فضاء حر

هوامش وجع..! (32)

يمنات

ضياف البراق

في السجن، أنت شيءٌ، والعالم شيء، ولا أحد منكما يشبه الآخر. هكذا يحدث لك أن تموتَ بغزارة. 

ذلك ما عشته بنفسي، منذُ سنوات ظلاميّة قليلة، وما أسعدني الآن! لقد نجوتُ من تفاصيل كثيرة كادت تسحقني حتى الرماد إلا أن الحظ اللعين، أنقذني، بالمصادفة، هذه المرة. 

يحدث أن تجد السعادة في هذا السجن أو في ذاك، ولا غرابة من هذا القبيل! السعادة لا يعرفها إلا الذين تقطعت بهم السُبُل مرارًا، وخانتْهم الأحلام الكبيرة، مرات عدّة، لكنهم لم يستسلموا، لم يسقطوا، ولم يهيموا على وجوههم. هؤلاء أنبياء، لأن قلوبهم لا تعرف حدود. والسعادة تتحقق – فقط – للذين عرفوا كيف يحترمون أنفسهم، فذاقوا مرارات الفراغ، وعاشوا الموت بكل تفاصيله وأهدافه ولم يموتوا. أن تكونَ سعيدًا، يعني: أن تكون صادقًا مع تلك القضايا الحُرّة، العادلة، التي تنتمي للإنسانية، وبمعنى أدق: أن تكون مخلصًا لها.

ليس من الصعب أن تكون إنسانًا، ببساطة يكفيك أن تكون حرًا وترفض القُبح بأشكاله جميعًا، وهذا أمرٌ خطير، خطير جدًا. لطيف للغاية هذا العالَم! لطيف لأنه حين تناضل وتتعب من أجله، ستجده يضطهدك بغباوة فائقة، يسلبك كل حياتك بجنون، يهزأ بك ويسخر منك بكل تفاهة. إنه لا يحترمك مهما فعلت، لكن عليك ألا تأخذ بهذا المبرر الطبيعي، فأنت لو أخذتَ به، ستكون قد أعلنتَ نهايتك الرخيصة، بصورة صريحة.

حذارِ من البراغماتية الضيقة، ومن تلك التأويلات المثقوبة، والمسائل الصغيرة؛ لأنها ستدفعك، بالضرورة، إلى خيانة شرفكَ كإنسان، ثم نحو التخلي عن هدفك التحرري العظيم. إنه عالَمٌ مظلوم جدًا، مليء بالقُسَاة، والجبناء، والجهلة، والضعفاء فحسب؛ فليس فيه قيمة بسيطة للورد أو متسع حقيقي للمعاني الجميلة، ولا حتى معنى إنساني للضوء. ومن هذا المنطلق، يلزمنا أن نقفَ موقفَ الضمير الحق، مع هؤلاء البؤساء، حتى ننجو من شرورهم ومن شرورنا – نحن. إن أيّ تصادم عدائي معهم، سيدمِّر الحياة التي ننشدها على نحوٍ عقلاني عادل، ولن ننجو.

الموتُ الأقسى، بل كل الموت، أن تكتبَ ذكرياتك التي عشتها بنفسك وسط أربعة جدران، وفي عُمْقِ الحنين الموغل في الوحشة. جرّب أن تفعل!

في السجن، بإمكانك أن تكون قصيدة مطولة، أو مقطوعة موسيقية خالصة، أو دمعة تلقائية لا تنتهي، لكن ليس بإمكانك أن تكون حرًا أو صديقًا للضوء أو للأمل. هناك، أكيد ستعرف معنى آخر للحقيقة التي لطالما ظللتَ تبحث عنها في المكتبات وفي الناس، والآفاق، ولم تجدها. هناك، أيضًا، كل شيء يذبحك ويخذلك: الحب، الجدران، الجوع، الذين يشاركوك الموت، مسئول العِقاب الحقير، حتى الذاكرة لا تقوى عليك.

السجن، واحدة من الفرص الجميلة في الحياة، التي يمكنك من خلالها أن تنال الكثير من المعرفة، وتعرف نهاية العالََم وكذا نهايتك وتفاصيلها. السجن، شيءٌ جميل بحق، رغم قسوته الجهنمية، لقد عرفتُ فيه معنى “الحرية” وقيمتها الإنسانية العالية، بل عرفتُ المعنى الثوري الذي لم أكن أعرفه قبل ذلك. السجن طريق آخر للحب، والكتابة والتصوف. في السجن أصبحتُ متصوفًا. ما أجمل التصوف الحر! والتصوف، كما يبدو لي، يعني: فنُ الحياة. جميل وعظيم أن تصبح متصوفًا وتقضي عمرك في هذا النطاق النوراني الواسع.

وقد كان من حسن حظي أن أحد الرفاق عرّفني، في السجن، على قائمة طويلة من العظماء والفلاسفة، وقد كان من ضمنهم، ماركس، وهيغل، وتولستوي، وفولتير، والكائن المجنون”فريدريك نيتشه: هذا الملعون، الذي يشطح بحرارة، ويقول “لا يشرفني أن أعبد إلهًا يريد التمجيد لنفسه طوال الوقت”. هذا لا يهمني طبعًا.

نيتشه هذا، لا يكره، لا يخاف من شيء، ولا يحارب سوى القيود والظلام. كما يشطح في زاوية أخرى “يرفع الفن رأسه حين تتراخى العقائد”. وهذا صحيح بالفعل. نيتشه، لم يكن عاقلًا يا سادة! لم يكن امتدادًا لأحد، لقد كان كما شاء هو. 

في الحقيقة، يزعجني الفكر النيتشوي للغاية، ذلك لأنه علمني كيف أنهض، وأتحرّك، وأمضي نحو الأمام، وهذا شيء مزعج. من طبيعة الكائن البشري أنه يخون الجميل حتمًا، أو يكسر اليد التي جاءت لتساعده، ويحدث هذا في بداية المطاف أو في نهايته.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى