العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة (31) .. يوم أهداني أبي ساعة صليب

يمنات

أحمد سيف حاشد

كان ذلك اليوم بالنسبة لي يوما استثنائيا فريدا لا يشبهه أي يوم من أيام حياتي التي خلت وأجفلت..
 
كانت فرحتي كبيرة وكثيرة .. أكبر وأكثر من فرحة راهب ظفر بالجنة يوم القيامة، والتي لطالما حلم بها، وعمل من أجلها طيلة حياته، وعاش في دنياه ضنك الحال، وشظف العيش، وضيق اليد، وأنكر حقه في الاستمتاع والرفاه..
 
يا إلهي .. أبي يهديني ساعته الصليب السويسرية، بعد أن أهداه صهره القادم من “إنجلترا” ساعة اسمها “أورنت”.. كان وقع الهدية في النفس وقع الدهشة، وأثرها في الذاكرة يظل حيا لا يزول..
 
بين ساعة أبي وساعتي التي أهداها لي طفره تكنلوجية.. ساعتي تعمل يدويا بتدوير كمانها حتى يستغرق كل دورانه، فتركض وتدور عقاربها دون توقف يوما وليلة، فيما ساعة أبي تعتمد على حركة اليد والنبض، أو كما كان يقول أبي: “تمشي على الدم” وهو أمر لطالما كان يحيرني ويثير تساؤلاتي!!
 
يا إلهي.. أنا المعجون بالحرمان والوهم وخواء التمني.. أنا الطفل الذي تمنى يوما ساعة ميته من الورق والبلاستيك، ولم يطال ما تمنى.. تمنى كذبة تقارب واقعه، فحصد من واقعة مرارة وحسرة.. فعوض تمنيه برسم ساعة على معصمه، واكتفاء ليصنع سعادته من وهم وزيف..
 
يا إلهي.. وجدت ما هو أكثر من الحلم والتمني.. كانت ساعة الصليب في عمري ذاك، وفي ذاك الزمان، ليس حلم بعيد المنال، بل هي من أحلام المستحيل.. تأتي بها صدفة عجيبة لا تتكرر مرة في الالف.. شيء لا يصدق.. مفاجأة فرح مهول لا يحتملها قلبي الصغير.. تحول قلبي إلى صرة فرح يطير.. إلى منطاد ملون يحلِّق في البعيد.. يصعد للسماء بزهو أخاذ وانتشاء منقطع النظير..
 
أنقصتُ من طول سلسها الفضي أكثر من نصفه لتمسك جيدا على معصمي المنهك والنحيل.. كنت أرى الكون كله معلقا في يدي.. يا إلهي.. كانت الفرحة لا تسعني، ولا تفارق عيني معصمي..
 
ليلتها لم أنام.. كنت ألتذ بها تارة كعاشق وأخرى كعريس.. أحتسي السعادة حتى الثمالة.. لم أشعر أن الحياة جميلة كذلك اليوم.. كانت عقاربها الفسفورية الخضراء تضيء في الظلام كجوهرة وتأسر العيون.. كانت جاذبة وأخاذه.. كانت تأخذني من معصمي بعلمي وحلمي إلى تخوم الكون وما بين النجوم..
 
كان صوتها يحييني ويشجيني.. يشعرني بسعادة غامرة لا حد لها ولا مدى.. كان صوتها يسري في رأسي كنشوة فارس منتصر على جيش عرمرم.. كان صوتها يشبه نبض جنين في بطن أمه.. كقيثارة فنان غجري يستعرض ابداعه أمام من يحب.. كنت مثل عاشق بلغ فيه العشق ذروته.. كنت اسمعها وأسمع خفقات قلبي، وأنا المتيم في حبها والمبهور بها حد الدهشة والذهول..
 
كيف لي أن أنام والسعادة تجرف النوم من عيوني المستمتعة بلون عقاربها الفسفوري الأخضر؟!! كيف أنام وخفقات قلبي تتداخل وتتماهى مع صوت نبضها الآسر، كمعزوفة نادرة لا تشبهها في الكون معزوفة أو وجود..
 
تقلبني الفرحة على فراشي يمنا ويسرى، وأنا استمتع بلونها الفسفوري كعاشق ولهان حين يلقي حبيبته في غلس الليل ودياجي العاشقين.. اتابع سحر عقاربها في الجريان كمن يتابع عشيقته في ضفاف النهر.. كل لحظة أسألها عن الوقت الذي يستغرقني حد التيه.. اجعل من الليل محطات ومواقف، وأسألها في كل فنية وأخرى عما بلغه الليل من مدى نحو الصباح الجلي.. لم أسمح للنوم ليلتها أن يأخذ مني فرحتي إلا غفوة قرب الصباح.. وكانت غفوة ناعمة وحالمة، تشبه غفوة نبي على أرجوحة سماوية بين الأكوان..
 
وفي الصباح استعجلت النهوض.. كنت أشبه الصباح والضياء، وأنا أرى العجب العجاب يحيط بمعصمي.. كنت أشعر أنني قد صرت مركز الكون وأن الكون كله يزف فرحتي..
 
تلك الفرحة النادرة غفرت لأبي سنوات قساوته الأولى، وجعلتني أشعر أن الحياة فيها ما يستحق البقاء، بل الفرح الكبير..
 
وفيما أنا اليوم أتخيل تلك الفرحة العريضة؛ أسأل بأثر رجعي: كم ستكون فرحتي في تلك الأيام لو كان أبي أهدا لي جهاز “إيباد” أو “لابتوب” أو تلفون مطور؟!! لو حدث هذا زمن أبي لكنت من يومها إلى اليوم عالقا في فرحتي دون ملل أو انقطاع أو فكاك..
زر الذهاب إلى الأعلى