فضاء حر

الأغنية الصنعانية بين الأنسي والسمة ومحب

يمنات

نائف حسان

حسين مُحب تجاوز، بصوته وأدائه، جميع فناني الأغنية الصنعانية، باستثناء الأسطورة علي الأنسي. غَنّى كثير من أغاني التراث الصنعاني أفضل مما غَنّاها “الحارثي”، وغيره. حسين مُحب أفضل من غَنّى “كتابك يا حبيب”، و”عن ساكني صنعاء”، و”الشوق أعياني”، و”صادت فؤادي”، و”خِلِّي صَقيل الترايب”، و”حُمَيِّمة”، و”يا من لقى قلبي المضنى ورده إليّ”. لكنه فشل، أكثر من مرة، في غناء “الحب والبن”. حين نسمعه يُغَنِّي هذه الملحمة الفنية المكتملة شعراً ولحناً، لا يسعنا إلاّ أن نقول: يا رحمتاه. في المجمل، ظلت أغلب الأعمال الخاصة بعلي الأنسي مستعصية على حسين مُحب، أو هكذا يبدو الأمر. الانصاف يقتضي الإشارة هنا إلى أن جميع الفنانين اليمنيين لم يستطيعوا غناء “الحب والبن” كما غَنّاها “الأنسي”؛ بسبب ما تتطلبه من مساحات الصعود والتحليق المذهل في الصوت.

بالنسبة للتّلحِين، فحسين مُحب ليس له أثر. أظن ذلك عائد إلى أنه غير مخلص للفن بشكل كامل، ويفتقد للثقافة اللازمة للتجديد الفني وخلق هوية فنية خاصة به. ويبدو أن شعوره بالرضى الذاتي عن نفسه كمؤدِّي، يُقَيِّد/ قيِّد قدرته على الخلق والابتكار. في هذا الجانب، يتجاوزه حمود السمة. هو أكثر موهبة من “حمود”، بيد أن هذا يبدو أكثر إخلاصاً منه للفن. والشاهد أن “حسين” لم يُلَحِّن، حتى اليوم، أغنية واحدة ملفتة، فيما “حمود” لديه أكثر من محاولة تلحينية لقيت رواجاً.

تقول سردية شفوية إن الفنان الجديد في اليمن كان يُسأل، في ستينات وسبعينات وثمانيات القرن الماضي: تَقدر تَغَنِّي صنعاني؟ ومن لا يستطيع أن يُغَنِّي صنعاني لا يُعَدّ فناناً. طبقاً لهذه السردية، فقد كان هذا هو المستوى الأول من اختبار الفنان، أما المستوى الثاني الأصعب، فكان يتمثّل في السؤال التالي: تَقدر تَغَنِّي “السَّنَا لاح”؛ الأغنية الأصعب في التراث الصنعاني، والتي لا يستطيع أن يُغَنِّيها إلاّ أصحاب المواهب الصوتية الاستثنائية؟ حسين مُحب أفضل من غَنّى “السَّنا لاح” في لحنها الصعب. لكنه لم يستطع أن يُغَنِّي “الحب والبن”. أظن السبب لا يعود إلى عدم امتلاكه للإحساس والإمكانيات الصوتية، بل إلى عدم إخلاصه للفن. بمعنى أنه لم يمنح روحه بالكامل للفن، ولم يُركِّز كل طاقته وجهده عليه. هذا من الناحية الذاتية، أما من الناحية الموضوعية، فالسبب عائد إلى اختلاف طبيعة لحني الأغنيتين؛ فـ”الحب والبن” تحتاج طول نفس وطبقة عالية جداً من الصوت المرتفع القريب من أداء الأوبرا، فيما تحتاج “السَّنا لاح” طول نفس وطبقة منخفضة أو متوسطة من الصوت. في الموال، ومقاطع كثيرة من الأولى، يرفع “الأنسي” صوته أشبه بالصراخ المبتهج من داخل وادي بالغ الخصوبة. يبدو ذلك واضحاً في أدائه لأول كلمة في الأغنية: “طاااااااااااااااااااااااب”. فيما جميع مقاطع الأغنية الثانية تؤدَّى بنفس طويل، وصوت هادئ أشبه بالحديث المسترخي داخل مجلس أرستقراطي. يبدو ذلك واضحاً في التلاعب الطربي الطويل جداً بحروف كلمتي “السَّنا لاااااااااااااااااااح”. ولحني الأغنيتين ليسا تكييف موسيقي لكلماتهما فحسب، بل تعبيراً مباشراً عن هوية شاعريهما أيضاً: مطهر الإرياني “ابن الشعب”، بوعيه الوطني المرتبط بالأرض، وحُبّه لليمن والبُن، ومحمد بن عبد الله شرف الدين بتجسيده للأرستقراطية الفنية الحاكمة. “الإرياني” “ابن الشعب”، وإحدى تجليات ثورة 26 سبتمبر واليمن الجمهوري الحديث، و”شرف الدين” “ابن الاستبداد الطائفي”، وإحدى إفرازات اليمن القديم. وهذا لا يعني الإساءة لشاعر “السَّنا لاح”، أو الانتقاص منه والتقليل من أهميته. من يفعل ذلك فهو جاهل، ذلك أن الرَّجُل يُعَدّ أهم شاعر في تراثنا الغنائي. ولولا مطهر الإرياني لكان “شرف الدين” مازال أهم شاعر غنائي يمني.

كان علي الأنسي عبقرية فنية أصيلة، وفلتة صوتية نادرة. وبسبب ذلك، وما يمتلكه من ثقافة، لعب دور “الأستاذ” لجيله من الفنانين في الشمال. كان، وجيله الفني، إحدى إفرازات الزمن اليمني الجديد الذي دشنته ثورة 26 سبتمبر، وتجسيداً فنياً حياً للوطنية اليمنية. وقد انعكس ذلك في صعوده، خلال “حصار السبعين”، إلى مواقع الجمهوريين المدافعين عن صنعاء ليؤدي الأغاني الحماسية لهم. أما على المستوى العام، فقد انعكس ذلك في كم الأناشيد التي أبدعها ومجايليه للثورة والجمهورية. كان “الأنسي” يمتلك روحاً يمنية متأججة تجسّدت في حياته الشخصية، وما أبدعه من ألحان، وما امتلكه من حاسة سمعية استثنائية جعلته يصنع ألحاناً مدهشة انطلاقاً من وقع ما يسمعه في الحياة اليومية من حركة وإيقاعات وأصوات، بما في ذلك طريقة قراءة الشيخ القريطي للقرآن. وكان علي عبد الله السمة يمتلك وعياً وطنياً عالياً انعكس في انتماءه للحزب الديمقراطي (كما يقول الرفاق)، وفي تلحينه وأدائه للملحمة الوطنية الخالدة “البالة”. كلاهما (الأنسي والسمة) كانا تعبيراً عن الوطنية اليمنية التي تجسّدت في ثورة 26 سبتمبر، وعَبّرت عن نفسها فنياً بملحمتي الشاعر الاستثنائي مطهر الإرياني: “البالة”، و”الحب والبن”. أما حسين محب فهو، شأن جميع أفراد جيلنا، تعبيراً عن سنوات الرِّدة والضياع والاحباط التي بدأت في 5 نوفمبر 1967 واستمرت حتى 11 فبراير 2011، ثم أُريد لها أن تعود إلى ما قبل 26 سبتمبر 1962.

يمتلك حسين مُحب موهبة مدهشة، لكنه غير مخلص لموهبته بشكل خاص، وللفن بشكل عام. إنه موهبة غنائية رائعة ينقصها الوعي بذاتها. وإلى هذا، يفتقر للثقافة اللازمة؛ فنياً وسياسياً. والشاهد قبوله حضور حفلة يشارك فيها فناناً إسرائيلياً، في وقت لم تجفّ فيه دماء أكثر من 150 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل، وتخبُّطه في غناء الأغنية الواحدة، لا سيما الأغاني المشهورة، بأكثر من طريقة لحنية سيئة، مدفوعاً، ربما، باضطراب في الذائقة الفنية، ورغبة في إرضاء الجمهور! مع ذلك، فحسين مُحب فنان غير عادي يستحق أن ندعمه، لا أن نحاول إرهابه وقتله. ولئن غاليت في إطرائه، فهذا عائد إلى ثقافتي الفنية المتواضعة، التي لم تُمكني من الإحاطة الكاملة بهذا الموضوع. أما ذائقتي السمعية فليس لدي شك فيها.

المصدر: حائط الكاتب على الفيسبوك

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى