العرض في الرئيسةفضاء حر

قلوب كبيرة في المنفى

يمنات

فتحي بن لزرق

كانت الساعة العاشرة مساء حينما وقف رجل في العقد السادس من عمره وسط الشارع العام بحي الدقي بالعاصمة المصرية القاهرة، يسير بخطى متثاقلة يجر خلفه امرأة في عقدها الرابع أو الخامس .

بدت مظاهره يمنية وهو يحث الخطى سائرا في طريقه حاملا ملف طبي .

وقف على ناصية الشارع ملوحا بيده للسيارات المارة حينما اقتربت منه ومددت يدي مصافحا عقب ان ألقيت التحية عليه.

– بادرني بعد تفرس سريع لملامحي قائلا :” يمني؟
هززت رأسي قائلا :” نعم يمني ياحاج؟
– من وين ؟
-من عدن 
-حياك الله وحيا أهل عدن .. 
قبض على يدي بحرارة …وقال :” كيفكم وكيف عدن؟
– قلت له :” الحمدلله على كل حال حالها كحال كل اليمن ..ليست بخير لكنها ستكون كذلك.
لم يفلت الرجل يده من يدي وكأنه يعرفني من زمن.
قلت :” من وين ياحاج؟
التفت ناحيتي وأشاح بنظرة أخرى صوب امرأته التي كانت تتبعنا وقال :” من صنعاء”دحباشي” على قولتكم..
ضحكت وضحك ..

بدأنا نسير على طول طريق واصلة صوب شارع التحرير وسط مصر.
كانت خطاه مثقلة عرفت منه انه قدم إلى مصر قبل شهر للعلاج برفقة زوجته .
حدثني عن متاعبه واماله وسألني ان كنت احتاج شيء وكرر والح .
لم أكن اعرفه ولم يكن يعرفني توادعنا بعد مسير قصير تبادلنا الأرقام وتواعدنا على لقاء قريب ، لم أكن اعرفه ولم يكن يعرفني لكن ثمة رابط جمع بنا هنا ومحبة التقت عليها قلوبنا في بلاد “الغربة”.

في مصر ثمة قصة يمنية يجب ان تحكى وهي قصة “اليمنيون” الذي يخافون على بعضهم دون ان يعرفوا بعضهم.

“أبو اليمن” هو الشعار السائد الذي ينادي به المصريون كل يمني أول مايرونه من بعيد مقبلا عليهم ، والمصريون لايميزون بين يمني وأخر وودت لو اعرف السر الذي يعرفونا به ويميزونا عن غيرنا بواسطته.

دائما مايقولون : أنت يمني اجدع ناس واصل العرب ..
في مقاهي مصر العتيقة يتوزع يمنيون كثر يحكون كل مساء حكاية الوطن الضائع وأمل العودة الذي يراودهم جميعا ..

على ضفاف النيل وبشوارع مصر ترى يمنيون كثر يسيرون يحملون هم الوطن الذي أضاعه الساسة وأضاعونا .

وفي طابور طويل بالمجمع الحكومي وسط القاهرة تجد العشرات من اليمنيين كل صباح يرتصون إلى جانب جنسيات عربية كثيرة بينها ليبية وسورية حاملين نفس الهم ونفس الأمل ونفس الوجع يتمنون نهاية لهذه المحنة .

وفي مصر توجد الآلاف من المطاعم العالمية لكن اليمني يطوف بلدان العالم اجمع لكنه لايشعر بلذة الأكل إلا وسط مخبازة يتعالى فيها الصراخ وتتداخل أصوات نار المواقد مع صيحات النادلين .

واحد دبل و2 شاي ونفر فاصوليا مع البيض (ترنيمة يعشقها اليمنيون حد “الثمالة”)

واليمني في مصر قلبه على اليمني الأخر ولا احد هنا يسأل أخاه اليمني ان كان حوثيا أو مؤتمريا أو إصلاحيا أو اشتراكيا أو حراكيا ..

يكفي ان يسألك :” يمني؟ ويمني هذه تكفي لكي يحبك من النظرة الأولى ..
تهز رأسك بالإجابة ..
فيأتي الرد سريعا :” ناقصكم شيء؟ محتاجين شيء ؟

ترد عليه شاكرا فيخرج محفظته وينزع منها بعض أوراق مالية عارضا عليك أخذها وهو لايعرف من أنت وكل مايعرفه هو انك “يمني”.

“اليمني” شهم وأصيل رمته الأقدار في غير محله وأثخنت الجراح جسده الهزيل .

يملك “اليمنيون” في مصر سمعة هي الأجمل بين كل الجاليات الأخرى فاليمني ليس بالنصاب وليس بصاحب السمعة السيئة وليس له من السوء شيء.

قلت لأحد أصدقائي المصريين الذي أشاد بسمعة اليمنيين :” لو تعرف الشعب اليمني عن قرب، رغم فقره وحاجته وظروفه الصعبة إلا انه شعب كريم ،أصيل أخلاقه كبيرة كبيرة كبيرة جدا.

في القاهرة وطن يمني “أخر”، يعاني ويتمنى العودة ،وجوه متعددة بين أدباء وكتاب وصحفيين ونشطاء ومرضى وهاربين بحثا عن الأمن والكل لايحلم إلا بالعودة .

ثمة حلم يتشارك فيه كافة اليمنيين في مصر وغيرها وهي ان تنتهي الحرب ويعودوا على متن طائرة واحدة تحط بهم في صنعاء وعدن وسيئون وسقطرى وكل مدينة يمنية ..

في عيون كثيرة رأيت شوقا لعدن وشوقا لصنعاء وأخر للحديدة وللوطن كل الوطن ..

ثمة رواية يجب ان تحكى عن “يمنيين” لا صلة لهم بكل هذا العبث السائد وهذه الحرب وكل هذا الدمار .

قلت لأحد أصدقائي وانا أرى كل هذه المشاعر الفياضة :” ما الذي سيحدث لو إننا أحببنا بعضنا هكذا في عدن وصنعاء وتعز وحضرموت ومأرب .

ما الذي سيحدث لو إننا توقفنا عن ظلم بعضنا وسادتنا نفس المشاعر التي نكنها لبعضنا في الغربة ..

سألت نفسي كثيرا هذا السؤال فلم أجد له إجابة..

من حائط الكاتب على الفيسبوك

زر الذهاب إلى الأعلى