تحليلات

الانفصال الحميد، والانفصال البليد!

يمنات

“من حقِّ الإنسان أن يطلب الانفصال متى أراد، ولا شك.

أفضِّلهُ شخصيّاً على من يخضع لواقعٍ فرضتهُ عليه حربٌ (1994) وطاغية.

بَيْد أن عليه، في هذه الحالة، أن يطلبهُ بأناقةٍ على الأقل. بمشروعٍ مدنيٍّ وأهدافٍ إنسانيةٍ راقيةٍ نبيلة!”

كتبتُ هذه العبارة في سلسلة مقالاتي الأربعة حول “الوحدة، الانفصال، الفيدرالية” (1)، قبل عدة أشهر.

عن “الانفصال الحميد” (2) كتبتُ مقالاً نُشِر في “القدس العربي” و “الثوري” في مايو 2009.

لكن الانفصال الحميد الذي تحدّثتُ عنه شيءٌ، والانفصال البليد شيءٌ آخر.

الانفصالُ البليد هو انفصالٌ ذو لغةٍ قبليّةٍ عنصريّة، مهووسٌ بمفهوم “الهويّات القاتلة” لا غير، ليس له أي مشروعٍ مدنيٍّ إنسانيٍّ حديث..

يكفي مراجعةُ ودراسةُ التاريخ لِمعرفة أن أبشع جرائم وخرائب الإنسانية، أعمق وأرهب هاوياتها، بدأتْ بِلغةِ “الهويّات القاتلة”…

ثمّة شذراتٌ من روائحِ هذه اللغة العتيقة في قسَم “دمُ الجنوبيّ على الجنوبيّ حرام!” الذي تردِّدهُ المسيرات الجنوبية حتّى اليوم، والذي كتبتُ عنه العبارات التالية (1):

((شعارُهم مثلاً (وإن كان ظرفيّاً ولأسبابٍ نبيلة يوم إطلاقه): "دم الجنوبيّ على الجنوبيّ حرام!" متخلّفٌ جدّاً:

لعلّ الإسلام قد رفع سقف هذه الأخلاقيات قبل أكثر من 14 قرنٍ بعبارته الشهيرة: "دم المسلم على المسلم حرام"، قبل أن ترفع الحضارة الحديثة وأخلاقيّاتها المدنيّة ذلك السقف حتى القمة بِتحريم دم الإنسان على الإنسان، عندما بلورَتْ ذلك مفاهيم "حقوق الإنسان" ومواثيق الأمم المتحدّة التي تلتزم بها كلُّ الدول!…))

يحتوي هذا القسَم، في الحقيقة، على ثلاث كلمات تخرج عن قواميس المجتمع المدنيّ وتنتمي لعصورٍ عفى عليها الزمن:

الدّم: ذو المدلول العرقيّ القبليّ المقيت،

الجنوبي: (الذي تحدثتُ عنه طويلاً في مقال “جنوب ماذا؟” (3))،

وحرام: التي لا تنتمي للقاموس المدني الحديث.

مَن مِن شعوب ومثقفي كرتنا الأرضية، في القرن الواحد والعشرين، يمكنه أن يتعاطف مع “قضيةٍ جنوبية” تُردَّدُ في شعاراتها هذه العبارة التي لا تنتمي لِلُغة العصر؟

لِتكريسِ نزعة “الهويّات القاتلة” هناك اليوم حملةٌ مثيرةٌ صمّاء لِمحو اسم “اليمن” من الجنوب.

لا أقدِّسُ شخصيّاً هذا الاسم، أو أي اسمٍ آخر إطلاقاً، وليس لي أيّ عداء ضدّه أيضاً.

لكني أرفضُ أن يسخرَ أحدٌ من عقلي بالقولِ بأن هذا الاسم تسلّل إلى الجنوب “بسبب عناصر من الجمهورية العربية اليمنية شاركت في الحركة الوطنية ضد الانجليز في الجنوب”، كما قرأتُ ذلك في مقالٍ لكاتبٍ عزيز في “عدن الغد” البارحة (4)!…

اعتبرُ قولَهم هذا إهانةً لكلِّ عظمائنا وعمالقتنا ومفكرّينا من عبدالله باذيب وثريا منقوش وعمر الجاوي، إلى إدريس حنبلة ولطفي جعفر أمان، مروراً بعددٍ أكبرَ من أن أستطيع حصرَهُ هنا!…

أتركُ هذه العبارة التي كتبها الأستاذ عبدالله باذيب (الذي لم يتسلّل لِعدَن من الجمهورية العربية اليمنية، حسب معرفتي!) في مجلة الطليعة في 20 ديسمبر 1959، ونُشِرَت في الجزء الثاني من كتاب “مختارات”، ص 52. أي قبل 54 سنة من الآن!…

لستُ متأكّداً شخصيّاً أن من سُمّيوا “عناصر من الجمهورية العربية اليمنية” كانوا يمتلكون حينها، عندما كتب باذيب ذلك المقال، مستوى ثقافيّاً ملحوظاً، أو أن بعضهم كان قد تعلّم حينها القراءة والكتابة على الأقل!:

يقول باذيب في مقالهِ الذي عنونَهُ بـ: “دفاعاً عن الوحدة اليمنية”:

((ولأن الدعوة إلى الوحدة اليمنية تقطع أحلامهم في السيطرة والحكم، فمن أجل ذلك راحوا يطعنون بالوحدة اليمنية ويسموّنها: “غزواً متوكليّاً”، ويطلقون على الجنوب اليمني المحتل اسم: “الجنوب العربي” وهي تسمية مفتعلة فيها خداع وزيف وفيها تعميم متعمّد))

 

أترك أيضاً هذه الأبيات لأستاذي الغالي في إعدادية الشيخ عثمان، إدريس حنبلة (الذي لم يتسلّل لِعدَن هو الآخر من المملكة المتوكلية اليمنية، حسب معرفتي!) من قصيدة بعنوان: حبيبتي ي. م. ن.

 

وبي ولوعٌ بأسماء حفلتُ بها

فلم أجد غيرها في الكون أسماءُ

هويتها مذ ثوت أعماق ذاكرتي

كالدّر في صدفٍ قد شعّ لألآءُ

حبستها في جفون العين أخيلةً

وصنتها من عيون البغي إيذاءُ

 

إذن إتركوا هذا الحديث المرعوش عن الهويّات، وهذا التنظير الغريب عن “اليمننة”، الذي لا همّ لهما غير فصل البشر وخلق الحواجز النفسيّة والثقافيّة والعرقيّة بينهم، والذي يلجأ لهُ من لا يستطيعُ الحديث بلغة الحاضر والمستقبل!

لأنَّ ما ينتظرُنا في نهاية هذه اللغة الغبراء، المجنونة في بعض نصوصها أحياناً، أبشعُ من 13 يناير 1986 بكثير!…

بهذه الخطابات المُرصّعة ببلاغة “الهويّات القاتلة” والتفريق العرقيّ بين الناس، لن تكسب “القضية الجنوبية” إنساناً واحداً في هذا العالَم!..

تذكّروا أننا في القرن الواحد والعشرين، وأن الإنتماء فيه لأي مجتمعٍ مدنيٍّ هو: انتماءٌ ثقافيٌ وليس عرقيّ!…

إلهي، كم يلزمني أن أكرّر هذه الأربع كلمات ليستوعبها البعض!…

ومع ذلك، هناك عددٌ لانهائيٌّ من القضايا التي يمكن الحديث عنها بلغة العصر الحديث، لِكسب العالَم لِمناصرة “القضية الجنوبية” ولتحقيق “إنفصالٍ حميد” ربما يكون هو الحلُّ الأفضل لإخراج كلِّ اليمن من مأزقها التاريخي الحالي!

شريطةَ أن يكون حميداً فعلاً: جذوةً تحرّريةً تؤدي إلى دولةٍ تشكّلُ أنموذجاً إنسانيّاً راقياً مدنيّاً حديثاً. وليس انفصالاً بليداً يواصل دمارَها وشرذمتَها وتخلّفَها، ويُكرِّس قيادتَها على أيدي نفس الموميات الدمويّة العتيقة التي ترفض التنحّي حتى اليوم، والتي ما زالت في واجهة القضية الجنوبية، والذي تحالف بعضها مع إيران مباشرة في مغامرةٍ جديدةٍ فاشلة!..

أضع هنا نماذج من تلك القضايا التي يمكن أن يلتفَّ حولها كل البشر من أقصى اليمن إلى أقصاها، ومن أقصى أستراليا إلى أقصى أمريكا أيضاً، والتي تُبرِّرُ لوحدها أية دعوة رافضةٍ لِنظامِ الحكم الحالي في اليمن، أو داعيةٍ للانفصال عنه جزئيّاً أو كليّاً:

 

1) النموذج الأول رمزيٌّ لكنه شديدُ التعبيرية:

كان عدد مبعوثي جنوب اليمن للدراسة في فرنسا يفوقُ عدد مبعوثي شمال اليمن، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كان يصلُ فرنسا من الجنوب حوالي عشرة طلاب سنويّاً خلال ذلكما العقدَين…

لكن منذ 1994 وحتى اليوم لم يُبْعَث إلى فرنسا طالبٌ واحدٌ من جنوب اليمن، فيما يُشبِهُ الإقصاءَ العنصريّ الأبارثيديّ.

أكرّر: لم يُبعث طالبٌ واحدٌ لِفرنسا من جنوب اليمن، منذ 1994!…

2) سرد وتوثيق كل تراجيديا حرب 1994 وجعل العالَم يستوعب أنها الأول والآخر والظاهر والباطن في مآسي الجنوب، وأنها قلَبَتْ حياةَ سكّانه رأساً على عقب منذ اندلاعها وحتى اليوم.

 

(بعض المثقفين المرتبطين بـ“الثائرَين الكبيرَين” على محسن وحميد الأحمر، يتحدّثون هذه الأيام باسهاب وحيوية عن أوضاع الجنوب، دون أدنى ذكرٍ لهذه الحرب!… يشبهون في ذلك من يكتب تاريخ أوربا في النصف الأول من القرن العشرين دون الحديث عن الحربين العالميتين الأولى والثانية!).

3) تقديمُ قوائم كاملة بكلِّ من قتلهم نظامُ علي عبدالله صالح الوحشي وعصابته الكبرى (الذي كان في رأسها “حامي ثورة 11 فبراير” المجرم الكبير: علي محسن الأحمر، وأدواته التنفيذية مثل المجرم الشهير قيران وغيره!) من أبناء الجنوب، منذ بدءِ حراكِهم السلميّ الجبّار الرائع، وحتّى اليوم، مع شرح تفاصيلِ سياق كلِّ قتلٍ على حدة..

4) نشر دراسات علميّة على نطاقٍ واسع تحصر كل ما نهبه حميد الأحمر مثلاً من عشرات الملايين من الدولارات الآتية من حصةِ نفطِ شبوة، وكلُّ بقيةِ الناهبين لكلِّ ثروات وأراضي الجنوب، دون استثناء، لاسيما علي عبدالله صالح وذويه، جرّاء انتصارهم في حرب 1994، ودعوة رجال القانون (من الشمال والجنوب وخارج اليمن) لدراسة كيف يمكن استعادتها منهم بطريقة قانونيّة وبأثرٍ رجعي، وإثارة الرأيّ العام العالمي لِدَعم استعادتِها..

الأهم أيضاً: تقديم مشروع مدنيٍّ لجنوبِ يمنٍ جديد، يستندُ على إيجابيات منجزات “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”: دستورها، قانون الأسرة، وضع المرأة الحضاري المتقدِّم أثناءها، اهتمامها بالشرائح الفقيرة… ويخلو من كلِّ سلبيات تلك الجمهورية، النابعة من أيديلوجيات أنظمة “الديمقراطيات الشعبية” والنموذج السوفيتي: قمع الحريات والديمقراطية، سفك دماء المعارضين، نظامٌ اقتصاديٌّ لا يواكب العصر، نظام الحزب الواحد..

أكرِّر أخيراً: يحقُّ لِنصف الشعب اليمني (دون أدنى عقدة هنا عند الحديث عن “الشعب اليمني”، ودون الحاجة للحديث عن شعبٍ جديد، والبحث عن اسمٍ جديد!) أن يطالب بالانفصال، شريطة أن يكون “انفصالاً حميداً”، وليس “انفصالاً بليداً” تحت شعاراتٍ عرقيّة وبحثٍ عن “هويات قاتلة” قد تكون حرب 13 يناير 1986، (بالمقارنة بالنتائج الوخيمة القادمة لتلك الشعارات) مجرّد نزهةٍ سياحيّةٍ صغيرة لا غير!..

 

أقول: “لِنصف الشعب اليمني” الذي كان يمتلك دولةً مستقلّة قبل 1990، وليس لِشعبٍ جديد يبحثُ له البعضُ عن هويّةٍ وأسماء جديدة كلّ يوم (آخرها: “شعب جمهورية حضرموت”، الذي بدأ الحديث عنه هذا الأسبوع، في نفس المقالةِ السابقة في “عدَن الغد”، لنفس الكاتب العزيز! (4)).

نعم، لا نحتاج قط أن نتحدّث عن شعبين لتبرير أية رغبةٍ في الإنفصال!

لا نحتاج لأن نكتب مقالات تشرح أن هناك فرقاً بين ساكن قرية “كرِش”، وساكن قرية “الشّريجة” (الأولى في نهاية حدود “جنوب اليمن” السابق، والثانية في نهاية حدود “شمال اليمن” السابق)…

لأننا لو اخترعنا أي ميكرسكوب ثقافيٍّ أو جينيٍّ، أو أي سكانير دماغ، مهما كانت دقّتهما الإلكترونية، وبحثنا ليل نهار، فلن نجد أدنى فرقٍ باهت بين هاذين المواطنين الجائعين الطيبين جدّاً!…

لاسيما أن مثل هذه اللغة الخفيفة تُنكِّشُ سخافاتٍ موازيةً لا تقلّ تفاهة، مثل سخافات أصحاب شعار “اليمن موطن الإيمان والحكمة” الذين بدأ بعضهم يقول ما معناه (اسمحوا لي أن أسخر قليلاً!):

إذا انحذَفَ اسم اليمن من الجنوب فسينتهي “الإيمان والحكمة” في قرية الشّريجة، (حيث تنتهي حدود النصف الشمالي الحالي: “يمنستان”!)…

لِتبدأ بعدها (أي إنطلاقاً من قرية كرِش) بلادُ شعبٍ جديد، يبحث عن اسمٍ جديدٍ لبلدِه، إذا لم يحتو هذا الاسم الجديد على كلمةٍ قدَّسها الحديثُ الشريفُ واسماها “موطن الإيمان والحكمة”: “يَمَن”، (لِيكون الاسم الجديد: “يمن لاند” مثلاً!)، فلن تكون لأهل سكّان هذا البلد الجديد علاقةٌ ما بالإيمان والحكمة!…

واااااااو!…

عجبي!…

لِنتركْ لغة السخافات، ونظريات اليمننة، وأوبرا الإيمان والحكمة، ومشاريع البحث عن الهويّات القاتلة…

لِنقرأَ التاريخ (لنقرأ كثيراً، في كل الاتجاهات، أيّها الأعزاء والأحبّاء، فقادتنا لا يحبّون القراءة!)…

ولِنتحدّثْ بلغة العصر الحديث، لا غير!…

 

المراجع:

(1) هل أنت مع الوحدة، الإنفصال، أم الفيدرالية؟، حبيب عبدالرب سروري.

http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr/2012_05_01_archive.html

(2) الإنفصال الحميد وحدةٌ يمنيّة جديدة، حبيب عبدالرب سروري.

http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr/2011/05/normal-0-21-false-false-false-fr-x-none.html

(3) جنوب ماذا؟، حبيب عبدالرب سروري.

http://my-last-articles-and-texts.blogspot.fr/2012/12/blog-post.html

(4) حضرموت المفترى عليها. عدن الغد. الأستاذ أحمد عمر بن فريد.

زر الذهاب إلى الأعلى