فضاء حر

إرهاب يخلق إرهاباً

يمنات

عبد الباري طاهر

لم تستطع الأمم المتحدة التوافق على تعريف محدد للإرهاب، بسبب اختلاف الأيديولوجيات والمواقف السياسية المختلفة للدول الكبرى صاحبة النفوذ في مجلس الأمن. فهذه الدول، هي نفسها، ضالعة في الإرهاب، تمارسه وتوظفه في غير مكان لمصالحها الاستعمارية، ولا تريد تعريف الإرهاب، لأنه يطال ممارساتها في العديد من المجالات.

دول الاستعمار قديمة وحديثة مارست الإرهاب بمختلف أشكاله وصورة وألوانه على البلدان المستعمرة، وكانت الشعوب المستعمرة في القارات الثلاث، وعبر عدّة قرون، ضحايا الحروب الاستعمارية، والفتن، والإرهاب، ونهب الثروات، وهي، أي الحرب، إرهاب بالمعنى الحقيقي.

الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، شاهد جريمة الاستعمار البريطاني والأمريكي، وهو ذروة الإرهاب.

الدول الاستعمارية سدنة الإرهاب. فالاستعمار إرهاب شامل: سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي، وعسكري، ولكنه، وبغطرسة فجة، يسمي كفاح الشعوب المستعمرة لاسترداد حريتها وسيادتها واستقلالها إرهاباً! ويستطيع إعلامه النافذ قلب الحقائق، وتزييفها.

كفاح شعب الجزائر ضد فرنسا إرهاب، ونضال الشعب الفيتنامي ضد الأمريكان إرهاب، وكانت بريطانيا تسمي كفاح الجبهة القومية في جنوب الوطن بالإرهاب، وتطلق على فدائييها لفظ «الذئاب الحمر» والإرهابيين، وأصدرت قانوناً يجرّم العمل الفدائي، ويحكم على الفدائيين بالإعدام. أليس هذا إرهاباً؟

حلت أمريكا محل الاستعمار القديم: فرنسا، وبريطانيا، وورثته، وأصبحت الإمبراطورية الأولى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودولة الإرهاب الأولى عالمياً، وتتشارك معها الدول الاستعمارية بمستويات متفاوتة، ولكنها في الصدارة.

هناك ثلاثة مستويات للإرهاب:

الإرهاب من الدرجة الأولى: يتمثل في الولايات المتحدة، والدول الاستعمارية.

وتحتل المرتبة الثانية الأنظمة الفاسدة والمستبدة والتابعة، فهي ضحية وجلاد في آن.

أما الإرهاب الثالث، وهو الأدنى، فهو التيارات المتطرفة الخارجة على النظام والقانون في أي بلد. فهذه التيارات الإرهابية خلقتها القوى الاستعمارية، والاستبداد والفساد. صناعة الأزمات السياسية والاقتصادية إرهاب يخلق إرهابيين. إهانة كرامة الشعوب واستقلالها إرهاب يخلق إرهاباً أيضاً. التجويع، والحروب إرهاب يخلق إرهاباً. التعصب بصوره وأشكاله المختلفة إرهاب يخلق إرهاباً. التمييز بأبعاده المختلفة الاجتماعية والدينية والعرقية أو باللون أو اللغة أو الجنس إرهاب يخلق إرهاباً. فهناك دائماً إرهاب خالق وإرهاب مخلوق. الدول الاستعمارية تخلق الإرهاب.

لقد جنّدت أمريكا وأوروبا في حربها في أفغانستان ضد السوفيت جيوشاً من الإرهابيين، وقد تسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان في خلق الإرهاب أيضاً.

مولت دول الخليج كتائب «المجاهدين» في أفغانستان وفي العراق وسوريا وليبيا واليمن والشيشان والبوسنة والهرسك وفي غير بلد، وعندما انتهت مهام القتل الموكل لهؤلاء «المجاهدين» جرى الاستغناء عن خدماتهم، بل أصبحوا عُرضة للتجريم والتخوين والمطاردات، خصوصاً بعد حادثتي برجي التوأم. منفذو

ملية برجي التوأم جلّهم سعوديون، وهم خريجو مدرسة التطرف السعودي، وكل سجناء «جوانتانامو» هم من العائدين من أفغانستان من الشباب الذين جندهم الأمريكان، والأنظمة التابعة، وفي مقدمتها السعودية ودول الخليج الغنية وبعض الدول العربية، ومنها اليمن .

سجناء أبو «غريب» أيضاً، ضحايا احتلال أمريكا وحلفائها للعراق وتدميرها. وجيوش «القاعدة» و«داعش» ومفرداتهما صناعة أمريكية وتركية وسورية وعراقية ممولة من السعودية ودول الخليج دمروا بها الحواضر العربية: العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن. والآن تجري ملاحقتهم وتصفيتهم.

و«طالبان» وسجناء «باجرام» في أفغانستان صناعة الأمريكان والمخابرات الباكستانية والسعودية ودولة الإمارات وقطر.

هناك دائماً مستويات للإرهاب: إرهاب خالق، وإرهاب مخلوق. إرهاب صانع، وإرهاب مصنوع. لا يمكن التبرير للإرهاب المصنوع؛ فهو إرهاب، ويُحاكم ويعاقب كإرهاب، ولكن علينا أن ندرك ونميز أن صنّاع الإرهاب الحقيقيين عندما يقومون بمعاقبة هؤلاء الإرهابيين الصغار «الجلادين والضحايا في آن»، إنما يقومون بغسل جرائمهم، ويحملون جرائمهم التلاميذ البلداء والجلادين الضحايا وحتى الحكام التابعين.

معظم البلدان العربية، وبالأخص السعودية، تتبع أمريكا والدول الاستعمارية الأخرى، وتنفذ تعليمات سيد البيت الأبيض؛ فهم تابعون لأمريكا ولأوروبا في سردية الإرهاب، وهم إرهابيون ضد شعوبهم بالأساس، ويغذون الإرهاب أيضاً خارج بلدانهم. ويقيناً، فإن الدول الاستعمارية تدعم نهج الفساد والاستبداد، وقد تحرض عليه أو تتغاضى عنه، للإفادة منه، فهي حريصة على تعميق العداوة بين هؤلاء الحكام وشعوبهم.

في حقبة السبعينات والثمانينات، أو ما يسمى في الأدبيات اليسارية بحقبة «البترو- دولار»، عملت دول الخليج بزعامة السعودية على نشر التطرف الوهابي، وكان من ثماره الكريهة، انتشار وباء العنف والإرهاب في غير بلد، خصوصاً في المناطق العربية والإسلامية.

انتصار الآيات الإيرانية والإسلام الدعوي الاثنا عشري أسهم في نشر تصدير الثورة، وإحياء النزعات الطائفية، وقوَّى أوهام ولاية الفقيه والنزعة الجهادية، وأسهم انتصار حزب «العدالة والتنمية» في تركيا بعودة أوهام دعوة الخلافة الإسلامية للظهور لدى دعاة الإسلام السياسي والإخوان المسلمين بخاصة.

ثورة «الربيع العربي» والدعم القطري حينها أسهما في التمكين للزعامات «الإخونجية» للبروز إلى واجهة هذه الثورات الشعبية التي كانوا جزءاً منها، ولكنهم، وبدعم أمريكي وقطري وتركي، انحرفوا بها عن مسارها الشعبي والديمقراطي.في قراءة حفرية للمفردة «رهب» تكاد القواميس اللغوية تجمع على تفسيرها بمعنى: الرعب، الخوف، الفزع. والترهيب بمعنى التخويف، والتهديد، والوعيد.

أما في القواميس السياسية فهي تعني نشر الذعر والفزع لأغراض سياسية. فالإرهاب في «القاموس السياسي» وسيلة تستخدمها حكومة استبدادية، للإرغام على الخضوع. نصيب «دولة إسرائيلية» وافر من هذه المعاني والأدوات الكريهة منذ التأسيس: أراغون، ليومي، وشترن، وأغودات إسرائيل.

«الدولة الإسرائيلة» نفسها إرهاب كامل الأركان، وإرهابها من الدرجة الأولى؛ لارتباطه العضوي، منذ التأسيس، بالاستعمار البريطاني ثم الأمريكي، وهو، أي الإرهاب الإسرائيلي، قائم بالحرب. فمفردة الإرهاب بكل الأبعاد والدلالات معنى من معاني الحرب. فالحرب رحم مشؤومة يتوالد منها الرعب والفزع والخوف الدائم.

ليس صعباً تعريف الإرهاب. فهو جليُّ جلاء الكوارث والمآسي التي تصنعها الحروب، ولكن الصناع الحقيقيون لا يتفقون على تعريف دولي له؛ لأنه يقيد أياديهم الطويلة الممتدة إلى مختلف أصقاع الأرض، والتي تطول الأمم والشعوب في العديد من القارات.

حفزني للبحث في معنى الإرهاب وتجلياته في سياسات الدول الكبرى ما أثير ويثار في قضية الصحافي القدير جمال خاشقجي. وأنا من المتعاطفين مع إدانة إخفائه، ولكن تبادر إلى ذهني قضية اليمن التي تقود السعودية والإمارات حرباً مدمرة عليها لأكثر من ثلاثة أعوام، ولا تلقى هذه الحرب المتداخلة مع حرب أهلية، تقترف كلاهما جرائم حرب وضد الإنساني، الاهتمام..

يطالب غالبية أبناء الشعب اليمني، دون جدوى، بوقف نزيف الدم، وتشكيل لجنة دولية مستقلة ومحايدة تابعة للأمم المتحدة تحقق في كل جرائم الحرب، ويبرز نفوذ السعودية في الحيلولة دون ذلك. ثم قبل قضية الحرب على اليمن، هناك شعب فلسطين تحتل أرضه، ويفرض عليه التهجير، ويعاني من نظام الفصل العنصري، ويواجه حرباً لأكثر من ثلثي قرن، ولا يلقى الإنصاف أو الاهتمام الدولي.

الحرب على الإرهاب قضية إنسانية عظيمة، ولكنها في الراهن الدولي سلاح مدمر بيد الدول الإمبريالية والاستعمارية تستخدمه ضد الكفاح القومي للأمم والشعوب، وقد توظفه لابتزاز حلفائها وأصدقائها، كما تفعل أمريكا مع تركيا ومصر والسودان والسعودية.

الحملة الدولية لتجريم إخفاء خاشقجي ومعاقبة المتورطين في إخفائه مهمة لحماية واحترام حياة الناس وحرياتهم، ولكن أيضاً هناك شعوب وأمم تباد ويفرض عليها حروب إبادة ولا يجري الاهتمام بها كقضية فلسطين وسوريا وليبيا واليمن والصومال وأفغانستان.

قضية خاشقجي العادلة والإنسانية تُوظف للابتزاز وللتنافس الأمريكي – الأمريكي «الجمهوريين والديمقراطيين». يخشى أن يضيع دم الصحافي في مساومات وضغوطات غير صادقة.

المصدر: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى