العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة.. (32) .. “امي” الحكواتي .. وذكر الله والملكين في خزيي

يمنات

أحمد سيف حاشد

الاهداء إلى روح أمي في عيدها (عيد الأم)

كانت أمي تحكي لنا ـ أنا وأخوتي ـ الحكايات الآسرة .. كنّا وهي تحكي نتابع سردها كلمة بكلمة، منقادين بعد حديثها كمسحورين .. مشدودين إليها بدون وثاق .. وفي كل حبكة ومنعطف في الحكاية يتطلع شغفنا لمعرفة المزيد، حتى تصل في سرد الحكاية إلى محطتها الأخيرة، ونهايتها المرجوة..

كان تعلُّقنا لا ينفك من حديثها قبل أن تضع الحكاية نهايتها السعيدة، والذي ينتصر فيها الحق على الباطل، والعدل على الظلم، ويغلب الخير الشر في انتصار بهيج ومفرح، بعد كر وفر ومغالبة تستحق المتابعة..

كان وجداننا مرهفا، وعقولنا طرية، ومُستقبلات وعينا حساسة ولاقطة، وكانت تلك الحكايات تجعل الخير زاهاي وأخاذ، فتنميه في وجداننا، وتدعونا للانحياز له، وتحثنا على فعله، ومن جانب آخر تنمّي كراهيتنا ضد الظلم والباطل والشر، وتحثنا على مقاومته .. كانت تهذّب أخلافنا وترعيها .. تنمّي عواطفنا وسويتنا .. كانت تؤنسنّا و تنمي مشاعرنا الجميلة وأحاسيسنا المرهفة.

ما تحكيه كان جاذبا لنا، ومؤثرا في وجداننا، ووقعه بالغا في النفوس .. كانت تنبش حكاياتها من التراث المتداول و الوعي الشعبي المنقول و المتناقل شفاهة..

من الحكايات التي روتها لنا قبل ما يقارب الخمسين عام، في مساءاتنا وليالينا الدامسات والمقمرات: الحميد بن منصور و عبد الرحيم و حمامة المراميد و العجوز الكاهنة و “الجرجوف”  و الذئبة و أبو نواس و السبعة الإخوان و جد النويحة..

كنّا ننصت ونتسمر أمامها وهي تحكي، وكأنها بوذا ونحن تلاميذه .. كنت غالبا أعيش المشهد الذي تحكيه، أتقمص في نفسي شخصية أحد أبطاله .. أعيش دورا في المشهد بكل انفعالاته .. كنت أتابعها كما يتابع الجدول مجراه .. أتوق للنهاية لترتاح نفسي، وابتهج، وأنام بعدها بهدوء وسكينة..

كانت تتسلل الدموع من عيوني، وتسيح بصمت على خدودي، ويَعلق بعضها في شفتي، أشعر بسخونتها واطعم ملوحتها، وكان لليل فضيلته؛ لأنه يسترها ويواريها عن أمي وأخوتي، كما كان لأسلوب أمي السردي الجاذب فضله الآخر، حيث كان يشد انتباه أخوتي بحيث تمنع تطفلهم على عيوني ودموعي وانفعالاتي المكبوحة..

تفاجأت بعدها في شبابي أن معظمها مدون في كتاب حكايات وأساطير يمانية للكاتب علي محمد عبده، وعند المقارنة وجدت في حكاية أمي بعض الزيادات والإضافات، لربما أضافها بعض من خيالها، أو أضافها خيال من تلقت عنه قبلها..

كما كانت تحدثنا عن الله ومحمد وعلي والملائكة، وكلما تلقته من أبوها الزاهد، الذي كان مولعا بقراءة القرآن .. كان يحدثها عن قصص القرآن وبعض تعاليمه وتفسيراته .. كانت تستهويني قصة مريم العذراء وابنها عيسى، ومعجزات هذا النبي الذي علقت سيرته وقصته في ذهني مؤثرة إلى اليوم..

وكانت تحذرنا كثيرا من شرب الخمر، وتشن عليه وعلى شاربه وحامله وبايعه حملة غاضبة أكثر من غضب الرب..

كانت تحدثنا أن الرب يرانا أينما كنّا، وأن لكل منا ملكين في اليمين والشمال، أحداهما في اليسار يكتب السيئات، والآخر في اليمين يكتب الحسنات .. كنت أكثر ما أذكر هذا في خلوتي بالحمام، وظل هذا الأمر عالقا في ذهني، شديد الحضور في خلواتي استمر لسنوات، حتى بعد البلوغ..

تذكرت هذا وأنا أقرأ رواية الخلود لـ”ميلان كونديرا” و فيها أن الأم المؤمنة كانت تحث ابنتها على قلع بعض العادات التي التصقت بها حيث كانت الأم تقول لابنتها: “الرب يراك” آملة بذلك أن تنتزع منها عادة الكذب، وعادة قضم الأظافر، وإدخال أصابعها في خياشيمها، فيما حدث العكس، وهو الذي كان يحصل. لم تكن تتخيل الرب تحديدا، إلا في هذه اللحظات التي كانت تمارس فيها عادتها السيئة، أو في لحظات خزيها..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى