حوارات

الدكتور عبد العزيز المقالح: ستبقى الاختلالات التي نشكو منها إذا لم توجد دولة تؤمن بالنظام والقانون وتفرضهما

 يمنات – متابعات

بعمق المثقف الأصيل وحدس السياسي الخبير وحساسية الأديب الناقد يتوقف الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح أمام خمسين عاما من الثورة والجمهورية، مشيرا إلى أن مطالب الأمس هي نفسها مطالب اليوم ولما ننتقل بعد إلى الخطوة الأولى التي ينبغي وذلك بفعل عدة عوامل داخلية وخارجية أدت إلى ذلك، وأن بعض أنظمة الحكم المتعاقبة قد عملت على خلق جو غير طبيعي بين أبناء العائلة اليمنية الواحدة، إلا أنه يؤمل على تجاوز ذلك على الشباب الذين خرجوا في ثورة الربيع العربي متطلعين إلى عهد جديد يتلاءم وروح العصر..

 

– خمسون عاماً مضت على ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 62م.. قراءة أولية في الحدث؟

المؤسف والمحزن أن الجيل الجديد أو الأصح الأجيال الجديدة لم تشهد حالة واحدة من حالات المعاناة التي عرفها جيلنا أو الأجيال التي سبقتنا ولم يقرؤوا تاريخ تلك المرحلة بفهم وإدراك كافيين، وأهمية أن تقوم ثورة في هذا الجزء المعزول والنائي عن حركة العصر وأتذكر في هذا الصدد قولا خالدا للمفكر العربي الراحل صلاح الدين البيطار عندما زار اليمن في أواخر الخمسينيات فقال: “إذا كانت بعض الشعوب بحاجة إلى ثورة واحدة فإن اليمن بحاجة إلى مائة ثورة” وكان ذلك المفكر على حق فلم تكن ثورتا 26 سبتمبر و14 أكتوبر قادرتين على اقتلاع الركام الثقيل للتخلف؛ ورغم ما قامتا به من تأسيس مشروعية التغيير وإعلان الجمهورية وطرد الاحتلال فإن ركام التقاليد الاجتماعية الموروثة وعلاقتها بالاستبداد التاريخي كان أكبر من كل المحاولات، وقد بقيت أهداف الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر علامة تحدٍ للأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد سواء في الشطرين أو في الدولة الموحدة وهي أهداف ما تزال من وجهة نظري تناشد اليمنيين أن يعملوا متكاتفين على تحقيقها ووضعها موضع التطبيق.

 

– دكتور: على ذكر أهداف 26م فيما أعرف أنك واحد ممن شارك في صياغتها إلا أن البعض يذهب إلى أن من صاغها بعض الإخوة المصرين وأملوها بالهاتف إملاءً.. ما الصحيح؟

هذا غير صحيح، الأهداف معدة وجاهزة من قبل الثورة بشهر على الأقل، ولا أريد أن أفتعل لنفسي دورا ولكني على الأقل كنت أشاهد كتابة هذه الأهداف وشاهدا على إعلانها في الإذاعة، وما تزال نسختها الأصلية محفوظة حتى الآن.. وهي بخط الأستاذ محمد عبد الله الفسيل.. وهناك أهداف أخرى أتى بها الدكتور البيضاني وأعاد إذاعتها من الإذاعة وحاول أن يمررها ولكن الأهداف الأولى التي كتبت بأيد يمنية هي التي سادت وهي التي ما تزال تعتلي صدارة بعض الصحف.

 

– أبرز ما يمكن أن نستخلصه اليوم من دروس تلك الفترة سياسيا واجتماعيا وثقافيا؟

الابتعاد التام عن الواقع وتحويل الاختلافات السياسية والفكرية الآنية إلى خلافات دائمة وإلى مواقف عدوانية في حين أن الاختلاف ضرورة تقتضيها الحياة وأهمية المراحل التي تمر بها البلاد وقد لعبت المصالح دورا في إبراز هذه الظاهرة وتعميقها وكانت السبب الأكبر في انكسارات الثورة ودخولها في مزالق ومنعطفات حادة سواء على مستوى الشطر الشمالي أو الشطر الجنوبي سابقا وتكفي الإشارة إلى يوم 13 يناير المحزن والمبكي وما تركه من ظلال كئيبة في حياتنا السياسية الراهنة. فأبرز ما يمكن استخلاصه من دروس العقود الماضية هو تجنب الخلافات وتغليب المصالح الشخصية على مصالح الوطن وبنائه وتحديث الدولة.

 

– لماذا كل هذه السلسلة من الصراعات الدموية سواء في الشمال أو في الجنوب؟

ربما تكون الإشارات السابقة كافية للتدليل على ما حدث وما أدت إليه الخلافات والصراعات الشخصية والطموحات غير المشروعة من فتح النار على الثورة ورجالها وأهدافها ودخولها في نفق تصفيات الشخصيات والبحث عن الوصول إلى تسلم السلطة بعيدا عن مفهوم الجمهورية وتبادل السلطة، فقد كان مفهوم الجمهورية مشوشا وغير واضح لدى الحكام الذين تعاقبوا على السلطة سواء طالبت فترة بقائهم في الحكم أو قلت فقد كان النزوع إلى التأبيد والاستمرارية في الحكم نزوعا شاملا.

 

– لما ذا نحن نفتقر إلى نموذج الدولة..؟

هذا صحيح، ولكننا لسنا وحدنا في هذه المسألة وفي هذه التجربة المريرة نحن جزء من أمة تكرر أخطاءها ويكرر حكامها أخطاءهم أيضا باستثناء لبنان التي حدد دستورها فترة رئيس الجمهورية فقد ظلت الأقطار العربية فترتها مفتوحة إلى ما لا نهاية.

 

– هناك أقطار أو دول جاءت بعدنا ولكنها قطعت شوطا كبيرا في التنمية والبناء.. إيران أنموذجا وأيضا ماليزيا، هاتان الدولتان حديثتا عهد بالثورات كما هو معروف؟

حديثي يقتصر على الوطن العربي الذي تتشابه فيه الأنظمة ملكية وجمهورية وأميرية، أما أشقاؤنا في إيران فوضعهم يختلف فقد ثبتوا التأبيد من خلال المرشد الأعلى، وفتحوا باب تبادل السلطة بين رؤساء الجمهورية.. وهذا شأنهم.

 

– هل العقل العربي عصي على التحضر؟

لا أظن ذلك؛ ولكن الظروف والعوامل الخارجية والتدخل في شئون العرب وقابلية الاستعداد هي التي جعلت منهم وكأنهم جنس من البشر غير قابل بالتحضر والتمدن والأخذ بأحدث الأنظمة السياسية والاجتماعية.

 

– ما هي الرهانات المستقبلية ليمن قوي وآمن ومزدهر؟

يتوقف هذا الرهان على وعي أبناء الوطن وعلى إدراكهم للمخاطر التي تنتظر البلاد في غياب المشروع الوطني الذي يعيد اللحمة إلى أبناء هذا الوطن المتجانس لغة وتاريخا وعقدية وجغرافيا وانتماء عروبيا، وفي نجاح الجميع في التصدي لدعوات التفتيت والتشطير تحت ذرائع ومبررات مختلفة، صحيح أن المواطنة المتساوية كانت غائبة منذ قيام الثورة (سبتمبر وأكتوبر) وأن بعض الأنظمة المتعاقبة لعبت دورا في إيجاد حالة من التنافر غير الطبيعي بين أبناء العائلة اليمنية الواحدة إلا أن المستقبل ومصلحة أبناء اليمن جميعا تكمن في أهمية توحيد الصف وتجاوز العثرات وإقامة النظام الديمقراطي الحر الخالي من التمترسات الطائفية والقبلية والحزبية، هذه رهانات المستقبل.

 

– بعد خمسين عاما من سبتمبر تعود أصوات الإمامة من جديد.. ما ذا ترى؟

لا أراها كذلك، وإنما هي أمر طبيعي شهدته اليمن منذ القرن الثاني الهجري وأعني بها استمرار التنازع على السلطة بين التيارات الدينية والمذهبية وبما أن الثورة لم تقطع صلة الشعب بهذا النوع من الماضي فقد فتحت الباب للمنازعات نفسها واستعاد البعض طموحاتهم ووجدوا من الواقع ما يساعدهم على طرح دعواتهم التقليدية بعد هدنة يتصور الجميع خلالها أن اليمن قد شرع في بناء دولته الحديثة التي تضم الجميع على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم.

 

– مطالب الأمس مطالب اليوم، مطالب الرواد من رجالات 48م في الميثاق المقدس هي ـ إلى حد ما ـ مطالب شباب الساحات الثائرين.. ما هذه المفارقة؟

لا غرابة في ذلك فقد ظل الحلم الكبير الذي هدفت الثورة إلى تحقيقه مجرد حلم وسيبقى كذلك إلى أن يتحول إلى واقع يشعر الناس معه بأنهم ثاروا وأنهم تحرروا من المخاوف والاستبداد والتمييز والخضوع للإملاءات الخارجية. وإذا ظل الحال كما هو عليه فإن فكرة الميثاق المقدس ستظل مطلبا لليمنيين بعد أكثر من ستين عاما، ولا أنسى هنا الإشارة إلى الدور التعيس الذي لعبه الإعلام طوال الخمسين عاما فقد تحول منذ قيام الثورة إلى إعلام رسمي وأحيانا شخصي، ولم يتناول القضايا الأساسية الهادفة إلى الارتقاء بوعي الشعب وثقافته وتعميق مقومات تجانسه وائتلافه، وما زال الإعلام خارج هذه المهمة الوطنية حتى اليوم سواء كان إعلاما رسميا أو حزبيا أو مستقلا.

 

– القبيلة والدولة مفردة جدل في أدبيات الكثير من المثقفين منذ عقود.. ما مبررات هذا الجدل؟ وهل القبيلة عصية على التحضر كما يذهب البعض؟

القبيلة حاضرة في حياة الأمم والشعوب، ولها وجود حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الالتزام بالنظام والقانون هو ما يجعل هذه القبائل شبه معدومة، فقد ساوى القانون بين سكان المدينة والريف وألغى الفوارق التي كانت تشكل حالة من القلق والاضطراب وتعطي للقبيلة فرصة التمرد على الدولة، وما لم تكن لنا دولة تؤمن بالنظام والقانون وتفرضهما فإن ما نشكو منه من اختلالات سيبقى، وربما يزيد ويحبط كل محاولة للتغيير والتطور، وفي ظروف كهذه لا غرابة أيضا أن تتحول الأحزاب الأممية إلى قبائل من نوع جديد.

أما عن قول البعض إن القبيلة عصية على التحضر فلا أعتقد ذلك، لأن الإنسان بطبعه مدني وقابل للتغيير نحو الأفضل لكن الخطأ كان وما يزال من جانب الدولة التي لم تعرف مهمتها ولم يكن لها كما سبقت الإشارة إليه مشروع شامل بما في ذلك رؤية الرؤية تجاه القبيلة وما تمثله في الحاضر من توق نحو التغيير، وكم يتمنى العقلاء في هذا البلد أن تتنبه الدولة أولا إلى دورها وأن تتنبه المؤسسات ثانيا إلى دورها، وأن تخرج منظمات المجتمع المدني من المدينة إلى الأرياف، إلى أوساط القبائل فجهدها المطلوب هو هناك وليس داخل المدينة.

 

– بعد خمسين عاما على انطلاق ثورة سبتمبر 62م لا زلنا نتحدث عن نخب والنخب التقليدية سواء في الجانب السياسي أو الاجتماعي.. لماذا التقليدية من حيث هي؟

أتمنى من كل قلبي أن تقف هذه النخب موقفا نقديا ذاتيا من دورها بكل ما اشتمل عليه من إيجابيات وسلبيات، وأن تسارع في إحالة نفسها بنفسها إلى التقاعد المريح، وتترك الأجيال الجديدة تخوض تجربة العمل السياسي ومواجهة الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها البلاد طوال عقود من عمر الثورة، وثقتي بالأجيال الجديدة لا تخيب لاسيما وهذه الأجيال متحررة من العقد ومن الخلافات السياسية التي أجهضت مشروع النهوض وجعلت الصراع حول القضايا الثانوية أمرا لا مناص منه. إن التغيير سنة الحياة ومن طبيعتها الثابتة، وبقاء النخب القديمة أو بعضها في سدة الحكم لم ينتج عنه سوى مزيد من الركود والتكرار الممل للأحداث وعدم القدرة على النفاذ إلى أعماق المجتمع لتطويره وتحديثه.

 

– دكتور رغم الجهود التي بذلتموها أنت وزملاؤك من مطلع الستينيات في القرن المنصرم وإلى اليوم باعتباركم نخبا تنويرية وتثقيفية رائدة إلا أن الجماعات التقليدية قد غلبتكم وخطفت مشروع الدولة من أيديكم؟

من غلب من؟ لا أدري من الغالب ومن المغلوب!! شعبنا كله يعاني من القهر ومن الوقوف في مكان واحد يراوح فيه ولا يتقدم إن لم يكن يتأخر. والأحداث التي جرت في البلاد تجعل أي مثقف يمتلك قدرا من الحس التنويري يقف حائرا بين ماضٍ يتشبث بالبقاء، وآت لا تلوح معالم إشراقاته، وما يؤسف له كثيرا أن النخب التنويرية التي أشرت إليها في سؤالك لم تكن موحدة المواقف والرؤى، بل كانت متنافرة، وعندما نقرأ تاريخ نشاطها سنجده فرديا بالمطلق، وهو ما قاد إلى التعثر، وإلى عدم النجاح سوى في حدود ضيقة.

 

– ما دام أن ثمة مقهورين فثمة قهر، وبالتالي فهناك قاهر أيضا.. هلا أشرنا إليه؟

كلنا نقهر بعضنا البعض، فالقاهر مقهور، والمقهور قاهر، القاهر وجد إمكانية لفرض القهر، والمقهور كان باستسلامه وضعفه قاهرا بصورة ما.

 

– ألهذا خرج الشباب في ثورات الربيع العربي يبحثون عن مخرج بلا قهر وظلم؟

نعم. وقد أحسنوا صنعا وتجاوزوا كل اللاءات والمعوقات. وما أكثرها!! وكانوا بهذا الموقف القوة التي أعادت للشعب شبابه بعد أن كان قد شاخ واقترب من الحافة، ومن حسن الحظ أن هذا الجيل الثائر انطلق بإرادته الذاتية وقطع صلته بكل الأفكار المثبطة التي ظلت النخب السياسية والفكرية تلوكها على مدة خمسة عقود، وما أثار انتباهي أن هذا الشعور كان عربيا شاملا لم يقتصر على بلد عربي دون آخر حتى تلك الأقطار العربية التي ترى إلى نفسها وكأنها لم تهتز ولم يعصف بها الربيع لا تخفي الاهتزازات التي تركها “التسونامي” الثوري الشامل.

 

– نصيحتك لأبنائك الشباب الثوار..؟

في حياتي كلها وفي صلتي اليومية مع أبنائي الشباب سواء في الجامعة أو خارج أسوارها لا أنصح ولأنني أتبادل الحوار مع الجميع، ومن هذا المنطلق أود أن أقول لأبنائي شباب الثورة في بلادنا خاصة ألا ييأسوا ولا يحزنوا إذا رأوا أن الظواهر الراهنة تسير باتجاه معاكس لما أرادوا وحلموا به لأن وجودهم كان وما يزال يشكل الضمانة الكبرى لتحقيق ما حلموا به وهدفوا إليه. وإن لم يتحقق ذلك اليوم فسوف يكون غدا، وأقصد به الغد القريب جدا.

 

– لو سألتك عن أولويات اليمن خلال الفترة المقبلة؟

الأولويات كثيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر إعادة الثقة إلى الشعب في نفسه وفي إمكانية قيامه بدوره في البناء والاعتماد على النفس من خلال الالتفات إلى الثورة البشرية الهائلة، إلى جانب الثروات المادية الأخرى كالثروة البحرية والثروات المعدنية والزراعية على وجه الخصوص، بالإضافة إلى تجميع الصفوف المبعثرة وإعادة الانسجام والوئام والتماسك إلى القوى التي فككتها الأحداث وشرذمتها الخلافات، وقبل ذلك وبعده حماية وحدة التراب اليمني من التشققات والانكسارات عبر الإسراع في وضع حد للأسباب التي أدت إلى مثل هذه الحال المؤسفة والمريعة. نحن وطن صغير جغرافيا عاش ما يكفي من الظلم وشهد ما يكفي من الاستبداد والحروب، وقد آن لهذا الوطن أن يستقر ويهدأ وأن يتمتع أبناؤه بقدر من الاستقرار وتحقيق الأحلام الكبيرة التي عاشت ولا تزال تعيش معه في انتظار التحقق رغم حالة التشاؤم التي تعتريني بين حين وآخر، فلدي قدر لا بأس به من التفاؤل بغد يمني واعد وجميل.

عن: الجمهورية نت

زر الذهاب إلى الأعلى