فضاء حر

بشائر السلام وتعسر التحول

يمنات

عبد الباري طاهر

بسرعة مرعبة ظهرت علائم الشيخوخة والعجز على وجه الثورات القومية العربية. حرب 1967 كشفت وعَرَّتْ هشاشة السلطة الثورية والانقلابية، وتناقضاتها الفاضحة، وتغولها على شعبها، وعجزها عن حماية السيادة والاستقلال الوطني.

جل الأنظمة القومية قامت ثوراتها وانقلاباتها العسكرية- في جانب أساسي- لتحرير فلسطين، وعندما عجزت عن حماية السيادة والتراب الوطني في مصر وسوريا تحديداً، وامتد الأثر إلى العراق والأردن، كان المنتظر هو الخلاص من الحكم العسكري، ومن الشرعية الثورية، والتحول إلى الشرعية الديمقراطية والحكم المدني. لكن القوى التي مثلت قطعاً لسياق التحول الديمقراطي المعلول والمدخول بالنفوذ الاستعماري عملت باتجاهين: فتحت هامشاً محدوداً للحريات الديمقراطية، وبمستوى معين حرية الرأي والتعبير، وأعادت بناء جيشها وأمنها تحت شعار استعادة «مواجهة الصهيونية والاستعمار والمؤامرات الإمبريالية».

في مصر- ومصر دائماً رأس الأمة والمنطقة كلها– جرى بيان الـ30 من مارس 1968، وفي جدية حكم الزعيم العربي جمال عبد الناصر جرى فعلاً إعادة بناء القوات المسلحة، ومحاولات إشراك القوى السياسية، وتشكيل متنفس في المنابر الصحفية: «الطليعة»، «الكاتب»، و «الاشتراكية»، وهامش في «روز اليوسف»، و«صباح الخير»، وحتى في الصحف القومية حينها: «الأهرام»، و«الجمهورية». أما في سوريا والعراق، فالنظام البعثي عمل على تصعيد الجملة الثورية، وتياسر أكثر فأكثر في مزايدة واضحة على نظام عبد الناصر، وتياسر أكثر فأكثر في مواجهة اليسار المعارض، وعملت الأنظمة التقليدية كلها على تقوية علاقاتها وتحالفاتها مع أمريكا وأوروبا للتدليل على صحة موقف أنظمتها من الأنظمة القومية والتوجهات اليسارية، وأفادت هذه الأنظمة من هزيمة 1967 للتحالف بشكل قوي وسافر مع القوى الإسلامية، وضاعفت من دعمها لهذه القوى ومد نفوذها إلى غير منطقة. الأخطر كان الابتعاد عن النهج الديمقراطي، والنزول أو التحول للشرعية الديمقراطية والحكم المدني، وجرى انقلابان في السودان وليبيا في فترة متقاربة دعماً لتحرير فلسطين، وللنظام القومي في مصر.

بعيداً عن تهم التخوين، ففي حمى صراع المصالح واليمين واليسار وما بينهما، فقد استفادت القوى التقليدية العربية في الحكم وخارجه من هزيمة 67، ودأبت على تمتين علاقاتها بأمريكا وأوروبا، وكانت حرب أفغانستان ذروة التحالفات، وجرى مد التيارات الجهادية بالمال والسلاح والتدريب. كل ذلك كان البداية الحقيقية لتصنيع الإرهاب بتوجيهات أمريكية وأوروبية استعمارية، وبتمويل وتجييش خليجي.

الانتفاضتان الفلسطينيتان كانتا الرد العملي القومي على نكبة 48، وهزيمة 67، واتفاقيات «كامب ديفيد»، وخيبات وانكسارات الكفاح المسلح الفلسطيني، والمساومات غير المبدئية.

انطلقت الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987، وأنجزت في بضعة أشهر ما عجز عن تحقيقه جيوش دول الطوق في48 و67، وما لم يحققه الكفاح المسلح الفلسطيني ابتداءً من انتفاضة عز الدين القسام.

في منتصف ثمانينات القرن الماضي عجز الجيش الإسرائيلي، المدجج بأحدث أسلحة العصر، عن قمع ثورة الحجارة (ثورة الطفل الفلسطيني)، وفرضت الانتفاضة السلمية مؤزرة بالتضامن العالمي على قادة الحرب الإسرائيليين الجنوح للتفاوض، والاعتراف بـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، وحق الفلسطينيين في استعادة أرضهم، وبناء كيانهم الوطني، وكانت الانتفاضتان مؤشراً لبزوغ «الربيع العربي».

لا شيء في التاريخ يموت. فهاتان الانتفاضتان تجلت في ثورة ربيع ابتداءً من تونس، مروراً بمصر والبحرين وليبيا وسوريا واليمن، وتتجدد الآن في «مسيرات العودة» منذ عدة أشهر، وفي الاحتجاجات المتواصلة في المغرب والعراق، وفي تصاعد الغضب ضداً على الحرب في اليمن، وبداية إدانات دولية ومنظمات حقوقية ضد هذه الحرب وجرائمها المتزايدة.

الجرائم التي يقترفها المتحاربون مؤشر فشل الحرب، وعجز كل أطرافها عن تحقيق انتصار وحسم عسكري لها. تزايد الضغوط على أطراف الحرب الإقليمية والأهلية في وقف جرائم الحرب خصوصاً بعد مجزرتي سوق السمك بالحديدة، ومجزرة صعدة التي قتل فيها عشرات الأطفال- كلها تدلل أن الحرب البشعة إلى زوال، وأن إرادة شعبنا وأمتنا العربية والعالم لا بد وأن تتصدى لها بالفضح والإدانة، وتلجيم الممولين وتجار السلاح وفرق الموت والدمار والاغتيال.

إرادة الحياة أقوى من إرادة الموت، والسلام هو المعنى الحقيقي للحياة، وتوسيع المشاركة في التحاور من أجل السلام قضية أساسية. الحرب عنت وتعني المستفيدين منها- وهم الأقلية- طول الثلاثة والثلاثين عاماً.

مأساة الحرب في اليمن أن الحكام الفعليين وصنائعهم هم القوة الأساسية في هذه الحرب، وطبعاً هم كل المشكلة، ويريدون أن يكونوا كل الحل، ولا يقبلون بمشاركة القوى المدنية، والأحزاب غير المنخرطة في الحرب، ومؤسسات المجتمع المدني، والشخصيات العامة والديمقراطية، وبالأخص المرأة والشباب والمستقلين.

المجتمع الدولي حريص على توسيع المشاركة، لتضم ألوان الطيف في صنع عملية السلام، وعلينا- كيمنيين- التصدي للحرب وجلاوزتها، وجرائمها عبر المشاركة في الاحتجاجات السلمية في مختلف مناطق اليمن، وبالأخص مناطق الحرب والمناطق المهددة بها؛ فتقوية إرادة رفض الحرب، ومقاومتها، وتجريمها وإطفاء نيرانها هي القضية الأولى والأساس في الكفاح الوطني في هذه المرحلة.

دعوة مجلس الأمن لتشكيل لجنة موثوق بها وشفافة في جريمة قصف حافلة في صعدة خطوة طيبة، ولكنها لا تكفي، فالمطلوب تشكيل لجنة دولية مستقلة، نزيهة ومحايدة تحقق في كل جرائم الحرب الأهلية والخارجية، وهو ما حالت وتحول من دون تشكيلها العربية السعودية وحلفاؤها؛ فالتحالف الاثني عشري الذي تقوده العربية السعودية هو الأكثر والأقدر على اقتراف جرائم الحرب، وهو المساءل بالدرجة الأولى عن قصف الأحياء الشعبية والأسواق والمدارس والمستشفيات والآثار والطرق وحتى القرى النائية عن مناطق الحروب.

تشكيل لجنة دولية مستقلة ومحايدة هو ما يلجم سباع الحروب، ويحد من كوارث الحرب، ويحقق العدالة، ويسمح بالمطالبة بالتعويضات لضحاياها، ولا شك أن كل الأطراف الداخلية والخارجية ضالعة في جرائم الحرب وفي القتل، سواء بالقصف والألغام، أو التجويع واقتراف جرائم حرب وضد الإنسانية.

المصدر: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى