العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة .. عندما يجتمع فيك الجوع والخجل

يمنات

أحمد سيف حاشد

(4)

عندما يجتمع فيك الجوع والخجل

– جعت كثيرا.. وجالدت الفاقة والحاجة والعوَز.. ولطالما عانيتُ من الهزال والضعف والضنك المُنهك للجسد والروح.. عانيت من سوء التغذية و “فقر الدم” سنوات طوال في حياتي الأولى، وفي مطلع شبابي الأول المثقل بالفاقة، ومن الحاجة مسيسها..

– كانت بنيتي الضعيفة والمنهكة، جالبة لأمراض سوء التغذية، من الأنيميا إلى نقص اليود، إلى الإصابة بالأميبا والجارديا وغيرها.. وكانت الحمى تجتاحني بين حين وآخر، وكنت أستلذ بالبقاء تحت أشعة الشمس قبل وأثناء ما تعتريني.. كنت أشبه كثيرا ما يطلقون عليها في قريتي “شمس الميات” التي تودعنا بحمرتها قرب الغروب.. كانت هذه الشمس تذكرني بأخواتي الراحلات نور وسامية، وكنت أظن أن حياتي صارت محمرة وغاربة، وتذوي في الغياب كشمس الغروب.

– وفي مرحلة إعدادية القسم الداخلي بـ “طور الباحة” كانت وجبات القسم المقررة لا تكفيني، ولا تشبع جوعي، إلا في حده الأدنى، لنستمر في حياة ظنكة ومنهكة، جلها نقضيها في صراع مرير، ورغبة مستميته من أجل استمرار الحياة والبقاء، وإن كانت بمعاناة ومشقة بالغة..

– كانت أمي تواسيني ببعض النقود التي تجمعها لي بصعوبة ومحال، لتخفف عن كاهلي معاناة الجوع، وتحملني على البقاء والحياة من أجلي، ومن أجلها، ومن أجل الحياة في درب مستقبل، كان لا يزال مجهولا وغير آمن..

– وفي ثانوية القسم الداخلي في مدرسة البروليتاريا كان طلبة القسم الداخلي كثيرون، وكانت طوابير العشاء والغداء طويلة، وكان أحيانا ينفذ العشاء قبل أن أصل إليه، وأحيانا أدرك القليل منه، وقد أوشك على التلاشي والانتهاء..

كنت مسكونا بالخجل والحياء الذي يمنعاني من المزاحمة، وتخطي من هم في الطابور قبلي، فيما كان كثيرون ممن هم بعدي في الطابور يتخطونني بجرأة وصفاقة، لأجد نفسي شيئا فشيئا في آخر الطابور ختاما بلا مسك ولا عشاء.. أصل إلى قرب نافذة الاستحقاق، فأتفاجأ إن العشاء قد نفذ أو أطول منه القليل من القليل؛ لذلك كنت في طليعة من خرج وتمرد من الطلاب واحتج في وجه الجوع، وطالبت مع المحتجين بكفايته وتحسينه، وقد سبق أن تناولت جانب من هذا في موضع آخر.

– لقد كنت أحيانا وبسبب خجلي أنام دون عشاء، أو أذهب أنا وصديقي محمد عبد الملك إلى أشجار “الديمن” التي تسيج جانبا من محيط المدرسة، لنقطف بعض ثمارها التي لم تنضج، بل لازالت بعيدة عن النضوج.. كان الجوع أحيانا يضيِّق علينا، وكنا نتجه نحوها مضطرين، ولم نسمح لها بسبب جوعنا أن تبلغ أدنى نضوج أثمارها.. كان سيف جوعنا أحد من نصلة السيف، وأسبق في القطاف من كل قاطف..

– كنا نأكل ثمارها باكرا في مواسمها التي لم تبلغ مشارفها، وكانت هي تنشب بحّتها الخانقة، وأظافرها المحتجة في حناجرنا الملجومة والمحاصرة بالجوع.. لقد فقدت عون أمي، بسبب البعد والدراسة وطول الغياب..

أحيانا كنت أذهب مع آخرين متسللا تحت جناح الليل إلى المزرعة التي تبعد عنا بحدود 2 – 3 كيلو متر لأحصل على بعض حفن الجلجل اللذيذ، والمتجمع في أطراف سيقان أوراقها المعروشة بشكل خياما معدة للتيبيس والجني، ثم نعرّج أحيانا على أشجار الليمون، لنقطف بعض حباتها، لنأكلها بقشرتها، أو نستخدمها على وجباتنا لتحسينها وتحسين مذاقها، وربما لتجاوز خيال طعم “شجرب” أو صرصار قزز، وقع عن طريق الخطاء في دست الفاصوليا..

والشيء بالشيء يذكر.. وعلى ذكر المبيت جوعا بسبب خجلي من اعتراض تجاوز الطابور، والتزامي بالطابور دون تجاوز أحد، وجدت نفسي كثيرا دون غداء أو عشاء أو الاكتفاء بعشاء أو غداء أقل أنا ومجموعتنا الصغيرة التي نشكل معا “حدرة” أو سفرة واحدة.. اجتمع معي الجوع والحياء والخجل إلى حد سكنوني ولازموني كثيرا في حياتي الأولى ومطلع شبابي الأول.

حللت ضيفا في إحدى العطل السنوية عند قريبا لنا في عدن اسمه عبد الكريم هزاع.. أظن أن نزولي إلى عدن يومها كان لعلاج تضخم الغدة الدرقية التي يعود سببها لنقص مادة اليود في الطعام وأسباب أخرى لا يحضرني ذكرها الآن..

– كانت وجبة الغداء في عدن هي الوجبة الرئيسية.. كان قوامها الرز وسمك “الزينوب” والصانونة والعشار.. وجبة شهية جدا بمقياسي.. من يومها إلى اليوم وأنا أحب هذه الوجبة، واشتهيها بوحشة العاشق المدنف، أو المشتاق بعد فراق موحش وعذاب..

– المشكلة التي كنت أعاني منها يومها هو أنني خجولا واستحي كثيرا إلى حد لا يصدق.. كنت لا آكل غير نصف حاجتي وأحيانا أقل من النصف بكثير..

– في عدن معتادين، أو على الأقل مع الأسرة التي أقمت عندها، أن لا يتم تقديم الرز والسمك دفعة واحدة، حتى لا يرمون بفائض الوجبة الزائد عن الحاجة إلى كيس القمامة.. هي عادة حسنة ولكني يومها لم أفطن لها، ولم أكن أدرك سببها والحكمة منها.. كان كلما تم اكمال ما في الصحن أو قبل انتهاء ما تم غرفه أولا، أغادر المائدة مباشرة، قبل أن يتم غرف كمية إضافية من دست الرز الموجود جوارنا إلى الصحن التي نأكل منه.. كنت أغادر المائدة بمجرد الانتهاء من التهام ما تم غرفه في المرة الأولى أو حتى قبل الانتهاء من التهامها.. كان حرجي وخجلي هما من يحملاني على المغادرة وعدم الانتظار أو الالتفات إلى غَرفة ثانية.

– بسبب خجلي وحيائي الغير طبيعيين كنت أغادر المائدة بمجرد أن يتم استغراق كمية الرز الأولى.. أما السمك فلا آكل منه إلا قليلا جدا، محكوما أيضا بخجلي وحيائي الشديد.. كنت ما استهلكه من السمك في كل لقمة لا يزيد عن حجم حبة الذرة أو نصف عجرة التمر إن بالغت في جرأتي، رغم وفرته ، فضلا إن بعض لقيماتي كانت لا تصطحب سمكا لا بهذا الحجم ولا ذاك، فيما كانت شهيتي الحقيقية إن أطلقت عقالها وعنانها لا يكفيها وجبة خمستهم من الرز والسمك والعشار، أو هكذا أخال وأشعر.. ربما تلك الشهية المكبوتة والمقموعة بالحياء جعلتي أحب هذه الوجبة إلى اليوم واشتهيها بلهفة..

– لاحظ عبد الكريم هزاع، وهو رب البيت طغيان الحياء والخجل في يدي ووجهي وهيئتي، وبدلا من أن يلح على أن أرمي الحياء والخجل بعيدا عن مأكلي، عالج الأمر بطريقة “داويها بالتي هي الداء” .. كانت طريقته بديعة وعلى غير ما هو معهودا بين الناس.. فبدلا من أن يلح علي بأكل قطع السمك قال: أحمد لا يعجبه السمك.. تظاهرت بموافقة لما قاله وبديت تعففي تماما عن أكل السمك.. ولم آكل سمكا في الأيام التاليات بمبرر أنني لا آكل السمك.. صرت نباتيا حصريا في سفرة وحضرت السمك..

– وعندما طبخوا زربيان لحم، وقبل أن أمد يدي لتناول فرتيت من اللحم، بادر بقوله: أحمد لا يحب لحم الزربيان.. فقلت بحياء وخجل: أيوه .. أنا ما يعجبناش لحم الزربيان، وحرمت نفسي منه رغم رائحته التي كانت تشويني حيا، وتشرِّح شهيتي، وتصلبها في دواخلي وأعماقي، بصمت رهيب وخفية ملازمة..

– ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تكرر بعدها مع الدجاج؛ حيث قال قبل أن أمد يدي إليها: أحمد ما يأكلش لحم الدجاج.. فكابرت وأخبرتهم بالموافقة، وشهدت زورا على نفسي أنه لا يعجبني لحم الدجاج..

– وفي اليوم الذي يليه قال وقبل أن أمد يدي إلى الغداء: أحمد لا يعجبه الرز والصانونة والعشار .. ساعتها شعرت أنه حشرني في زاوية أنا وحيائي وخجلي ودفعني نحو الخيار المستحيل الذي لا استطيع أن أجاريه.. ضحك خمستهم بقهقة وكأنهم كانوا على موعد معها، إثر ما قال، وشعرت أن ما يفعله كان بدافع دفعي إلى مغادرة خجلي وحيائي، وأن احتفظ فقط بما هو مقدورا عليه ومعقول..

فرديت عليه هذه المرة بحسم: يعجبني كل شيء..

ومع الأيام تعلمت الكثير وتجاوزت ما هو أكثر..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى