العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة .. قصتي مع القات (1 – 15)

يمنات

أحمد سيف حاشد

(1)

البداية قات ونوم

لم أدخل عالم القات إلا في فترة متأخرة نسبيا.. المرة الأولى التي تعاطيتُ فيها القات كانت في امتحان سنة ثالثة أو رابعة جامعة.. كانت هي المرة الأولى التي حاولت فيها أن أستعين بصديق اسمه القات في مواجهة النوم والشرود أثناء مذاكرتي الامتحانية؛ غير أنه خذلني وخيب رجائي، وشعرت أنه لم يستسغني، وأن لا مزاج له بي، ولم يدخل هو أيضا في مزاجي.. كنت يومها أعاني سهر امتحاني مرهق من اليوم الذي قبله..

يومها كان زملائي الذين أعتدت المذاكرة معهم أو مع أحد منهم، قد تمردوا عليّ، ربما لأنانيتي المفرطة في طريقة المذاكرة، التي استبدُ بها عليهم، وأستحوذ فيها على مجريات القراءة والنقاش.. فتركوني في قترة امتحان فارقة، ربما لأنهم لا يقوون فيها على تحمل تبعات ومشقة مجاملتي التي تعودوها معي في بعض الأحيان..

خالتي التي كنت ألوذ بها لتستمع لي وأنا أقرأ، صارت تملّني، وتكسر همة القراءة لدي قبل أن أشرع فيها.. كانت تدخل في نعاس غالب، بمجرد أن أقرأ أول سطرين من الموضوع، تصيبني الخيبة وأنا أرغمها عنوة على الاستماع، وربما باكراه غير معلن.. لم يعد الشاهي والجوز الذي كانت تفضّله كافيا لحشد يقظتها ومقاومتها لنعاسها الغزير، ومللها الطافح من وهلته الأولى، ومن أول سطر أقرأه على مسامعها.

حاولت أعتمد على نفسي هذه المرة لأقرأ وحدي وبمفردي.. كنت كلما حاولت أن أقرأ شيئا من دروس مساق الامتحان المقبل، فيمر النعاس على عيوني لذيذا وناعما، متروع بالمتعة والسحر، ومعبرا عن مدى شغفي وحاجتي له، ثم تمطرني اللحظة بالنوم الغزير والعميق..

أحاول التركيز فأشرد إلى مكان بعيد، ولا أعود منه إلا نائم بعمق، أو مجفلا بحمل من النوم الثقيل.. أصحوا من عمق النوم، وأفزع وجودي بتذكير نفسي بامتحان يوم السبت، ولكن لا تستمر يقظتي بعض دقائق، حتى يداهمني النعاس والنوم العميق كرّة أخرى..

انتفضت من عمق نومي متمردا على حاجتي له، وهرولت بانفعال وعجل ـ كمن يحمل ثارا ضده ـ إلى سوق القات في المعلا، وكان يوم خميس، اشتريت قاتي من أول بايع في السوق دون مراجلة، ودون أن تكون لدي أي معرفة أو أبجديات خبرة بالقات و أنواعه أو حتى أسماءه، فضلا عن جهلي بكل تفاصيله.. كلما في الأمر أنني أردت أن أستعين بالقات من أجل أن يعينني على اليقظة والقدرة على الصمود في مواجهة النوم.

عدت إلى البيت.. اتكأت على مسند، لا أذكر هل كان مضغوطا أو محشوا بنشارة الخشب!! أمرت بطلب الشاي .. بدأت بالتخزين، وشرب الشاي المترع بالجوز والنعناع.. شعرت لبرهة بالسلطنة والفخامة، فتحت الموضوع لأقرأ وأستذكر.. وجدت نفسي أكثر شرودا وشتاتا في التفكير من قبل.. وجدت شرودي يلاحقني بزحام الوسوسة.. في اللحظة نفسها لعنت الوسوسة ونعتها بـ”بنت الكلب”.. صرت أقرأ دون أن أفقه شيئا، وكنت في كل دقيقة أحاول أن استجمع قواي العقلية، أو أستعيد بعض عقلي الشارد في مكان بعيد، أو ألملم ذهني المشتت من بُعد قصي، فأفشل فشلا ذريعا، وتصيبني الخيبة والفشل، ويتسرب إلى نفسي بعض الاكتئاب..

ظننت أن القراءة تحتاج مني في مقيلي هذا وقت أطول من الانتظار ليكون التركيز والاستيعاب على نحو أفضل.. تعاطيتُ المزيد من القات؛ وغالبتُ مرارته، وحاولت أحشي بجمتي بأوراقه العريضة، ولكن كنت كلما حشيت فمي بالقات ومضغته، لا يستقر في بجمتي، بل يذهب سريعا إلى بلعومي ومعدتي.. شعرت أنني صرت أشبه بحيوان يعتلف.. و بعد أن خسفت بثلثين القات إلى بطني، شعرت أنني لم أفشل في القراءة فقط، بل فشلت أيضا في تكوير بجمتي.

أمضيت ساعتين في القراءة دون أن أفقه شيئا مما أقرأ .. امكث في الصفحة الواحدة وقتا أطول يصل أضعاف الوقت المعتاد.. أعيد قراءة الصفحة مرتين، وما أن أحاول أن أستمع لنفسي؛ أكتشف أنني مشوش الذهن ومضطرب الشعور والفكرة.. اكتشفت خيبتي، وأنه لم يعلق في ذهني شيئا مما قرأته يستحق الانتشاء أو الذِكر..

وقبل نهاية اعتلاف ما بقي من قات، بديت أشعر أنني شبعت، وأن معدتي صارت ممتلئة بالقات، وأنني فشلت في تكوير بجمتي، كما فشلت في استيعاب أي شيء مما قرأته..

غير أن الأكثر سوء أن النوم داهمني بغته، فأنزحت قليلا وارتخيت، ومدد أبو حنيفة ساقيه ورجليه، وغمضت عيناي قليلا وقد أثقل النعاس جفوني ، وغرقت في غفوة عميقة، فيما لا زال بعض القات الممضوغ طريا في فمي..

صحيت صباح يوم الجمعة بعد نوم عميق، لأرمي بقايا قات الخميس الذي نام معي في فمي حتى صباح الجمعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2)

حماقة صديقي

في عدن قبل العام 1990كان لا يتم تعاطى القات وبيعه إلا يومين في الأسبوع.. الخميس والجمعة.. أما في غيرهما، فالعقوبة المحتملة زاجرة وصارمة، وتصل إلى عام أو اثنين.

خلال إقامتي الأولى في صنعاء، شاهدت غالبية المجتمع إن لم يكن كله، يتعاطى القات بنهم ودون حرج، خلال أيام الأسبوع أو جله، بل أن بعضهم يخزن في اليوم شوطين، غير “التفذيحة” إن تأتت.

بدأت أعي سطوة القات على المجتمع في صنعاء، حيث ينظر إليه باعتباره يستحث النشاط والجهد والتفكير، فضلا عن كونه وسيلة مهمة لجمع الأصدقاء والزملاء، بل والتعارف أيضا حتى بين الغرباء.. يوثق العلاقات، ويشرح النفوس، ويجلب النشاط والانتشاء، وينشط المجهود والذاكرة.. يثير الجدل السياسي، وغير السياسي.. يبعث مشاعر الدفء بين الحاضرين، وربما الحميمية في بعض الأحيان.. بدت لي اللقاءات الاجتماعية في صنعاء وغيرها من مناطق الشمال، لا طعم لها ولا لون من دون القات، بل ظننت إن السوية اليومية في صنعاء لا يمكن أن تكون من غير قات..

اشتريت مساند ومداكي محشوة بنشارة الخشب وألياف أخرى لا أدري صنفها، وربما بعضها صنعناها نحن في البيت بعد أن حشيناها بأشياء أخرى قديمة لسد النقص عند الاحتياج إلى مزيد منها.. وكان مقيلي الأول في صنعاء يظم لفيف من الأصدقاء والزملاء والأصهار بعضهم يخزن وبعضهم لا يتعاطى القات مطلقا..

صهري محمد المطري “مبحشم كبير” ومولعي قات من الطراز الرفيع، وبمثابرة يومية لا تكل ولا تمل ولا تنقطع إلا لظرف قاهر، أو مرض شديد الوطأة يلزمه الفراش.. خبرته في القات والتخزين والكيف ضاربة جذورها في مدى أربعة أو خمسة عقود متوالية..

عزمت محمد المطري إلى المقيل معي في أول يوم افتتاح ليشرّف مجلسي .. حضر بقاته وقاتي دون أن أطلب منه أن يشتري قات لي معه، بل لم أكن أعتزم التخزين، وإنما اعتزمت الجلوس مع مخزنين.. غير أن المطري أرغمني على التخزين بالأيمان الغلاظ، والحرام والطلاق..

صديقي ورفيقي ومسؤولي الحزبي جازم العريقي الذي أحببت أن أعرفه بأصهاري في صنعاء لا يتعاطى القات مطلقا، وأستعاض عنه بـ “الزعقة” فيما جاري وصديقي منصر الواحدي لا يتعاطى القات البتة، وجلس معنا من غير قات، ورابع وخامس يتعاطون القات، ولكن لا أدري بأي قدر، ولم أخبرهما من قبل.

وجدت نفسي أمارس إكراه نفسي على التخزين .. كنت في بداية المقيل وأنا أتعاطي القات، في حال أشبه بحال المحكوم عليه بتعاطي السم.. كنت كلما حشيت ورقة في فمي، أجد مرارتها تلسع راسي، أو تلدغ جمجمتي من الداخل كثعبان.. كنت أشعر بالكلفة والإرغام وأنا أتعاطيه.. أحسست أنني أتعذب فيما لا إرادة لي فيه..

طلبت شاي أسود بالنعناع والزر، أحسست وأنا أكرع الشاي في فمي إن المطري مستاء مما أفعل وملذوع أكثر مني، تأته بكلام غير مفهوم، ثم أستأنف الحديث في سياق آخر.. شعرت كأنني ارتكبت ثمة خطاء لا أعرف ما هو.. في عدن يتعاطون بتحبيذ الشاي والمزغول مع القات.. أحسست أن ما أفعله لا يروق له، بل ربما يخدش كيفه. غير أنه لاحقا عرفت إن السبب في تنفره لم يقتصر عليّ وحدي.

بدأ كيف المطري وكأن أصابه العطب، حاول أن يكظم غيضه مرارا أو هذا ما عرفته لاحقا.. كان يشاهد الرفيق جازم في الوجه المقابل له، وهو يأكل الزعقة باحترافية داهشه، وكان صوت فقص “الزعقة” لافتا، وأحيانا يبدو صوت بعضها صارخا ومستفزا لكيف المطري الذي تاه.. نفذ صبر المطري، وقد بدت له أصوات قصقصة الزعقة كانفجارات قنابل يقذفها رفيقنا في وجهه .. فأنفجر المطري هو في وجه رفيقنا كالغم، وصرخ: خزن وإلا قم أخرج .. قيص قيص قيص، من الساعة ثلاث ما خليتنا نخزن ولا خليتنا نطعم القات..

أحمر وأسود وجهي خجلا من حماقة المطري حيال رفيقنا جازم، الذي كان خجولا، وإنسانا من الطراز الرفيع.. جازم شخص مرهف الإحساس والمشاعر.. جازم بالنسبة لي مثالا وقدوة.. مثقف ممتلئ، وقيادي حزبي من الطراز الأول، ومرهف وحساس إلى حد بعيد ..

اعتذرت للجميع واعتذرت للرفيق جازم الذي شعرت أن ما فعله المطري به لا يداوى حتى وإن فرشت على جرح جازم صفحة وجهي والعيون.. وكان هذا أول درس صادم تعلمته في أول مقيل في صنعاء..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3)

مقوت الشيخ عبدالله

تواصلت بمحمد المطري، وأبلغته أن يوم الخميس معزوم عندي غداء وقات.. حاول أن يعتذر، ولكني حلفت عليه بالحرام والطلاق.. كنت حاسما معه منذ البداية.. لم أترك له فسحة تململ، أو محاولة اختراع عذر يمر؛ فوافق، وسرتني موافقته..

قبل ظهر الخميس خرجت بغرض شراء القات.. ولكن خبرتي في شراء القات منعدمة تماما، بل هي صفر أكبر من حجم جرة الفول.. كنت أعلم إن جهالتي في شراء القات هي أضعاف جهالتي في التخزين.. وبدأ لي الأمر أمام نفسي إنني ارتكب حماقة، وأن حماقتي جهلا على جهل..

جاري الحميم منصر الواحدي الذي اعتمد عليه في غربة صنعاء لا يخزن القات، ولم يذقه في حياته.. خرجت من البيت كالهائم على وجهه.. لكن خطرت لي فكرة سمعتها من قبل، يبدو أنها ألقيت على سبيل التبجح من أحدهم، دون أن أعلم إنها كذلك.. “قات المشايخ” .. “سوق الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر” في الحصبة.. بديت وأنا أستذكرها كمكتشف عظيم.. قلتها بحماس: “وجدتها .. وجدتها”.. أحسست لحظتها أنني مدعوما بقرين محب، لا يتركني فريسة جهلي عند الشدّة..

دخلت سوق قات الشيخ عبد الله كطاؤوس.. وجدت “المقاوته” يحتفون بي .. كل واحد منهم يدعيني ويناشدني أن أشتري منه.. كل ينادي من اتجاهه.. عروضهم تعترض وجهتي.. أحسست أنني جلبت إلى صخب السوق جلبة إضافية.. شعرت وكأن “المقاوتة” يعرفونني من زمن بعيد بعد انقطاع، بل وجدت أحدهم يدعيني باسم محمد.. أحسست بالمسؤولية، وانتابني شعور أن لا أكسر خاطر أي مقوتي، طالما كلهم يرحبون بي، ويتوددوا ويتنافسوا من أجلي.. شعرت بحرارة حفاوتهم وترحابهم أكثر من ترحاب حكام صنعاء بحكام الجنوب في الأيام الأولى من الوحدة..

حدثت نفسي بأهمية العدالة، ورأيت أن من العدالة أن أعود إلى أول عارض للقات في مدخل السوق.. قلت لنفسي لا يجوز أن أتخطيه، وأكسر بخاطره، وقد سمعته يحلف الأيمان العظام، ويثنيها بالحرام والطلاق أن قاته غيلي.. وأنه أحسن قات في السوق كله..

أنا لمحت القات، وبدا لي شكله لماع ولافت للنظر.. وعندما سألت المقوتي عن سعره، وجدته غالي، غير أن وصفه للقات، وحلفه الأيمان العظيمة، إنه مشترى القات بقيمة كذا، وأن ربحه كذا؛ صدقته، بل جلب تعاطفي معه، وانحزت إليه ضد نفسي.. تعب المقوت يستحق أكثر مما قال، ودفعت له أكثر مما طلب، حيث تغاضيت عن أخذ الباقي إكراما لتعبه الذي كسب تعاطفي.. ثم أقنعت نفسي أن ضيفي المطري خبير في القات، ويستحق الغالي، ويستحق أن أكون أكرم منه.. إنه إكرام لكريم، سبق كرمه معي..

عدت من المقوت إلى البيت غبط ومنتشي.. شعرت أنني أشبه بالفارس العائد من حرب غنمها وكسب نتيجتها، وبدا القات في يدي وأنا مجفل، أشبه بحملي لإكليل النصر الذي ظفرت به..

وفي طريق عودتي اشتريت سمك وفاكهة .. استعجلت الغداء والاتصال بالمطري بسرعة الحضور .. وبعد ساعة حظر الضيف .. قدمنا الغداء رز وسمك وكان المسك فاكهة.. ظننت إن الغداء كان كافيا، وأن واجبي فيما يخص الغداء قد أنتهى ولاسيما أنه فاض عن حاجتنا.. لم أكن أعلم إن السلتة أو الفحسة أو على الأقل العصيد، ضرورية ليطيب الضيف ومقيله وقاته.. اعتقدت بهذا الغداء العدني قد قمت بما هو واجب، فيما ضيفي بمجرد تقديم الفاكهة، بدا في حال لم استوعبه للتو..

بدأت أفرش القات لأعطيه قسمه، ولكن بمجرد أن لمحه من بعد أمتار، نهض من مجلسه كزرافة، وهو يرمق للقات من علو؛ ثم قال إنه سيذهب ربع ساعة يحاسب صاحب المنجرة لأنه يوجد عنده حساب، وقد وعده إنه سوف يمر عليه بعد الظهر ليسدد الذي عليه.. فاستدركت بتوصيته أن لا يتأخر، ولكن ضيفنا تأخر قرابة الساعة، وعاد متأبط قات مطول ومعصوب في رديفه الذي كان وهو ذاهب معطوف على كتفه ومسدولا على ظهره.

صرخت في وجهه: كيف تشتري قات وأنا قد اشتريت قات لي ولك؛ فرد قائلا: 
– شفت النسوان اللي يبيعن اللحوح في الحصبة باب سوق الشيخ عبد الله! 
أجبته: نعم. 
– قال: هن يخزنين من هذا القات الذي اشتريته أنت..

صدمتني فجاجة الضيف ومصارحته الصارخة، وحاولت أن التمست له العذر كونه متصالح مع نفسه.. ومع ذلك أحسست بالحرج الشديد والخجل الأشد وطأة..

تفاجأت أكثر وهو يعلمني أنه تغدى أيضا في الخارج مرة ثانية؛ لأن ما قدمته له ليس بغداء.. استحيت، بل شعرت أن الحياء يتلبسني، ويريد أن يبتلعني أو يخسف بي تحت القاع..

عدت لأحاول أقنعه إن القات الذي اشتريته غيلي وإنه ممتاز، وعندما فتحت مرابطه وتفاصيله، شعرت أن هناك خرابة في الوسط، وغش فاحش تحت ما هو ظاهر.. فيما ضيفي أخذ هذا القات ورمى به بعيدا عنا، وقسم قاته بيننا، وحلف بالطلاق أن لا أخزن إلا منه..

شعرت يومها أن وقعتي كانت سوداء ومجلجلة، و وعدت نفسي أن لا أكررها، ولكن تكرر ما هو أسوأ منها..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4)

أنا والمجنون

فاجئني زميلي صالح عبدالله “الشرعية”، وكان رئيسا للنيابة العسكرية في المنطقة الشرقية بزيارة مباغته بغرض المقيل معي.. كنت يومها أقيم في منزل واقع بين شارع مزدا ومعسكر الصيانة.. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة بعد العصر.. هرعت مسرعا إلى رأس شارع مزداء لأشتري قات، غير أن القات كان قد نفذ، والبائعون كانوا قد غادروا المكان، إلا واحدا خلته بائع قات، فيما اكتشفت بعد يومين إنه مجنونا.

شاهدت أمام الرجل القاعد في مكان البائعين كيسا بلاستيكيا كبيرا محشوا بأوراق القات وأشياء أخرى اكتشفتها عند المقيل.. اتجهت نحوه وقد أحسست أنني لن أعود من السوق بخيبتي مكسورا، بل شعرت أن لي في الحظ بقية..

قعدت أمامه وقلت له : بكم هذا القات؟!
فأجاب: بسبعين..

لم أفكر بمساومته.. السعر استثنائي بكل المقاييس.. والقات في تلك الساعة المتأخرة لا يوجد عند رجل آخر غيره.. شعرت إن الرجل أنقذني من إحراج صديقي، وجنبني مقاسمة قات ضيفي، وأخرجني من ورطة العودة بخفي حنين.. أحسست بالامتنان للرجل.. أعطيته مائة ريال.. واستدركت بالقول: الباقي على شأنك..

أجفلت عن البائع راضيا.. لم أكن أعلم أنه مجنونا، وأن كيس القات الذي أمامه، إنما هو نفايات قات لا يُشترى ولا يُمضغ، وغير صالح لأي استخدام آدمي.. أوراق قات متهالكة ومعذبة، وبعضها قاسية وعنيدة، لفلفها الرجل من أرض المقوت، وبعض الأوراق مرت عليه الأقدام والأحذية.. حشاها في الكيس، وخزن منه، وجلب له الحظ رجل طيب مثلي..

بدأنا مقيلنا أنا وزميلي.. لفت كبر الكيس نظر الزميل، ولكنه أحجم عن الفضول أو السؤال.. بدأت بإخراج بعض أوراق القات من الكيس.. كانت أوراق مفلطحة.. بعضها مهترئ، وبعضها قاسي وسميك ومتسخ.. كنت أضع الورقة على فخضي، وأمسحها براحة يدي، ثم أعطفها أربعا أو خمسا، قبل أن أحشيها في فمي.. أول مرة أشعر إن ذلك القات يستقر في فمي وقت أطول، قبل أن يغادر إلى بلعومي ومعدتي..

ذكرني مشهد ما أفعله، برجل في طور الباحة كان معه جمل، كان الرجل يقوم بتعطيف أورق شجر الموز وأحيانا زرع ذو أوراق عريضة، حتى يصيرها بشكل عصبة صغيرة، ثم يحشيها في فم الجمل.. نعم إنه شبه مع الفارق.. والفارق أنني كنت أعتمد على نفسي، فأنا من يعطف الورق وأحشيها في فمي، دون مساعدة أحد..

صديقي بدأ يلحظ أن ما أفعله غير طبيعي، وبدأ يشعر بحالة صراع داخلي مع فضوله، وإحراج اللحظة، فيما كنت أنا أتصرف على نحو بارد وغير مبالي، ولا تبدو هناك أمام نفسي أي دهشة..

وجدت في الكيس ربلات، ومرابط ، وغطاء متهتك ومدعوس لقنينة “شملان” .. وكنت ما أجده أرميه على الأرض، واستأنفت التخزين، فيما كان صديقي يعاني، ولم يعد يستطيع أن يتمالك أعصابه، أو يمنع فضوله من التدخل والسؤال.. ويبدو أن أكثر ما كان يستفزه شكل أوراق القات، وطريقتي في التخزين، وهدوئي، وطريقة تنظيفي لأوراق القات، وتعطيفها، قبل أن أحشيها في فمي..

نطق فضول صديقي سائلا باستغراب: بكم اشتريت القات؟!!
فأجبته : هو طلب سبعين ريال وأنا أعطيته مائة ريال.. ما كان باقي قات في المقوت إلا عنده.. سعر القات عرطة..

لم يتحمل صديقي مزيدا من الإطراء على بايع القات، وخطف من أمامي كيس القات، وأخذ يفتش في داخله بيده وأصابعه.. ويخرج أشياء ومخلفات، وفي كل مرة يخرج شيئا من الكيس يقول : الله الله الله الله ويرمي به، ثم رمى بالكيس كله، إلى أمام باب الغرفة، وهو يقول: ما باقي إلا حنشان.. ثم قسم قاته، وحلف يمين أن لا أخزن إلا من قاته..

بعد يومين مررت أنا وصديقي أمام المقوت، وما أن شاهدت الرجل صرخت وشهقت: هذا الذي باع لي القات.. هذا الذي باع لي القات
فرد صديقي: هذا مجنون !! ما شفت القراطيس الذي فوق رأسه!!
أجبت: أصلا أنا ما كنت مركز على رأس الرجال.. أنا كنت مركز على القات..
فانطلقت قهقهتنا كأصوات رشاش في الشارع استرعت انتباه المارة.. ألتفت البعض إلى مصدر الصوت مستغربا ، ومنهم من توقف لبرهة..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5)

الخطاء الذي لا أنساه

لدي مشكلة لا زالت تتكرر معي، ولم أستطع أن أضع لها حدا إلى اليوم .. مشكلة تترك بعض الأسئلة عالقة في ذهني طويلا وأنا أتخيل الوقائع.. ما يجعل الأمر مُلِح أنني لا أستطيع سبر ما يعتمل في تفكير الضحية، وهو يشاهد ما أقترف بحقه من اعتداء، في لحظة خروجي عن الوعي، وولوجي في الغياب.. أحيانا أجد نفسي أترك قاتي جانبي أو أجلس عليه دون علمي، وأخزن بقات من هو جانبي.. حدث لي هذا كثيرا، ربما بسبب الزحام أو انهماك في الحديث، أو انشغال بالحاضرين المقيل أو نحو ذلك من الظروف التي تحيط بي وتجعلني فريسة اللاوعي..

إنه ضرب من شرود أحيانا يطول، وربما يستمر إلى نهاية المقيل.. اكتشفت كثيرا أن برمجتي العصبية هي من تخزن لا أنا.. غير أن السؤال الذي تشغفني الإجابة عليه: يا تُرى ماذا كان يدور في خلد من يراني تاركا قاتي، وأخزن من قاته، وهو صامت، ومتمالك أعصابه، ويعف عن تنبيهي، بل وأحيانا يحدث أن أوزع من قاته على زملاء يأتون دون قات أو أضيف إلى من ينتهي عليهم القات قبل نهاية المقيل.. ويُعظم وقع الأمر عندما يكون بيني وبين من أفعل به هذا، بعض أوجه الرسمية والإتكيت، فضلا عن الاحترام والتقدير المتبادل..

كنت معزوما بمناسبة عرس، وبعد مباركتي للعروس، عدت أبحث عن مكان في القاعة للجلوس والمقيل.. كانت القاعة مكتظة.. وجدت في القاعة الأخ مدير دائرة الأشغال محمد علي سعيد، والأخ محمد عبد الغني القباطي، اللذان رحبا بي وأفردا لي مكانا إلى جانب محمد..

وضعت قاتي “القطل” الذي كان في علاقي إلى جانبي، وفيما أنا أتوضع في المكان، كنت قد حسرته إلى تحتي في الجهة اليمنى، وهات يا دحس مع كل حركة آتي بها، دون أن أعلم إن قاتي صار يرزح تحتي ثقلي.. فيما قات صديقي محمد عبد الغني لا يخلو من فخامة.. مطول ومقطّف ومفرودا أمامه.. وبدلا من أن أخزن بقاتي صرت دون دراية أو وعي أخزن من قات صديقي محمد، وظل هذا الحال حتى النهوض من مكاني، أو بالأحرى أستمر من الرابعة بعد العصر وحتى السادسة قبل المغرب.. لا شك أنه محمد كان يرمقني مع كل مدت يد .. كان يرمقني بصمت ، ولكنه صمت يتأجج تحته سطحه العجب والأسئلة وأشياء أخرى ذات صلة..

لازلت شغوفا إلى يومنا هذا، متطلعا بإلحاح إلى معرفة ماذا كان صديقي، يحدّث نفسه، وهو يراني منكب على قاته انكباب منهمك، حد غياب الوعي؟! ما أستطيع قوله وتأكيده هو إنني كنت أخزن بطريقة مثيرة للغاية..

نهضت الساعة السادسة قبل المغرب لأغادر المكان، وحالما انحنيت لتناول تلفوني، لمحت القات العلاقي قد صار مسطحا ومستويا على الآخر ولاصقا على قماش الفرش.. أخذته بإذن رباطه، وأنا أسأل صديقي محمد عبد الغني: 
– هذا قات من جلست عليه؟!
– أجاب: قاتك
– سألته: وأنا منين خزنت؟!!
– أجاب: من قاتي.. ما يهمك.. الحال واحد..
– قلت له: قاتي قطل وقاتك مطول..
– أجاب : ولا يهمك .. نحن واحدين..

شعرت بطوفان من الحرج والخجل يجتاحني دون أن يمنع ذلك من شهقة دهشة مني، وخروج قهقهة..

في يوم آخر خزنت في بيت صديقي محمد عبد الغني، وكان أهم ما أردت معرفته منه ليس هو: كيف حدث ما حدث ؟!! وإنما بماذا كان يتحدث مع نفسه في طي سره وكتمانه، وهو يراني منهمك، أقتات من قاته بشراهة معزة؟! كيف استطاع يتمالك أعصابه ساعتين، وهو يراني أفعل ما أفعل؟! ما أنا متأكد منه أن شكلي والطريقة التي كنت اتعاطى فيها القات تثير عاصفة من الضحك؟! فكيف أستطاع أن لا يضحك طيلة مدة ساعتين تستحق الضحك الطويل والكثير.. ولكن لم يجب صديقي محمد على سؤالي، وإنما عمد إلى التهوين مما حدث..

إلى اليوم لا زال مثل هذا السؤال عالق في ذاكرتي، ويثير ضحكي عندما أتذكره، وأتخيل ما فعلته، أو أكرر ما فعلته مع ضحية أخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(6)

عندما تضبط متلبسا

كان ديواني يكتظ بالرفاق والثوار والأصدقاء بل وبالمخبرين أيضا.. أسماه عبد الهادي العزعزي في الأيام الأولى من شهر يناير ومطلع فبراير 2011 بـ “دار الأمة” عندما كنا نجتمع أو نلتقي فيه أو ننطلق منه.. كان يومها عبد الهادي ينتمي إلى حزب التجمع الذي أسسه الرجل المحترم والمعارض الصلب عمر الجاوي..

ثم صار مجلسي ملتقى لمن أسميناهم بـ “جرحى الثورة السلمية” وهم الجرحى الذين خانهم من استولوا على الثورة، أو خطفوها منهم، وقلبوا لهم المجن، وتنكروا لتضحياتهم بقباحة، ولاسيما الذين رفضوا علاجهم أو اهملوهم حتى تعفنت جراحهم، وأكلت الجراح أعضائهم، أو جعلتهم ذو إعاقات وعاهات دائمة، تستمر معهم إلى آخر العمر، إن لم تضع تلك العاهات حدا لحياتهم قبل ذلك الأوان..

جلس إلى جانبي أحدهم، كان قد أشترى قات بثلاثمائة ريال كما فهمت لاحقا.. يبدو إنه معدما أو أن قدرته على شراء القات محدودة للغاية.. كان واضحا إن الطفر يأكل عيونه ووجهه.. ملابسه وقاته وجسمه النحيل تحكي جانبا من طَفرِه وشدة حاجته، ومعاناته اليومية..

تركت قاتي على الجانب الأيسر بمحاذات المتكأ، وخرجت عن وعيي، ومددت يدي إلى علاقي ذلك الجريح الموجوع الموجود في يميني .. مددت يدي إلى كيس قاته، وأخذت بعض وريقاته، وبصورة يبدو إنها كانت صادمة لصاحبها.. ثم فعلتها مرة ثانية، وعلى نحو يبدو إنها كانت مستفزه، ربما بسبب ظنه إنها تنم عن استهتار أو عدم مبالاة أو خطاء فاحش يرتكب ضده ويكلفه مقيله..

ويبدو إن تكرار فعلي ونبش وريقات قات أكثر من المرة الأولى كان أمر أكثر استفزازا.. غير أن صاحبها حاول كتم غيضه، وكبح ردت فعله، وفضل أن يبعد علاقية قاته قليلا عني نحو الجهة الأخرى، غير أنني مددت يدي مدا، وسحبت العلاقي إلى جهتي، وغرزت يدي كغراف “الشيول” داخل الكيس لأهبش وريقات أكثر، فيما كان قاته قليل وحزين ولا يستحمل غرافا..

لم يتحمل صاحبنا الغلطة الثالثة، حيث سرعان ما تحرر من حيائه وحرجه، وقبض على يدي كما يقبض أحد رجال “الجندرمه” على لص.. قبض على يدي متلبسة، وقبل أن تخرج من علاقية قاته..

يده النحيلة وهي تقبض على يدي أحسست بها وكأنها قبضة من حديد.. لم أكن أعرف أن هذه اليد النحيلة لذلك الجسد النحيل والمنهك تستجمع كل هذه القوة الجريئة.. لحظتها لم أدرك حقيقة ما حدث، ولا سبب القبض على يدي إلا حالما قال:
– هذا قاتي بثلاثمائة ريال.. سامحتك بالأولى والثانية .. أين قاتك؟!!

عندها أدركت أن ما فعلته ليس بقليل، وخصوصا عندما لمحت أن قاته كان قليلا ويثير حزن من يراه.. قاته القليل لم يكن يستحمل التغاضي عن الهبش، ولا يتحمل دقائق قليلة من الفتك فيه.. تفهمت مشاعر صاحبه.. سحبت يدي من العلاقي ببطء ومن غير قات، بعد أن خفّت قبضة يده، وبعد أن أوصل رسالته كقذيفة مدفعية..

الواقع إن الموقف كان مربك.. وقهقهتي العفوية كانت ترفع عني كل مأخذ، وخصوصا بعد أن وجدت قاتي في الجانب الآخر هو من يبحث عني في غفلة عنه عشتها لدقائق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(7)

قات وحلوى

في حملتي الانتخابية وأنا أستقل السيارة في طريق (المداكشة ، النويحة) وهي طريق مكسّرة وصعبة، ولا تخلوا من وعورة أمام السيارات، إلى درجة تشعر أحيانا بالنجاة بعد أن تقطع نهايتها، وعليك أن تتنفس الصعداء، وتحمد الله وتشكره عند تجاوزها، وإن كان لك عودة لها سيركبك الهم ذهابا وإيابا.. لا يخففه عنك غير أهلها الطيبين والأجياد، وقمرهم الذي شاهدته في إحدى الليالي المقمرات، وكتبتُ عنه ذات يوم، ردا على صديقي الصحفي عبد الله عبد الالة الذي كتب عن قمر “عين الريم”.

يومها كنت استقل السيارة، وبمعيتي بعض أعضاء فريقي الانتخابي.. كنتُ مخزن قات، إلا أنني شعرت بغته بالجوع يداهمني ويهد قواي.. كنت لا أريد أن أرمي بالقات من فمي، لأنه يعينني بقدر ما على منع الغثيان، أو على الأقل تأخيره بعض الوقت، بسبب السيارة والطريق.. كنا نرتطم ببعضنا تارة، وبهيكل السيارة تارة أخرى.. تتصادم أجسادنا ببعض ونترادع أحيانا بالرؤوس.. نبدو في الطريق والسيارة التي تقلنا، وكأننا راكبين على ظهر حمار.

أردت أن أحتال على الجوع، وأحافظ على بقاء القات في فمي.. أخبرت السائق بوقف السيارة عند أول دكان يبيع حلوى.. وحالما وقفت السيارة، طلبت من صديقي ردمان النماري أن ينزل يشتري لي حلوى لأسد بها رمق الجوع، وعندما عاد بالحلوى تفاجأ من كانوا معي في السيارة أنني أريد أن آكل الحلوى وفي نفس الوقت لا أخرج القات من فمي.. فحاولت إقناعهم إن القات أمضغه في جانب واحد من فمي، فيما أنا سأستغل الجانب الآخر بأكل الحلوى.. سأفعل هذا بحذر وأجعل الحلوى تتسلل إلى معدتي الجائعة بسلاسة وخفة ومهارة، ودون أن أمس القات بمس أو ضرر..

نصحني رفيقي ردمان النماري ومن كانوا برفقتي أن لا أفعل، وإن الأمور ستخلط في فمي، حابلها بنابلها، ولكن أصريت حتى صار الأمر بالنسبة لي تحديا ينبغي أن أهزمه، أو على الأقل أكون جديرا بمستواه.. إنه إصرار وتحدي لا يشبهه إلا إصرار وعناد بعض قيادات الأحزاب والجماعات على فعل الخراب، ولاسيما عندما يغامرون، ويتجاهلون الاحتمالات، ويوغلون بالعناد أو حتى الاشتهاء، ويرمون عرض الحائط بكل نصائح العقلاء وأصحاب الرأي..

حشيت الجانب الفارغ من فمي بقطعة الحلوى، وبدأت أمضغ الحلوى في الجهة المقابلة للقات، وفجأة ساح القات كقطعة ثلج على صفيح ساخن.. ذاب بطريقة عجيبة وسريعة لم أكن أتوقعها، تسلل وأنساب القات إلى معدتي قبل أن تصل قطعت الحلوى الممضوغة إليها..

أوغلت في العناد أكثر كما يفعل بعض الساسة.. قررت أن أكمل أكل الحلوى لأشبع جوع معدتي بعد أن خسرت قاتي.. لا أريد أن أخسر القات والحلوى معا ودفعة واحدة..

تركت مسرح معدتي للقات والحلوى للتفاهم أو حتى للاحتدام.. أمرت السائق بمواصلة السير.. وبعد قليل داهمني الغثيان.. بدأت جبهتي وصدغي تتفصد عرقا.. بدأت أشعر بالضيق والدوار.. بدأ فمي يمتلئ ماء ولعاب، حاولت الإمساك بما في فمي، وأمنع نفسي من التقيؤ، إلا أن دفعت القيء من معدتي إلى أعلى كانت أكبر وأقوى.. تقيأت، وأخرجت معدتي كلما كان مستقر فيها من قبل ساعات أو يوم، ظلت معدتي تنقبض وأنا أتهوع.. كنت أشعر وأنا أشهق وأتقيأ إن معدتي هي الأخرى تريد أن تغادرني، أو تخرج من جوفي.. أحسست أنها تريد أن تطلقني بالثلاثة، لولا أن العصمة كانت في يدي.

أنا قامرت ولكن كانت مقامرة لا تتعداني، فيما الأحزاب والجماعات وجل النخب اليمنية، قامرت بوطن، ولازلنا نشهد النتائج الكارثية تتوالى لهذه المقامرة المجنونة..

صرنا نعيش الحرب والمجهول ولا نعلم إلى أين؟! ومتى تنتهي هذه الكارثة التي حلت علينا ولا تريد أن تنتهي؟!!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8)

عندما تنسي جوعك

كنت غالبا أصطبح في وقت متأخر، غير أن ذلك اليوم لم أصطبح، حيث كان يومي مزدحما ومكتظا.. هذا الاكتظاظ والازدحام في برنامجي أغواني عن الفطور.. اشتريت قات ووصلت البيت ووجدت أيضا ديواني “بيت الأمة” مكتظا ومزدحما.. كان الترحيب بي من قبل الحاضرين احتفاليا وبهيجا..

بمجرد طلتي عليهم، أفسحوا لي مجالا للجلوس، وكما نسيتُ الفطور المتأخر للصباح، نسيت تناول وجبة الغذاء.. بدأت التخزين والحديث والاهتمام من حولي يدور جاذبا وغنيا.. أخذتني بهجة الحضور عن جوع لم أحس به.. وفي المجلس كنت أشبه بالنواة، والإلكترونات على النواة تدور.. كنت المركز والنواة في المقيل.. كيف لا أغفل طعامي وأنا في حضرت من حضر، رفاق وأصدقاء ومحبين طيبين..

قبل الساعة السادسة بدأت أتعرق، وبدأ الغثيان يزداد ويشتد.. بدأ وجهي يسود ويكفهر .. أحسست أيضا إن بداية حمّى يلذعني طعمها في طرف اللسان.. ظننت إن سبب كل ذلك أنني خزنت دون أن أغسل القات..

اعتذرت للحاضرين منوها أنني لم أغسل القات، وأنني أشعر بالغثيان .. دخلت إلى الحمام لأتقيأ.. كنت أشعر وأنا أتهوع أن روحي تكاد تطلع من معدتي، وأن معدتي قد أوشكت الخروج من الحنجرة.. اكتشفت أن معدتي خاوية تماما لا زاد فيها ولا ماء ولا بقايا من عصف مأكول من اليوم الذي قبله.. معدتي فارغة، ولا يوجد فيها ما يمكن أن أتقياه.. حتى الماء القليل الذي شربته لم يعد له أثر.. ربما أمتصه الجسم أو صار حسيرا بين المثانة والكلى..

تذكرت أنني خزنت دون صبوح أو غداء، وأنني لم أغسل القات، وإن الأعراض تدل على تسمم جاء على جوع.. تعاون الشر يهلك.. شربت حقين مع ثوم وبسباس .. ثم بسباس مع ثوم وليم.. ثم لبن وبيض.. ثم غسلت أمي “قصعة السم” التي تحتفظ بها، وأشربتي غسيلها.. ثم لقمة من عصيد مغموسة بـ “حلقة”..

ست ساعات قضيتها في عراك.. كلما أشرب شيئا اتقياه, ولكنني لم استسلم للقيء والحمى والأعياء وخوران القوى.. شربت علاجات وأكثر من صنف، ولكن معدتي كانت ترفض كل ما يأتي إليها، وما تلبث أن تلفظه إلى الخارج مدحورا ومطرودا..

بدأت بعد ست ساعات من الاعتراك ومحاولة استعادة الصحة أتحسن تدريجيا وببطيء.. بدأت استعيد شهيتي ببطؤ أكثر ولكن نحو التعافي .. بدأت أتجاوز الحالة التي داهمتني، وأخرج من حال الشعور بالأعياء والانهيار وخوران القوى تدريجيا نحو التعافي واستعادة الصحة..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9)

تحاشي السياسة

* أكثر مجالس القات التي حضرتها، و معظم مقايل القات التي تمت في مجلس مقيلي، كانت غالبا تتحدث في السياسية، وبين رحاها، وتمتد إلى كل ما له صلة فيها، وقليلا هي تلك المواضيع التي تنتمي إلى غيرها، ونخوض فيها، وتكون متعلقة بقضايا شؤون الفكر أو الفن أو الأدب أو الجمال أو ما عداه..

* حتى مياتمنا ومجالس العزاء والمناسبات الأخرى الغير سياسية، سيسناها، أو صارت لا تنجو من السياسة، وصرخات التعبئة، وزوامل الحرب التي تثوِّر الدم في العروق، بل حتى تلك المقايل الذي نخصصها لشأن آخر، أو نستوعد أن تكون بعيدة عن السياسية، نجد السياسة تخترقها، أو تتسلل إليها، كما يتسلل الهواء والضوء من النوافذ والشقوق، بل أحيانا تخترق السياسية الجداران، مهما كانت سماكتها ومهما كانت خالية من الثقوب.. إنها السياسة، لعينة ومحتالة في كل اللغات..

* عندما نحاول صد السياسية أو إخراجها مطرودة من مجلسنا، نجدها تحاول العودة بإلحاح ودون أن تكل أو تمل من المحاولة.. إنها في الحقيقة أبعد ما تكون عن اليأس.. إنها الكائن الوحيد الذي لا ييأس ولا يخون مناه.. إن ما لم يحققه الاستعمار في بداية القرن العشرين، يريد أن يحققه اليوم في القرن الواحد والعشرين.. إنها “فن الممكن”، بل هي الممكن والمستحيل معا..

* كلما فكرنا في الهروب من السياسة، تدركنا بسهولة، وتظفر بنا بكلتي اليدين، بل نجد أنفسنا غارقين بين أمواجها المتلاطمة.. كلما أقسمنا في المساء أن نكف عنها وأن نغلق أبوابنا دونها، وجدنا أنفسنا نلاحقها في الصباح، ونلحق بها في عز المقيل.. إن لم ندركها نحن هي من تدركنا، ولا محال بيننا..

* في مقايلنا تعود إلينا السياسية من النوافذ والأبواب، وعندما نغلق في وجهها كل النوافذ والأبواب والشقوق تعود بتلقائية من اللاوعي، وتفرض نفسها على المقيل، بعد أن تغلب ما عداها من حديث يدور.. إنها السياسية يا صاح..

* أحيانا نجد أنفسنا نلوك كل يوم رتابة نفس الحديث الممجوج، ونفس المواضيع المكررة، ومع نفس الأشخاص المعتادين المقيل معهم، ومع ذلك لا يضنكون من بعض، ولا يشعرون بالملل حيال بعض، أو حيال ما هو مكرور من الحديث..

في حضرت القات كل شيء بالي يبدو جديدا حتى وإن تقادمت عليه السنين.. أما أنا فأحيانا أضطر إلى التمرد، وأشهد بعض الخروج، وأحاول كسر طوق الملل والروتين المستحكم، ومع ذلك وبعد يومين أو ثلاث، أجد الحنين يجرفني لنفس الشخوص، وربما أيضا لنفس الحديث بعد أن نقرنه بمستجد جديد.. إن الحياة تبدو لي أحيانا محتارة بنا، وهي تجد نفسها تعيش معنا غربتها في حضرة الروتين والملل الذي يقلبه القات إلى جديد فيه كثير من السعادة والانتشاء والرضى والمستقبل الذي نريد.. وبعد المقيل ينقلب الحال إلى النقيض.

* من أهم مجالس القات المحدودة التي حضرتها، ولم تتطرق إلى موضوع السياسية قط، لا من قريب ولا من بعيد، ذلك المقيل الذي كان بمعية الصديق مروان الغفوري، في منزل صديق له في الدائري.. أذكر أنني علّقت في نهاية المقيل وقبل المغادرة بقولي: “إنه مقيلا استثنائيا بكل ما تعنيه الكلمة”..

* في ذلك المقيل كان يبهرني مروان الغفوري بسعة اطلاعه في قضايا الكون والنشأة، رغم أنني كنت اعرف أن تخصصه في مجال الطب لا غيره.. وتعود معرفتي بمروان الغفوري منذ الفترة الأولى لإصدار صحيفة المستقلة التي كنت أتوسم فيه أن يحرر الصفحة الطبية في الصحيفة.. أظن أن هذا المقيل الذي أتحدث عنه كان فيما بين عامي 2005 ـ 2006. نعم.. لقد كان مقيلا خاليا من الدسم وكسترول السياسة..

* أدهشني في المقيل أن جميع الموجودون فيه، لم يطرقوا للسياسية بابا أو نافذة.. كل الحديث ومن أول المقيل حتى مسك ختامه، منحصرا بين النشأة والزوال.. من السديم، وما بعده، مرورا بنشأة الكون وتشكل مجرتنا ومجموعتنا الشمسية، وليس انتهاء بنشأة الإنسان، وعمّا إذا كان قد تحول من قرد إلى إنسان أم لا.. هذا دون أن يغفل حديثنا احتمال وجود حضارات أخرى في عوالم أخرى كثيرة..

* في الحقيقة هذا المقيل لم يكن مقيلا، بل كان رحلة كونية عجيبة من النشأة إلى الفناء.. رحلة في المجهول تفوق قصة الأسرى والمعراج.. لا أدري في الحقيقة ما نوع القات الذي اشتريناه ذلك اليوم..

* لقد هممت بسؤال مروان وأنا أزور برلين في أخر مرة، ولكني لم أجده، وعوضا عنه، وجدت الدكتورة أروى الخطابي التي كنت سعيدا بلقائها، وقد فرقتنا ما دون السياسة بعده ببرهة، وحتى يومنا هذا تفرقنا الطبائع أكثر من السياسة، حتى بلغت بنا القطيعة مبلغا وولغا..

* أول خلاف أو بالأحرى امتعاض غير معلن مع أروى بعد لقاءنا في برلين ببرهة، كان بسبب أنني نشرت صورة جماعية، ونسيت أن أذكر اسمها ضمن أسماء من ذكرت ممن كانوا حاضرين في الصورة، وقد أستدركت حينها، وتم التعديل والاضافة بمجرد أن أخطرني صديق بغفلتي..

* كنا نفكر نحن وأروى أن نؤسس حزب سياسي، ولكن هو الله ستر ولطف ولم أعلم سر حكمته إلا منذ مدة قريبة.. كان لطبائعنا رأي وقطع، رغم أن مشكاتنا ووجهتنا كانت واحدة، أو تكاد أن تكون، أو كما هو مفترضا أن يكون.. ظل خلافنا يبرز ويتلاشى بين حين وآخر حتى أنتهى بقطيعة تدوم..

* العلمانيون زمرا وأشتاتا وشظايا.. أغلبهم لا يطيقون بعض، ومن باب أولى لا يطيقون خصومهم .. بل نجد بعضهم يحمل فكرة استئصالية تتمثل في اجتثاث الخصم، وينتقدون العنصرية بعنصرية أشد.. ويظلمون الحق باسم الأقيال وعبهلة الجميل.. فضلا عن أنهم مشتتون يغالبون بعض ويفتقدون لاحترام بعض.. جمعهم صاروا أشبه بذلك الحظ الذي ورد في قول الشاعر:

حظى كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه 
إن من أشقاه ربى كيف أنتم تسعدوه

* أعود لموضوع مقيلي مع مروان الغفوري.. كنت مهتما فيما جرى من حديث المقيل.. رحلة كونية لم تتكرر .. تفاعلت في كل ما طرقه المقيل من حديث عن الكون والنشأة وحتى الزوال.. ربما اهتمامي بالحديث كونه موضوع مثير للاهتمام وما يكتنفه من غموض.. وربما لما لموضوعة من نكهه معرفية متميزة، أو ربما بسبب أنني كنت قد كتبت في مطلع التسعينات شيئا عن العلم والدين والخرافات والأساطير.. لا أدري أين ذهب ما كتبته، وهو على الأرجح اعطيته صديق للاطلاع عليه ومراجعته ولكنه لم يعيده.. لا زلت احتفظ ببعض البطائق البحثية التي كنت استند إليها وأدون فيها بعض المقتبسات مذيلة باسم المراجع.. أذكر أنه كان بحث موثق كتبت فيه أكثر من تسعين صفحة تقريبا أو على وجه التقريب..

* كثير من قضايا البحث كنت أثيرها بصراحة وشجاعة مع زملائي في القضاء العسكري عام 1990، وكانوا يحاولون أن يجيبوا على بعض الأسئلة والإشكاليات الفكرية التي أثيرها، ولكن كانت إجابتهم لا تبدو لي مقنعة، بل ربما حتى لأنفسهم، ولكنهم قصدوا الحصول على الأجر والثواب من رب العالمين.. فيما كان بعضهم يعرضون عليا اللقاء بعبد المجيد الزنداني، كونه عالم “طحطوح” في قضايا الإعجاز العلمي..

* مشهد مقيلي مع مروان الغفوري يتكرر استذكاره، كلما أشاهده، وهو يخوض اليوم بين رحى السياسية وغمارها، والتطرق إلى موضوعات وشؤون الساسة..

* إنه مقيل لازال نادرا في حياتي، أو بالأحرى لا زال غامضا إلى اليوم.. تداهمني الأسئلة كلما أشاهده وهو يخوض غمار السياسية والتحليل والمعلومة.. هل كان الحديث يومها هروبا من السياسية، ولاسيما أنني لمست حرص و رغبة في عدم الخوض فيها..؟!!

* هل كان الخوف من السياسية هو الدافع أو السبب ..؟!! هل كان يتحاشي السياسية هروبا من كلفة دفع ثمن الانزلاق مستقبلا إلى أتونها ومحارقها في وضع غير آمن وغير مستقر؟!! هل هو هروب من السياسية وورطاتها وكلفة دفع الثمن في المستقبل..؟!! هل كان وجودي في المقيل هو المانع والسبب في الهروب من السياسة؟!! أم هي الصدفة والمزاج في ذلك اليوم الذي أحجموا فيه عن الرغبة في الحديث بالسياسية!!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(10)

عندما احتاج بالعزاء إلى عزاء

• في مستهل عهدي في عضوية مجلس النواب، اشتريت تلفون، وكنت لازلت حديث عهد به.. وتعاملت معه ببدائية لفترة غير قصيرة.. لم أعد أذكر نوع و اسم ذلك التلفون.. كلّما أذكره أن أهم ميزة فيه هو صوت التنبيه العالي بوجود اتصال.. لم يكن مبرمج على رنة معتادة، بل كان مبرمجا على مطلع أغنية لم أختارها أنا، بل أختارها من برمج التلفون على تلك الأغنية..

• تقنية الصوت كانت أهم ما يميز ذلك التلفون.. كان صوت التنبيه بوجود اتصال يصدح بمطلع أغنية تشد الانتباه والعجب.. وفضلا عن ذلك كان ميكرفون الصوت مفتوحا إلى آخره.. كان الصوت العالي للتلفون صارخا، بل كان أصرخ من صرخة هذه الأيام..

• أخبروني أن هناك عزاء في بيت الوزير عبده علي قباطي.. قصدت مكان العزاء في بيت الوزير، وكان البيت مزدحما ومكتظا بالمعزيين .. وصلت إلى صدر المجلس بمشقة بسبب الزحام.. وبعد أداء واجب التعزية افسحوا لي مكانا في صدر المجلس، وجلست فيه، وبدأت أمضغ القات..

• وعندما بدوءا في قراءة سورة الفاتحة لروح الميت.. جاء اتصال لتلفوني، وصدع صوت تلفوني في أرجاء المجلس بأغنية ” انا يابوي انا .. خطر غصن القنا.. وارد على الماء نزل وادي بناء ..” سادني ارباك متتابع.. أولا في الوصول إلى التلفون، ثم في اغلاق التلفون.. استغرق هذا الأمر قرابة العشرين ثانية أو أكثر منها..

• كان شكلي لافت في تلك اللحظة، وأنا مشدودا ومعقوفا على التلفون كجنبية قبيلي من حاشد، كنت أشبه من يعاني من نوبة صرع وأنا أهسهس على كل الأرقام والمفاتيح بعشوائية مدهوش ومضطرب طار عقله.. كنت أشعر أن كل العيون ترمقني وساخطة مني..

• كان شكلي لافتا وأنا أحاول أن اخرس تلفوني الذي خانني في لحظة تعسة و وأرطه.. وددت في تلك اللحظة أن أكسر التلفون على الجدار أو الأرض أو بالأقدام، ولكن شعرت أن المشهد سيكون أسوأ مما أنا فيه..

• أخرسته بعد أن كاد هو أن يخرسني في حرج مهول.. شعرت بحرج شديدة وغير مسبوق.. بدت اللحظة أشبه بشخص محترم وذو وقار قد أرتكب خطيئة أو فعلا فاضحا أمام جمهوره المزدحم بالحضور..

• الجميع تطلع نحوي بدهشة صاعقة، والفاتحة شابها ما يفسدها طولا وعرضا، وأحسست أن روح الميت عليّ ساخطة، وأن ما ارتكبته فعلا لا يبرأ ولا يطيب..

• شاهدت الحاضرين زمرا يتهامسون ويبتسمون، وكنت أعلم أن حشوشا يحتشد ضدي في كل زمرة من زمر الحاضرين.. أحسست أن ما فعلته لا يُنسى ..شعرت في المجلس أنني صرت أسير لعنة تلك اللحظة القاسمة.. استمريت في المقيل على صفيح ساخن ربع ساعة ثم غادرت المكان..

• خرجت من العزاء وأنا أشعر أنني قد صرت أستحق العزاء أكثر من الميت.. حاولت أخفف عن نفسي بعزاء نفسي وأنا أقول : مررت في الكثير وها أنا قد ألفت النسيان، ولو لم أنسَ لما قابلت مخلوقا، ولما حضرت مقيل.. ولكن بعد خروجي ببرهة أكتشفت أنني قد نسيت أيضا علاقية قاتي في مجلس العزاء المزدحم..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11)

عالم القضاة

• بعد عودتي من مجلس العزاء الذي كان في منزل بيت الوزير عبده علي قباطي، والذي وجدت نفسي فيه أحوج للعزاء أكثر من الميت؛ طلبت من أحد أولادي أن يغير على الفور أغنية “أنا يابوي أنا” التي فضحتني في مجلس العزاء، ويستبدلها برنة عادية، أو أي حاجة محترمة، وتليق بقاضي وعضو مجلس نواب لازال في مستهل عهده.. ولكن بدلا من أن يغيرها برنة تليق بأبوه، غيّرها بأغنية لم أفهم من كلماتها غير “عبد القادر يا” ولم أفهم شيء من كلماتها، ولا اسم الفنان فيها ولا جنسيته، ولكنها كانت أغنية مشهورة في تلك الأيام..

• أنا في الحقيقة وغالبا لا أفرق بين الأغاني المحترمات والأغاني البائصات.. لا أفرق بين أغاني الشباب وأغاني العجائز.. أكثر الأغاني تنال اعجابي واستحساني غالبا بسبب ايقاعاتها واللحن والموسيقى فيها أو العود.. غالبا أنا لا أفهم ما يقول الفنان في الأغنية.. لازالت في ذاكرتي أغنية “بين الدوالي” الذي كنت اسمعها وأنا صغير من الراديو، وأرددها مع صوت الفنان بكلمات “بين الزوالي” وشتان بين المعنيين..

• زرت تعز .. تواصلت بالقاضي أحمد محمد بن يحيى المطهر لأخزن عنده، وهو زميل لي من أيام المعهد العالي للقضاء.. وفي مجلسه، وجدت كثير من القضاة المعممين وذوي الهيبة والوقار .. كما أن والد زميلي هذا أعرف أنه قاضي وعالم وفقيه.. إنه محمد بن يحيي المطهر.. كان له في أيامه شأنا، ومؤلفات عدة، ومنها مجلدين في الأحوال الشخصية التي اقتنيتها حالما كنت طالبا، في المعهد العالي للقضاء.. لا زلت أذكر أنني أحترت كثيرا فيما يتعلق بشروط صحة عقد الزواج، ومانع زواج الإنسي من جنية..

• زميلي القاضي ومن خلال زمالة المعهد الذي دامت ثلاث سنوات، انطباعي الإجمالي عنه، أنه كان ذكيا في الدراسة، ومتوقد الذهن، ودمث الأخلاق، وذو وقار وكياسة ودين.. يحرص على أهمية مسلك القاضي وسلوكه والحرص حيال ما يجرح عدالة القاضي، وهي تفاصيل مررنا عليها في المعهد العالي للقضاء..

• وفيما كان الحديث المحترم في حضرة جلالة القضاء وهيبة القضاة في المجلس الوقور، رن تلفوني، ولكن ليس برنة، وإنما بأغنية “عبد القادر”

• أنفجر القضاة بالضحك، وغرقت أنا معهم في نوبته، وأدركت أن الفضيحة الثانية قد حلت بي، وزميلي القاضي يقول:

– ما هذه يا قاضي؟!! شبابي هه.. من عمل لك هذه النغمة؟!

– وأنا أرد: هؤلاء العيال اللذين عملوها.. عيال الكلب.. وأنا معرفش أغيرها..

• فمد القاضي يده وأخذ مني التلفون وبدأ يتعامل معه حتى غيرها إلى رنة قاضي بحق وحقيقة ..

• الحقيقة لم أخرج من المجلس إلا بعد أن عرفت أن تلفوني اسمه “الرنان” وعرفت كيف أتعامل مع التلفون، وكيف أغير نغماته، وعرفت أيضا إن الأغنية جزائرية، واسم الأغنية (عبد القادر)، وأن الأغنية شبابية جدا، وأن الفنان اسمه الشاب خالد.. وعرفت أيضا بعض كلمات الأغنية التي تقول:

عبدالقادر يا بو علم ضاق الحال عليّ 
داوي حالي يا بو علم سيدي ارؤف عليّ 
دعوتي القلّيله… يانا… ذيك المبليه 
خليتني في حيره… يانا… العشرة طويله

• الحقيقة كانت جلستنا رائعة و ودوده، وفيها فائدة ومعرفة لم أسبق إليها من قبل، ابتداء بالتلفون وانتهاء بكلمات الأغنية..

خرجت من المجلس بعد المقيل، وأنا أضحك على نفسي وأحدثها كمجنون: “القضاة خطيرين.. يفهمون في كل شيء” وأنا لا أعرف حتى اسم تلفوني..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(12)

الاكتشاف العظيم

• في إحدى أيام الربع الثاني من عام 2017 على الأرجح، وفي مقيل جدير بالذكر، شعرت أنني استحق براءة اختراع غير مسبوق.. كان اكتشاف بالصدفة، لا يفوقه إلا اكتشاف ذلك الراعي الذي أكتشف القات صدفة، حالما كان يتأمل أغنامه كل يوم، وهي تخزن وتستجر من تلك الشجرة، ثم تغرق بكيف عميق، واستمتاع بالغ، وتبدي تصرفات عجيبة ولافتة..

• صدفة ولا ألف ميعاد.. ومثلها صدف الاكتشاف التي لا تتكرر إلا بندرة بالغة، ولا تأتى إلا من فطن لبيب.. يجيب على الأسئلة، ولا يقمع الجواب.. اسئلة لا يجيب عليها، ويكشف سر جوابها إلا مكتشف عظيم.. اكتشاف لم يهتدِ إليه أي شخص، منذ جلب أسلافنا القات، من الحبشة إلى اليمن، قبل خمسمائة عام أو يزيد..

• اتجهنا للمقيل عند المحامي الكبير والممتلئ أحمد علي الوادعي رضي الله عنه وأرضاه.. وفي الطريق وبمعيتي القاضي عبدالوهاب قطران، والمحامي نجيب الحاج، والقاضي أحمد الخبي، والأخ نبيل الحسام، ومروان الحاج.. توقفنا أمام البقالة القريبة من المكان، وطلبتُ من مروان أن ينزل من السيارة التي تقلنا، يشتري ماء، وعلبتين راوخ عنب، وعاجلناه أن لا يتأخر، وأن يعود بسرعة، ويبدو إن بوابة البقالة كانت مكتظة بالزبائن والمشترين..

• طلب مروان من ابن البقالة ـ وهو لا زال حديث سن وقاصر ـ ماء وراوخ عنب، غير أن الولد جلب راوخ مانجو بدلا من راوخ العنب، وحشاها في كيس البلاستيك تحت قناني الماء.. وعاد مروان بنصف الطلب، وفي نصفه على غير ما طلبنا، ولم نتبين ذلك إلا في غمرة المقيل.

• في أول المقيل وضع مروان على الطاولة التي كانت أمامي علبتي المانجو، فيما بدأت أنا أمضغ القات وفتحت العلبة، وبدأت ارشف منها، دون أن أعي أن ما أشربه مع القات هو “مانجو” .. كنت مندمج بالحديث والفرفشة، وكلما أوغلت في المقيل، بدأت أكثر كيفا ورواقة..

• في حضرت محامينا الجليل أحمد علي الوادعي، كان الحديث متدفقا وشيقا، وفيه ما يشد اهتمام الجميع.. نضحك وننكت وننتقل من حديث إلى آخر كالنحل، التي تنتقل من زهرة إلى أخرى؛ لجني الرحيق، وصنع العسل.. كنت مستمتعا أيضا بشرب المانجو مع القات، وصارت مرارة القات المقذعة تستدعي مزيد من الرشف وتذوّق المانجو اللذيذ..

• لم انتبه ولم ينتبه مروان ولا الحاضرين لما حدث.. قاسمني القاضي قطران المانجو، وأخذ العلبة الأخرى، وفتحها ورشف منها وقال:
– أيش هذا يا خبره .. مانجو مع القات..

قالها؛ وهو يقرأ المكتوب بالخط العريض على العلبة “مانجو” .. فيما كان مروان يبرر فعلته بمعاجلتنا له، وبأن الابن الصغير هو الذي باع له، وأنه غبي، ولم يفطن لطلبه، وأنه هو لم يعلم إن ما أشتراه “مانجو” لأنه كان أسفل الكيس.. رغم أن مروان وهو يضع علب المانجو أمامنا في بداية المقيل، معتقدا أن ما أشتراه عصير العنب وليس عصير المانجو.

• ضحك الجميع وقهقه، فيما وضع قطران العلبة على طاولته بعد رشفة واحدة، بدأ وكأنه أرتكب خطيئة.. أبدا امتعاضة، وعدم رضاه.. وبدا لي أن ما يناسبني لا يناسبه.. وأن طبائعنا في هكذا أمور متصادمة، وأن كل منا جاء من اتجاه مختلف.. هو جاء من بلاد القات والكيف، وأنا من قرية لا تعرف الكيف ولا زراعة القات..

• فكرت أنني سآخذ علبة المانجو الثانية من أمام قطران، بمجرد أن أنتهي من العلبة الأولى .. لقد راق لي المانجو مع القات، بل هو أفضل من أي مشروب أخر، سبق أن تعاطيته من قبل مع القات..

• وفي أوج المقيل، وعندما شاهدني قطران بمزاج رائق ومستمتع، بدأ هو ومن غير إعلان برشف المانجو من العلبة التي كان قد عبر عن امتعاضه حيالها من الرشفة الأولى.. وما أن تهتُ قليلا في الحديث والاستماع، كان القاضي قطران قد أكمل أحتسى علبة المانجو، برشفات متعاقبة لم يفصلها عن بعضها غير قليل من الوقت.. نعم لقد أحتسي صديقي قطران علبة المانجو كاملة مع القات، وأنا في غفلة، وقبل أن أناصف علبتي..

• وفيما كنت لازلت أرتشف من علبة المانجو التي معي، تفاجأت بعلبة قطران وقد صارت فارغة ومنكوبة في السلة التي أمامه، بعد أن أحتسى آخر قطرة فيها دون أن أشاهده وهو يحتسيها..

– قلت له باستغراب واندهاش: شربتها..
– قال: شفتك منسجم ومستمتع وأنت تشربها مع القات، فعلت مثلك.. 
وقهقه الجميع..

• من يومها ولعدة شهور أستمر مشروبي المفضل مع القات (راوخ مانجو) صرت استهلك علبتين وأحيانا ثلاث، وسط امتعاض ودهشة المخزنين، إن كان في مقيلي أو مقيل بعض الأصدقاء، بل وأحيانا أفعلها في مقايل الغرباء بدم بارد وأعصاب هادئة..

• كثيرون هم الذين يبدون اندهاشهم غير مصدقين ما أفعله.. بعضهم لا يستطيعون كبت أو منع أسئلتهم الوثابة أو التي تتدفق باستغراب واندهاش.. قات ومانجو مرة واحدة .. بدأتُ أمام البعض أشبه بمن يجمع بين عسرين، قات لا أجيد تعاطيه كما يجب، ومانجو مع القات لا جامع بينهما ولا صلة..

• حاولت أن أقنع البعض إن يجربوا ما أفعله، وأغريهم برواق المزاج والكيف من الرشفة الأولى التي يمكنها أن تستدرجهم إلى آخر قطرة في العلبة..

• وعندما يكارح البعض، أو أجدهم لا يتفهمون الأمر، أو أجدهم عصيين على الفهم؛ أخبرهم أنني خزنت في إحدى المرات بقات في جانب من فمي، وأكلت الحلوى في الجانب الآخر، ولم أكمل لهم ما حدث لي بعدها.. أحكي فقط مطلعها كفارس يستعرض إحدى بطولاته دون أن أكشف غالبا ما أصابها من خيبة، ولا أتم نهايتها السيئة، إنما استعرضها فقط على على سبيل التحدي؛ وربما أحيانا على سبيل الضحك، فيضحكون ويقلعون على السؤال والمكارحة..

• بعد مدة شاهدت بعض أصدقائي يخزنون مع المانجو، وأحيانا أشتري أنا المانجو، وهم يستحسنونه مع القات.. وفي آخر مرة وجدت أن القاضي قطران والقاضي الخبي مخزنين قات ويحتسون معه المانجو الطازج.. قفشتهم وهم يفعلون ذلك، وبديت أكثر اندهاشا مما أراه، فيما كان القاضي الخبي يضحك ويعقب بالقول: نحن على مذهب قائدنا..

• رغم اكتشافي العظيم، أقلعت عن احتسى المانجو مع القات، ليس بسبب ظني وتوهمي أنه هو من أبرز كرشي إلى الأمام كثيرا، بل وأيضا كونه سلعة مصنوعة في السعودية التي دمرت اليمن هي والإمارات ،وحولتنا إلى مستهلكين، وحولت اليمن أسواقا لبضائعها.. ولكن هذا لا يقلل من أهمية الاكتشاف، وربما هذا ما دفع بعض أصدقائي إلى تناول المانجو الطازج مع القات..

• إن المانجو مع القات اكتشاف عظيم، وغير مسبوق.. سأنتزع به جائزة نوبل.. وسأصنع نجومية لم يسبق لها مثيل.. سأمول منشوراتي من الفيس إلى التويتر، وسأحصل على ملايين الإعجابات على كل منشور .. سيكون حضوري عالميا يتعدى الآفاق والآماد البعيدة..

• سأتنقل بين عواصم العالم، وسأطوف كل الجامعات المشهورة والمشهود لها بالكفائة والتميز؛ لأقدم لها خبرتي ومحاضراتي الهامة في عالم القات والمانجو، وسأمنح الفقراء والمعدمين الزيت والدقيق وصور الدعاية التي تسوقني أمام الفقراء، وقبلهم من أفقرتهم الحرب أو صاروا معدمين، وسأحصد أصواتهم يوما في غفلة زمن، واعترش العرش الكبير، وسأستعيد أمجاد سباء وحمير وأقيال اليمن..

• سأملك المُلك، وسأدخل التاريخ من أبوابه الفسيحة، وسأجترح المجد المؤثل، والنصر المؤزر، وأحصد خلودا لا يمحى ولا يزول…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13)

القات مع الحليب

• أول مرة أذكر أنني خزنت مع الحليب، كان في مجلس مقيل زميلي الودود والمرح علي المعمري عضو مجلس النواب.. كان مجلسه ممتلئ بالحاضرين.. على الأرجح كان هذا في العام 2004 أو بعده بقليل.. أذكر أنه كان حاضرا ذلك المجلس نايف حسان ونبيل سبيع، وكان برفقتي مجيد الشعبي..

• يومها لم يكن نبيل ونائف يتحدثون في المجلس إلا لماما، ولكن ما لفت نظري أن مجيد الشعبي الذي رافقني، وكان يومها بمقام مستشاري القريب، لديه فراسة لا تخيب، وكان عميق في فهم الأشخاص من حديث قليل..

• بعد خروجنا من المجلس أذكر أنه أشار إلى اثنين ممن حضر المجلس، وكثف ما أراد بقوله : “رؤوس” وألمح أن أكون قريبا منهما.. لم يكن في ذلك الوقت نبيل ونايف مغمورين إلى الحد الذي يميزهم عمن كانوا حاضرين في المقيل.. ولكن كلما تقادمت الأيام كنت أشعر بأصالتهما وشجاعتهما وروعتهما، ولا زال حسن ظني واعتقادي بهما قائما إلى اليوم..

• ليس من السهل اليوم، في ظل هذه العواصف التي تهب من كل اتجاه، وفي عهد هذا السقوط المريع، أن تجد من استطاع الثبات، والحفاظ على ما في النفس من جمال ورهافة ومواقف مكلفة فيها حتى الصمت الجميل، في حضرت هذا النعيق، وفي محيط مزدحم بالقبح والسقوط والتعاسة.. اثنينهما نبيل ونائف إلى اليوم لم يسقطا، بعد أن سقط أكثر الكثير، في مستنقعات ضحلة وقذرة وموبوءة.. قليلون هم من استطاعوا الثبات والمقاومة، في هذا الوسط المملوء بالعطن والعفن والدود..

• الحليب مع القات يشعرك بالفخامة وأنت تتعاطيه، ولكن عليك أن لا تعر بالك لرأي من يحبطك، ويشعرك أنك مارقا عن القوم، وخارجاً عن الجماعة.. كنت أستلذ طعم القات مع الحليب.. شعرت أنه لا يكفيني في التخزينة قرطاسين أو ثلاثة، ولكن كان علي أن لا أهدر وقار كرسه عرف من عهد بعيد.. لازلت أذكر يومها رشقات سهام بعض الناظرين في المجلس، وأنا مخزِّن وأمص الحليب من قرطاسه بأنبوب رفيع..

• كنت أشعر أن هناك من يكبت ويكتم في صدره الصغير ضحكة بحجم الكرة الأرضية، ولكن أصحابها حاولوا قمعها في مشهد الحضور، ورموني بدلا عنها ببعض الأسئلة، ومنها عن طعم القات مع الحليب..

• الحقيقة أن انسجام القات مع الحليب فيه فرادة من التميز والتعاون.. القات كيف وباعث على النشاط والرواقة، مستساغا مع الحليب، ويعطيه نكة متميزة، ويفكك مرارة القات المقذعة، ويستبدله بطعم شهي مختلف، ويمتص قدر من السموم المسكونة في أوراق القات وغصونه.. ولكنني أقلعت عن الحليب مع القات بعد إدمان قصير، حالما وجدته يؤدي إلى تخليق الحجارة في الكليتين.. رغم أنني أخترق أحيانا هذا الإقلاع بخلط الحليب مع العسل..

• اليوم أسوأ من أمسه، والمستقبل مجهول أو على كف عفريت.. جموع هادرة لا تستسيغ القات مع الحليب، وهو في أسوأ حال لا يؤدي أكثر من توليف حجرة في الكلى، يمكن إزالتها بمنظار أو قليل من علاج، فيما تستسيغ تلك الجموع محتلين ومستبدين وعهره ونخاسين أوطان، وتؤدي لهم الطاعة والولاء والتعظيم سلام.. ولا سلام في المحارق.. المحارق ترحب بكل الضحايا ومن كل اتجاه..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(14)

ضد القات

• القات بالنسبة لي لا يتعدى جانبه الاجتماعي، حيث لا أجد فيه أكثر من كونه جامع للرفقة والصداقة، وكذا المجاملات، وما تفرضه بعض اللقاءات، والمناسبات الاجتماعية، كما أجده أحيانا أو في أغلب الأحيان، وسيلة للتعارف، واللقاء عن قرب مع أي شخص آنس إليه، أو أحبذ اللقاء به، أو أجد ما يدفعني للقاء به في مقيل..

• ويأتي هذا مني تمشيا مع البيئة والمحيط، والوسط الاجتماعي السائد، والأعراف والتقاليد التي يمكنها ـ إن قررت مصادمتها وحدك ـ أن تعزلك أو تبعدك، عن واقع مجتمع يفرض عليك شروطه..

• أشعر أن هذا الواقع المجتمعي يشبه إلى حد بعيد، فرض سلطة الأمر الواقع للواقع الذي تريد، والتي تفرض عليك خياراتها، وبالمقابل تصادر أو تضيِّق حقك في الاختيار، طالما أنت محكوم بواقع يفرض عليك شروطه وخياراته، في لحظة لازالت ظروف التغيير فيه غائبة أو بعيدة..

• ومع ذلك استطيع التخلّص من عادة مضغ القات في أي وقت، وسأكون مدعوما بإرادة ووعي لازمين وكافيين أن أتخلص من هذه العادة التي أعتدتها في مجتمع لازال عصي عن التغيير، وأجد نفسي مذعنا له على غرار المثل القائل: “مكرها أخاك لا بطل” .. ومع هذا سأكون إلى جانب أي قرار أو قانون أو سلطة تمنع أو تحد من تعاطي القات في اليمن..

• جل المجتمع مدمن قات.. جل المجتمع مهوسا بالقات من قاع القدمين حتى قمة الرأس.. صار القات عند الغالبية الهم اليومي الأول.. كثيرون هم الذين يحرصون على أكل سيء، من أجل توفير قات أفضل.. كثيرون هم من باعوا أصواتهم الانتخابية يوما ما بحزمة قات يوم أو أسبوع، ليتلقّون بعدها لكمات وصفعات عدد من السنين.. كثير هم من ذهبوا إلى محارق الموت من أجل القات، وتلبية قليل من الاحتياج..

• إننا نعيش في مجتمع فيه إدمان القات سوية، والذي لا يخزن قات عليه أن يعاني من عزلة المجتمع له، والانطواء عن الأصدقاء والرفقة والناس، ومعاناة الغربة في الوطن..

• إن حضرت إلى مجلس قات، وأنت لا تخزن، تكسر الكيف، وتسيء إلى مزاج المخزنيين.. إن لم تخزن تبدو في مجلس المخزنيين كندبة سوداء وشوها في صفحة الوجه الجميل.. مهما يكون لديك من حق وصواب، تبدو أمام المجتمع المخزن، وكأنك شاذ عن القاعدة، ومنحرف عن السلوك، وأشبه من يعمد إلى شق عصاء الجماعة..

• مجتمع لا زال يرى السوية على غير حقيقتها.. مجتمع يرى السوية تنطبق مع المثل الشعبي “مع أخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب” .. مجتمع خرج يوما يتظاهر ويدعو بموت من يطالب بمنع زراعة القات حيث هتف: 
“عبدالفتاح يا كهنوت .. الغرسة تحيا وانت تموت”.

• مجتمع كهذا يحتاج إلى ثورة حقيقية، وسلطة قوية تجعل من قرارها قدرا لا تتنازل عنه.. سلطة لديها إرادة من فولاذ، لا أقل منه.. وهذا يبدو أنه غير متأتي على الأقل في المدى المنظور، إن لم يكن على المدى البعيد..

• ربما اليأس في تغيير من هذا القبيل يجعل البعض يرى إن القيامة تبدو أقرب بكثير من أن يُمنع القات في اليمن.. غير أني أستدرك وأقول، ما قاله أحد الأبطال ضد الاحتلال، وربما في ذروة يأسه : “لا يأس مع الحياه”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(15)

عندما تتوسد الحذاء

• عندما لا أخزن القات بسبب الطفر أو نحوه من الأسباب، أعيش حالة ضجر وتوتر وعصبية في مواعيد القات نهارا، ويستمر حتى أعود إلى القات أو أقلع عنه بعد معاناة تستمر أياما متتالية.. وعند النوم أعيش ليالي متواليات من صراع مخيف ومحتدم مع الجاثوم.. كوابيس تصل بي إلى حافة الموت ومشارف الهلاك.. عالم من الرعب والفجائع والشلل المخيف..

• إن أشد ما أعانيه عند انقطاع القات، الكوابيس والضجر والتوتر والعصبية.. إنها تحكي حالة إدمان، لم أكن أتوقع يوما أنني سأصل إليها.. حاولت مقاومة الكوابيس عندما أجدها تداهمني، وأكون في حالة نصف يقظة، وذلك من خلال حالة أخرى في سياق مختلف، وعلى نحو اعتراضي، بحيث تخرجني إلى عالم مختلف عن عالم الكوابيس.. إنها حالة تحضير الأرواح التي قرأت عنها من قبل، وحاولت في يوما ما تطبيقها وكدت أجن.. وقد وجدتها في بعض الأحيان لا كلها تنجح في إخراجي من عالم الكوابيس المرعب إلى عالم أخف وطأة..

• نصحني أحدهم بشرب الماء عندما تأتي الكوابيس، لأن الماء يخفف من لزوجة الدم، ويجنبني الجلطة في غمرة الكوابيس والدم الكثيف والمتزاحم في الأوردة والشرايين، غير أنني وجدت الماء لا يمنع من استمرار الكوابيس، ولكن وجدت بعد شرب الماء أن شعوري بالشلل يصير أخف من ذي قبل..

• نصحني أحدهم بوضع قطعة حديد تحت رأسي، وأشار لي بوضع سكين، ونصحني آخر بوضع المسدس تحت رأسي حالما أنام، ولكن كلما حدث هو تبدل في الحالة.. صارت كوابيس مختلفة وغريبة، لم تخرجني من رعبي الذي أعيشه..

• صديقي نبيل الحسام هو من نصحني أن أضع صندل تحت رأسي عندما أنقطع عن القات، وأريد أن أنام لأتجنب الكوابيس.. نظرت إلى صندله ثم إلى جزمتي، ولأنه لا يوجد لدي صندل، لم أعرف هل الجزمة تقوم بالمهمة أم لا!!

• عند بداية دخولي إلى النوم داهمتني الكوابيس من كل اتجاه.. حالة رعب كادت تتحول إلى شلل.. حالة جعلتني أنهض وروحي تكاد تخرج من فمي، وأنفاسي تتصاعد، وصدري أشبه بكير الحداد صعودا وانكماش.. وجدت الأمر لا يستحمل تجربه الجزمة.. يجب البحث عن صندل كما قال صديقي نبيل الحسام.. إنها تجربة مجرِّب، ولا تتسع تلك اللحظة لتجريب ما هو محتمل أن يخيب..

• أخذت فردة “صندل” ابني، و وضعتها تحت رأسي، وعليها غطاء من القماش.. وملت نحو النوم، وغمرني النوم العميق.. نمت دون أن أشعر ما يعكر نومي.. قمت وأنا أتسأل: يا إلهي.. ما هي علاقة الحذاء بالكوابيس.. من الذي أكتشف هذا الأمر.. وكيف تم اكتشافه..؟ّ!!! فيما ابني قام يبحث عن صندله، ووجد فردة صندله مفقودة، وأعياه البحث عنها، وكاد لا يذهب إلى معهده، قبل أن أبلغه أن فردة صندلة موجودة تحت رأسي، فيما كانت علامة الدهشة والغرابة تبدو على وجوه من سمعني، وأنا أدل ابني على طريق فردة حذاءه المفقودة..

• وفي اليوم الثاني تكرر الأمر، وقمت أبحث عن صندل ولم أجد صندل ابني.. ووجدت “صندل” أخرى، ظننتها فردة “صندل” ابني الثاني، وطويتها بالقماش، ونمت عليها، وليلتها لم أغرق في النوم فقط، ولكن حلمت أحلام وردية جميلة لا تأتيني إلا نادرا.. حلمت أنني أرقص ـ وأنا لا أعرف الرقص ـ نعم .. حلمت أنني أرقص رقصة تونسية نشطة وفي غاية الروعة والخفة والجمال، لا أدري أصلها هل تلك الرقصة هي تونسية أم مغربية أم تركية!! ولكن الغريب أنني رقصتها على إيقاع دقت البرع.. وعندما استيقظت بعد نوم هنيء وأحلام سعيدة ووردية، أردت أن أعيد فردة الحذاء إلى صالة المكان، الذي أخذتها منه، ولكن تفاجأت إن فردة الصندل لم تكن لأبني، بل كانت فردة صندل الحمام البلاستيكية..

• إنه اكتشاف تم أيضا بالصدفة، وذلك لمن يريد أحلام سعيدة.. أرأيتم إلى أين أوصلنا الإدمان على القات؟!! لقد أوصلنا إلى أن نتوسد أحذية الحمام .. أوصلنا إلى ما لم يصله مدمن خمر أو حشيش أو أي مخدر آخر..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى