العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة (45) .. قصتي مع القات

يمنات

أحمد سيف حاشد

(4)

فاجئني زميلي صالح عبدالله “الشرعية”، وكان رئيسا للنيابة العسكرية في المنطقة الشرقية بزيارة مباغته بغرض المقيل معي.. كنت يومها أقيم في منزل واقع بين شارع مزدا ومعسكر الصيانة.. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة بعد العصر.. هرعت مسرعا إلى رأس شارع مزداء لأشتري قات، غير أن القات كان قد نفذ، والبائعون كانوا قد غادروا المكان، إلا واحدا خلته بائع قات، فيما اكتشفت بعد يومين إنه مجنونا.

شاهدت أمام الرجل القاعد في مكان البائعين كيسا بلاستيكيا كبيرا محشوا بأوراق القات وأشياء أخرى اكتشفتها عند المقيل.. اتجهت نحوه وقد أحسست أنني لن أعود من السوق بخيبتي مكسورا، بل شعرت أن لي في الحظ بقية..

قعدت أمامه وقلت له : بكم هذا القات؟!
فأجاب: بسبعين..

لم أفكر بمساومته.. السعر استثنائي بكل المقاييس.. والقات في تلك الساعة المتأخرة لا يوجد عند رجل آخر غيره.. شعرت إن الرجل أنقذني من إحراج صديقي، وجنبني مقاسمة قات ضيفي، وأخرجني من ورطة العودة بخفي حنين.. أحسست بالامتنان للرجل.. أعطيته مائة ريال.. واستدركت بالقول: الباقي على شأنك..

أجفلت عن البائع راضيا.. لم أكن أعلم أنه مجنونا، وأن كيس القات الذي أمامه، إنما هو نفايات قات لا يُشترى ولا يُمضغ، وغير صالح لأي استخدام آدمي.. أوراق قات متهالكة ومعذبة، وبعضها قاسية وعنيدة، لفلفها الرجل من أرض المقوت، وبعض الأوراق مرت عليه الأقدام والأحذية.. حشاها في الكيس، وخزن منه، وجلب له الحظ رجل طيب مثلي..

بدأنا مقيلنا أنا وزميلي.. لفت كبر الكيس نظر الزميل، ولكنه أحجم عن الفضول أو السؤال.. بدأت بإخراج بعض أوراق القات من الكيس.. كانت أوراق مفلطحة.. بعضها مهترئ، وبعضها قاسي وسميك ومتسخ.. كنت أضع الورقة على فخضي، وأمسحها براحة يدي، ثم أعطفها أربعا أو خمسا، قبل أن أحشيها في فمي.. أول مرة أشعر إن ذلك القات يستقر في فمي وقت أطول، قبل أن يغادر إلى بلعومي ومعدتي..

ذكرني مشهد ما أفعله، برجل في طور الباحة كان معه جمل، كان الرجل يقوم بتعطيف أورق شجر الموز وأحيانا زرع ذو أوراق عريضة، حتى يصيرها بشكل عصبة صغيرة، ثم يحشيها في فم الجمل.. نعم إنه شبه مع الفارق.. والفارق أنني كنت أعتمد على نفسي، فأنا من يعطف الورق وأحشيها في فمي، دون مساعدة أحد..

صديقي بدأ يلحظ أن ما أفعله غير طبيعي، وبدأ يشعر بحالة صراع داخلي مع فضوله، وإحراج اللحظة، فيما كنت أنا أتصرف على نحو بارد وغير مبالي، ولا تبدو هناك أمام نفسي أي دهشة..

وجدت في الكيس ربلات، ومرابط ، وغطاء متهتك ومدعوس لقنينة “شملان” .. وكنت ما أجده أرميه على الأرض، واستأنفت التخزين، فيما كان صديقي يعاني، ولم يعد يستطيع أن يتمالك أعصابه، أو يمنع فضوله من التدخل والسؤال.. ويبدو أن أكثر ما كان يستفزه شكل أوراق القات، وطريقتي في التخزين، وهدوئي، وطريقة تنظيفي لأوراق القات، وتعطيفها، قبل أن أحشيها فمي..

نطق فضول صديقي سائلا باستغراب: بكم اشتريت القات؟!!
فأجبته : هو طلب سبعين ريال وأنا أعطيته مائة ريال.. ما كان باقي قات في المقوت إلا عنده.. سعر القات عرطة..

لم يتحمل صديقي مزيدا من الإطراء على بايع القات، وخطف من أمامي كيس القات، وأخذ يفتش في داخله بيده وأصابعه.. ويخرج أشياء ومخلفات، وفي كل مرة يخرج شيئا من الكيس يقول : الله الله الله الله ويرمي به، ثم رمى بالكيس كله، إلى أمام باب الغرفة، وهو يقول: ما باقي إلا حنشان.. ثم قسم قاته، وحلف يمين أن لا أخزن إلا من قاته..

بعد يومين مررت أنا وصديقي أمام المقوت، وما أن شاهدت الرجل صرخت وشهقت: هذا الذي باع لي القات.. هذا الذي باع لي القات
فرد صديقي: هذا مجنون !! ما شفت القراطيس الذي فوق رأسه!!
أجبت: أصلا أنا ما كنت مركز على رأس الرجال.. أنا كنت مركز على القات..
فانطلقت قهقهتنا كأصوات رشاش في الشارع استرعت انتباه المارة.. ألتفت البعض إلى مصدر الصوت مستغربا ، ومنهم من توقف لبرهة..

من حائط الكاتب على الفيسبوك

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى