 

وَسَط ملاحا مســاعد عِـــده والحـَــصَــــمْ

 

 

 

ورغم تعدد الروايات في هذه (النسوانية) إلا أن النساء اللواتي قمن بروايتها لي ومن أكثر من مكان وزمان اتفقن على ختمها بالآتي:

 

 

ويا صلاتي تصل طيبته مع انوادها

 

تزور قبـة محمد سِعد من زارهـــــا

 

 

 

وختم هذه (النسوانية) بالصلاة على النبي يتفق مع فكرة (الحِلة) وهي النمط السائد في هذه الأيام، إذ تبدأ (الحِلة) بالبسملة في أبيات ترتجلها إحدى اللاعبات/الراقصات يقابلها رد من (الدقاقة) التي تدق الطبل وهذا الرد ينبغي أن يكون في نفس الموضوع حتى يصل السجال حده، وكأن الراقصة والتي تقوم بدق الطبل ينسجن قصيدة حية يدخل فيها المرح والمزاح بشكل شعري خاص و جميل:

 

 

  • بسم الله الرحمن أول وثــاني واستغفر الله لا غوي لســانيْ

 

  • بسم الله الرحمن يا بسم باسم ماحد على الدنيا سَلي و ناسمْ

 

ومنها أيضا :

 

  • بسم الله الرحمن عذا نطينــــا يا عـــــــروة الله لا تـِفَـلـِّتينــــــا

 

  • بسم الله الرحمن عادنا انويت لاقد عَصيتَ اهلي ولا قد توليتْ

 

 

ومثلما بدأن باسم الرحمن في سجالهن فلابد أن يختمن السجال بالصلاة على النبي (ص)

 

وهذه الأبيات تنبئ عن انسحاب التي بدأت بها عن السجال وفوز الأخرى التي تقوم بالختم ردا عليها بالصلاة على النبي أيضاً:

 

  • تِعَـــود يا دقـــــــاق يا مغني و احنــا على روح النبي نصليْ

 

  • صلين عليه يا جالسات قاعة ياللي على القيتـــان والمداعةْ

 

ومن ذلك :

 

  • خبيرتي صاح الفراق من صدق لاكنت انـــا ظني ولا مصدقْ

 

  • ويا صلاتي قبل ما تقوليــــــــن وقبل ما تتنافسين وتوميــنْ

 

ومن كل ما تقدم فالصلاة على النبي أمرٌ يلزم (الحِلة) ولا يلزم كل (النسوانيات) فهل المسألة من قبيل ضياع نصوص (النسوانية) لعدم تداولها في الوقت الحاضر ؟!

 

ومثلها أيضا البسملة التي ظهرت في إحدى الأغنيات القديمة التي لا تخفى عن أي امرأة سألتها عنها، وهي التي تقول روايتها :

 

نبدع بخالق النـَّـاوه وعلّا بــــهــــا

 

وخالق الشمس في جو السما ساقها

 

والعيس تحملها… دلا دلا بالصيــاني ليش زِلفــــــاقهـا…. وأيضا:

 

أبدع برحمان خالق مع الشمس ظلْ

 

وخالق الطير في جو السما ما نجلْ

 

حافظ مراكب على موجاتها والدقلْ

 

 

إن ما أرمي إليه من هذه المقارنة البسيطة بين (الحِلـَّة) و(النسوانيَّة) هو تسليط الضوء على فكرة أن (الحِّلة) ابنة (للنسوانية) من حيث الشكل العام، أي أن الترتيب الذي تقوم عليه (الحِلة) ربما يكون أصله من (النسوانية) وهذا يدفعني إلى افتراض آخر مفاده أن هناك نمط شعري آخر يتخذ المساجلات سبيله، وربما يكون قد اندثر في قارعة الإهمال الذي يعانيه الأدب الشعبي  وعلى الأخص الأدب الذي تنتجه النساء ..

 

 

طِـلِـعت واقليت لا روس العـوالي وريـتْ

 

واني بظـبيـه تمشط راسهــا فــــوق بيتْ

 

يا ريت ابوها رضي بيــاع وانا اشتـريتْ

 

وادي ثلاثين كبدان راس من ذي رعيتْ

 

وادي ثـــلاثين صبـَّة بـِر من ذي حَمَـيتْ

 

وادي ثــــلاثين بَــكرَه من بنات البخيـتْ

 

يا طير يا طير يا ذي فالمَـشَـنَّــه لَـوَيـتْ

 

سلِّم على بيت من دونه ثـلاثيــــن بيــتْ

 

وآنا المعفِّي وانا الصيـَّاح وآنـــا رميتْ.

 

 

والآن أشعر بغبطة تتسلل إلى أعماقي لأني تعرفت على فنٍّ جميل من (خولان الطيال) قد لا يتسنى لأحد غيري وصفه ؛ لكنها الغبطة التي تدفع بي إلى درجات من الحزن المتعاظم كلما فكرتُ في أن هذه الفنون الجميلة تنسربُ من بين أيدينا دون أن نهمس ببنت شفة لمجرد أننا نستسلم لمنظومة اجتماعية تأبى إلا وأد كل ما يتصل بالمرأة تحت مصطلح (عيب….!!)

زر الذهاب إلى الأعلى