العرض في الرئيسةفضاء حر

الدولة العربية ومآلاتها ..

يمنات

عبد الباري طاهر

عرف العرب واللغة العربية مفردة «التيامن»، وهو أن يسمى الأعمى بصيراً، والأعور فريداً، والأعرج أبو سريع، والمريض سليماً، وذلكم في جوانب تعبير عن أدب اللغة وتهذيب القائمين عليها. في مفارقة راعبة، مصطلح «دولة»، الذي كرسته الفلسفات ورمزت إليه المي�ولوجيا ودونته الأساطير واحتفت به الديانات والشرائع وكتب عنه مئات وآلاف الكتب، يعيش المرء طوال حياته وحتى مماته، بحسب ما يشير الباحث عبد الله العروي، دون أن يتساءل مرة واحدة عن مضمونه، وذلك ما يقع لأغلبية الناس. الباحث الإسلامي والأكاديمي اللبناني، رضوان السيد، يبحث في موضوع له عن الدولة العلمانية على محك التفكك عن صيغة النظام وطبيعته، ويرى أنه ضروري في نظر العالم لظهور أفكار الدولة الدينية، وتحويل دعاتها إلى إرهابيين، وللرؤية السلبية للنظام الديني الآخر القائم في إيران، مشيراً إلى أن العديد من المراقبين والمثقفين العرب قد يئسوا من الأنظمة العربية ذات الطبيعة العسكرية والأمنية؛ ولذلك تحمسوا للحركات المدنية. والواقع أن الإنقلابات العسكرية في المنطقة العربية مثلت قطعاً مع تطور النضال السياسي والمدني لإقامة الدولة المدنية والديمقراطية.

في المتوكلية اليمنية – الجمهورية العربية اليمنية، دعا حزب الأحرار، منذ مطلع أربعينات القرن الماضي، إلى «حكم إسلامي شوروي» وإلى «دستور وطني» (الميثاق المقدس)، وهو في جوهره والعديد من بنوده يدعو إلى الفصل بمستوى معين بين الزعامة الروحية للإمامة، وبين الدولة التي يجب توفر شروط لوزرائها، ومجلس شورى موزع بين معين ومنتخب. أوعلى الأقل حاول الأحرار اليمنيون الحد من قبضة الإمام على مقاليد الدنيا وأمور الآخرة مجتمعة، كما كان الحال. والمأساة أن هؤلاء الأحرار بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، تحالفوا مع شيوخ القبائل وكبار الضباط ضد شباب الثورة الأكثر صدقاً وإخلاصاً لبناء الدولة، وكانت النتيجة انتهاء حكمهم وتأثيرهم.

يؤكد الباحث رضوان على أهمية الدولة المدنية، وأن قسماً من المتدينين قد انضم إلى مطلبها، وأن البحوث في العالمين العربي والغربي في العقد الأخير قد انصبت على نقد مقولة الدولة العلمانية، والتقصد إلى تفكيكها، مشيراً إلى أن هناك من يأخذ عليها استبداديتها وإدارتها الظهر للمجتمعات، وممارسة الإرغام المنظور وغير المنظور، وتفردها بشرعية العنف من توماس هوبز وهيجل وحتى جورج أوريل (مزرعة الحيوان)، وهناك من يأخذ عليها السعي لطهرانية وصفاء عرقي، وهناك من يأخذ عليها الفساد والمرض الذي خالط الدم، ودخل إلى النخاع الشوكي. 

والحقيقة أن كل هذه الآفات التي أشار إليها باحثون غربيون في الفلسفة والأنثربولوجيا والعلوم السياسية توصيف صائب ودقيق؛ فالدولة العربية العلمانية والقومية مهووسة بالاستبداد، وحاكمها الجاهل العتل متأله ككائن خرافي، وقد تحولت القومية العربية التي كانت في منشأها لدى مؤسسيها العظام، ساطع الحصري وقسطنطين زريق وإلياس مرقص وجورج حبش وصولاً إلى ياسين الحافظ وعصمت سيف الدولة ومحمد عودة وعبد الغفور شكر، تياراً عروبياً فكرياً وسياسياً وأدبياً، على أيدي الحكام القومجيين، إلى نزعات عرقية واستعلاء قومي، أما عن فسادها فحدث ولا حرج. وكل هذه الآفات هي سبب الخراب الذي لحق بها وبأوطانها. 

الدولة العربية الحالية دولة حديثة التكون وفي أطوارها الأولى، وهي متداخلة بالقبيلة خصوصاً في الجزيرة العربية. وتكشف الأزمات التي تمر بها المنطقة أن قوة القبيلة أو العشيرة أقوى من مفهوم الدولة الذي ناقشه الباحث العروي في كتابه «مفهوم الدولة». وقد أدرك باكراً عالم الإجتماع، ابن خلدون، أن قوة القبيلة وكثرتها أحد أهم عوائق بناء الدولة. انهيار العراق وسوريا وليبيا واليمن شاهد سهولة إمكانية إعادة المنطقة كلها إلى مكوناتها الأولى. حداثة تجربة الدولة أو اختلاطها بالمكونات القبلية وما دونها، كما يحدث اليوم في دول الخليج وعموم الجزيرة، دليل الضعف والهشاشة. في مطلع تأسيس الدولة القطرية جرى الحديث المسهب عن عراقة الدولة القطرية.

النزعات القطرية الملغومة بالروح القبلية تتجلى في المبالغة المكشوفة في تاريخ كل منطقة. فالحكمة اليمانية تترفع باليمن والتاريخ، وقدمها كقدم الأكوان نفسها، وأحمد داوود في سوريا الكبرى يجعل من سوريا مركز المنطقة كلها، وهو ما يعمله السيد القمني في بعض كتاباته وكمال شيحا في لبنان. وتجري بين الحين والآخر عودة إلى الفينيقية والأشورية والبابلية والحميرية والسبئية، أو الدعوة لبعث الإمامة البائدة كحال الـج.ع.ي، أو القفز على التاريخ اليمني بتسمية مصطنعة هي «الجنوب العربي». إنها لحظات فشل مجتمعي، وانكسار سياسي، ووعي زائف، ونقص في التجربة والخبرة، والعجز عن الفعل الحقيقي. 

يدور التصارع المدمر والقاتل بين تكتلات قبلية وأسر وعوائل منقسمة ومتنافسة، وبين مناطق وجهات تتنازع النفوذ والسلطة، وعيونها على الثروة. الدولة القطرية الحديثة – رغم الشعارات الإسلامية أو القومية – كانت مدخولة، بل ملغومة بالمكونات الأولى التي بنيت بها، وجاءت منها، وظلت علائقها وحبلها السري مربوط بها؛ لذا سرعان ما يتصدع كيان الدولة الهش والضعيف، وسرعان ما تعود سيرتها الأولى. الصراع في سوريا والعراق واليمن وليبيا في جوهره رفض للربيع العربي، وللاحتجاجات المدنية التواقة لبناء دولة العصر الحديث، دولة النظام والقانون والمواطنة والديمقراطية والحداثة التي لا يمكن بناؤها بأحجار القبيلة وبالأعراف والقيم والتقاليد العتيقة التي هي في أساسها نفي للدولة.

في اليمن غير السعيد لم تبن دولة حقيقية. ففي الشمال كان الإمام يحيى، قائد الإستقلال ضداً على الأتراك، زعيماً روحياً للطائفة الزيدية، وقد فرض سلطته على مناطق الشمال التي كانت تحت سلطة الأتراك بالفتوحات كما كان يسميها. كانت الزعامة الروحية مستندة بالأساس إلى إرث دولة أجداده آل القاسم بن محمد والمتوكل على الله إسماعيل، بينما كانت المحميات الجنوبية تحت سيطرة الإستعمار البريطاني. كانت تجربة الثورة اليمنية، سبتمبر 62 والرابع عشر من أكتوبر، هي التجربة القومية الحديثة المرتبطة بروح العصر وبتياراته الثورية والقومية. الطبقة الوسطى، عماد الثورة وقوة الحداثة وصانعة التغيير في المنطقة العربية، هي التي قادت الثورات والانقلابات العسكرية.

في الجنوب، برزت الحركة النقابية العمالية والوافدة من مختلف مناطق اليمن، وكانت القوة المدنية الأساسية التي شكلت منها الأحزاب السياسية الحديثة، وقادت الإحتجاجات المدنية والنضالات المطلبية. ونشأت الصحافة العدنية، الرئة النقية التي تبنت التجديد الأدبي في مجال الشعر الحديث والقصة والرواية والنقد الأدبي والنص المسرحي، ومختلف الفنون والآداب، والمقالة السياسية، وتشكيل وعي قوي مكافح ضد الإستبداد ومقاوم ضد الإستعمار. بمجرد انهيار الثورة اليمنية، وتواري ثورة الربيع العربي، وسيطرة قوى القبيلة والبداوة في اليمن شمالاً وجنوباً، برزت تلقائياً قيم القبيلة والبداوة بقيمها وتقاليدها الصراعية والثأرية، وطبيعة تقاتلها الأبدي والدائم.

ألا لا يجهلن أحد علينا… فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وننكر إن شئنا على الناس قولهم… ولا ينكرون القول حين نقول
ونحن أناس لا توسط بيننا… لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وأحيانا على بكر أخينا… إذا لم نجد إلا أخانا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً…. ويشرب غيرنا كدراً وطيناً

هذه المعاني والقيم الجاهلية هي العملة المتداولة والأعراف السائدة في حياتنا اليمنية والعربية بعامة، والمنطقة العربية صدى باهت للصراع الدولي، حكامها يتشاركون ويمولون الحرب على بلدانهم، ويعاد الآن الإعتبار لرموز النظام القديم الذين انتفضت شعوب الأمة ضدهم، ويتسابقون على تدمير ما تبقى من إمكانات عربية بخلافاتهم وصراعاتهم الفاضحة.

ربما كان أنموذج الصراع اليمني والاحتراب هو الأكثر فجائعية وغرائبية؛ فلم تعد الحرب بين الخصوم السياسيين والأعداء المتقاتلين، وإنما تمتد إلى المحاصرين (حالة تعز مثلاً)، والمتحالفين أو من يقفون في جبهة واحدة ضد جبهة أو جبهات أخرى. فالشرعية والحراك المسلح مثلاً يتواجهون ضد الإنقلابيين: صالح و«أنصار الله»، وفي نفس الوقت ضد بعضهما حد النفي والإلغاء، والحراك المسلح في مواجهات في الجنوب مع الأطراف الأخرى، والأكثر رعباً وغرائبية المواجهات بين صالح و«أنصار الله».

هذان الحليفان بالإكراه وبحكم الضرورة يواجهان التحالف العشري بقيادة السعودية والإمارات العربية المتحدة، وفي غمرة القتال يتبادلان التهم بنهب مرتبات الموظفين، ونهب المال العام، ويتهدد كل طرف منهما الآخر. والداعمون للحرب في العراق وسوريا وليبيا واليمن يتصارعون أيضاً في ما بينهم، ولا نستبعد في أي لحظة أن نجد الكل ضد الكل في الوطن العربي كله، كنهاية أنظمة حكم بمختلف مسمياتها ومضامين وأشكال حكمها.

المصدر: العربي

زر الذهاب إلى الأعلى