العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة .. مقتل صهري وسائقي

يمنات

أحمد سيف حاشد

هناك أحداث غير عادية تعصف بحياة الشخص، و لا يستطيع أن ينساها، ليس لأنه حقودا أو أنه غير متسامح، بل لأنها تصل إلى عمقه، و تشرخ في عمق وجدانه، و تترك أثرها ندوبا عميقة في ذاكرته، و تلازمه في حاضره و مستقبله .. إنها أمر يشبه بمن تسبب لك بعاهة أو إعاقة دائمة، و التسامح عن هذا الحد أيضا ممكنا و مقدورا عليه .. غير إن الأهم من هذا، هو أن المتسبب يظل يستخف بك و بقدرتك، و يتعمد تكريسها بأقوال أو بوقائع مستمرة ضدك، و أكثر من هذا إنه يريد سحقك، أو اخضاعك، أو اذلالك، أو تكريس سلطته الظالمة عليك، و رفضه إنصافك و رفع ظلمه عن كاهلك.

تجربتي مع جماعة أنصار الله حافلة بهذا .. ابتداء من 4 أغسطس 2014 و مرورا بـ 25 مايو 2017 ثم بحملة أوقفوا الحرب في 2018 ثم بمحاولة اخراس ما بقي لي من صوتي، و ممارسة وجودي، و مصادرة حقي في الرأي و التعبير، و الذي بلغت حد استخدام ذبابهم الإلكترونية للإبلاغ الكيدي، و تعطيل حسابين لي في الفيسبوك كانا أكثرا معزة من أولادي .. كانا جزء مني .. فيهما كل شيء بالنسبة لي .. الألم و الوجع و البوح و المقاومة و الذكرى و الحنين و الأمل و التاريخ الأهم في حياتي .. وقائع كثيرة و حافلة سأكتب عنها بدمي، لا بقلمي فقط.

و قبلها تجربتي المريرة مع حزب الإصلاح و من إليه من العام 2011 – 2014 و قبل هذا و ذاك مع نظام صالح .. و بصدد هذا الأخيرة أعرض واحدة من القضايا و التي كانت ضمن قضايا شتى مما صاغت مواقفي في تلك الفترة، و ما تلاها..

إنها قضية مقتل صهري و سائقي عادل صالح يحيى والتي كتبتها في 2004 و نشرتها صحيفة الأيام في عددها رقم 4182 و اعدت نشرها في نشرة “القبيطة” في يونيو 2004 بعنوان وطن حزين و عدالة مفقودة .. و أعيد نشرها هنا “من أرشيف الذاكرة” كونها تتضمن إحدى المحن التي عشتها في حياتي.

***

وطن حزين وعدالة مفقودة

أحمد سيف حاشد

عادل صالح يحيى الذي قتل حزيناً و مقهوراً و يائساً من أن يطال نتف من حق مسلوب و عدل مفقود ضاعا بين سطوة القبيلة و نفوذ الفساد و تواطؤ الجهات المسؤولة و عجرفة بعض أبناء المسؤولين..

عادل .. لا يحمل مسدساً بل لا يحمل حتى سكيناً .. ليس له قبيلة تؤازره أو تأخذ بحقه أو تثأر له في دولة لا زالت القبيلة تنتعل القانون و تكتم أنفاس الوعي و تقتله خنقاً و شنقا..

عادل .. من أبناء عدن الطيبين المعهودين بالبساطة و النقاوة و المسالمة التي يذبحها كل يوم الاستقواء بالمال و القبيلة و السلطة و غرور الباطل و عجرفة الطائشين من أبناء المسؤولين.

حادث صدام طفيف و أضراره لا تذكر .. تم إيقاف السيارتين و جاء رجل المرور الذي كان على بعد مائتي متر أو أقل و طلبنا منه أن يقوم بواجبه وفق النظام و القانون.

تدخل الناس و كادت القضية تنتهي على خير و يا شارع ما دخلك شر .. و ذهبت أنا الى وجهتي و تركت الامر و الحل وشيك..

افضل ما يمكن أن يقال بحق ابن المسؤول انه أستكثر أن يستوقفه رجل المرور لدقائق على قارعة الطريق .. و قبل أن تنتهي عشر دقائق يبلغني المجني عليه بصوت مذبوح و قلب مفطور أن ابن المسؤول الذي لا يتجاوز عمره العشرين سنة قد جاء بأربع سيارات شرطة و جيش محملة برجال كثر بعصي غلاظ و جنابي حداد..

لقد أستأسد عشرون (رجلاُ) على اثنين عزل من السلاح لا يحملان معهم حتى عود عنب و لا يحلمان بغير أن يريا النوارس و اسراب الحمام تطير في سماء و فضاءات الوطن الحزين..

انهالوا عليهما بالضرب و الركل و استباحوا و عاثوا بكل شيء اسمه إنسان .. لم يتركوا لهما فرصة يسمعون منهما منطق أو حجة، بل و لم يتركوا لهما حتى فرصة الهروب من الجنابي التي كادت تقتل لولا تدخل بعض المارة الذين حالوا دون ان تصل الى أجساد المجني عليهما .. و لم يفلحوا بالوصول الى النائب الذي كانوا يبحثون عنه.

احد المجني عليهما تحفظ عن التصريح باسمه لأنه شعر بمرارة لا تطاق و انكسار لا حدود له .. لا تحزن يا عزيزي .. أنهم أبطال من ورق، و الإ كيف لعش دبابير أن يهاجمون نحلة .. معادلة غير متكافئة في وطن يستبيح فيه المال و عربدة المسؤولين و سلطان القبيلة كل شيء .. و أول ما يستباح هو كرامة الإنسان لأنها في قواميسهم أسهل من السهل غير الممتنع و أرخص من البقل و الكراث..

نعم .. يبدون أمامنا ديناصورات لأننا عاشقون للورد و حالمون بالسلام، و لكنهم في الحقيقة أمام من هم أقوى منهم زيف و هراء و خواء مخجل .. كل يوم ينكسرون أمام العدو عشرات المرات .. قواهم تخور، و سلطانهم يتهالك، و عزيمتهم تموت قبل أن يبدأ العدو معهم أول نزال .. فلا تصدقوا هراهم فهم أجبن من فأر..

و لأنكما مسالمان كتب عليكما أن تكونا مجني عليكما، و لن تكونا غير ذلك لأنكما تحملان مناديل بيضاء و عصافير ملونة و قلوبا أنصع بياضاً من القطن و ندف الثلج..

  عدت بعد ربع ساعة الى مكان الاعتداء و وجدت سماء من حزن و جرح يتسع لوطن مقهور و معذب، و إنسان يقبض على وجعه .. و الأخر أشلاء و وقار ممزق .. غير أن ما يحز في النفس أكثر أن تجدهما يداريان عنك جراحهما الغائرة، و يمعنان في الحرص أن لا تصيبك شظية حزن أو شرر من وجع مما حل بهما .. أنه الحب و الأحبة و نبل المشاعر و بعض من نبوة..

عدت و قد انتهى كل شيء و المجني عليهما قد شربا كأساً من علقم و كاسات من الانكسار الحزين و شربت معهما من الانكسار كؤوسا..

انهم يستقوون علنا بالمال و القبيلة و المسؤولية و السلطان و لكننا نعلم أنهم أمام الأقوياء قواهم تخور و جبنهم أكبر من عشرين وطناً..

لجأنا للقانون عساه أن ينصفنا، و طلبنا من النيابة التحقيق في الشكوى و ضبط المعتدين غير أن النيابة المختصة أثرت إحالة القضية لأمن منطقة الوحدة لأنها لمحت فيها ما يعكر صفوها و يوجع رأسها.

استمعت إدارة أمن منطقة الوحدة لأقوال المجني عليهما و كذا أقوال بعض الشهود و كنا نتطلع أن تباشر إجراءات متابعة المعتدين و ضبطهم و لكن ظل ذلك منا أمر بعيد المنال..

نصف شهر يمر و لم يحرك أمن المنطقة ساكناً و لم يتم رفع محاضر جمع الاستدلالات للنيابة .. و عندما سألنا عن مصير القضية قال لنا أحدهم في درج المدير .. ربما كانت ترتعي وبلاً أو تخمد لتفقس صوص و كتاكيت..

عندما ألححنا على مسؤول طيب في المنطقة بمتابعة و ضبط المعتدين أعرب عن خوفه و خشيته أن يتحول الى شاؤوش .. فقلت لنفسي: إذا كانت أجهزة الأمن لا تجرؤ على سؤال أبن مدير فكيف يكون حالها مع ابن الوكيل وابن الوزير و لا أزيد..؟!! و إذا كان هذا يحدث مع نائب فكيف يكون الحال مع المواطن المغلوب الغارق في الهم اليومي و المخنوق بحبال الفقر و النكد و سطوة الحاجة..؟!! إنها مفارقات تكشف عن بشاعة و مساوئ تقتل الإنسان و تذبح مشاعره دون استئذان..

بعد نصف شهر من وجود القضية في أمن المنطقة و بعد أن يئسنا من أن تقوم إدارة الأمن برفعها للنيابة أو باتخاذ أي إجراء ضد المعتدين، و بعد أن لقى المجني عليه حتفه أتصلت بمدير أمن المنطقة لأبلغه عتبي و خيبة أملي و شدة صدمتي؛ فأجابني بصوت غير عابئ لا يحمل وزناً لضحية مثل الغلبان المقهور عادل: (أنا لست موظفاً معك) .. بعدها أدركت أن هذا الخطاب يقف وراءه دعم و سلطان و تعالي مسؤول .. نعم هذا يحدث مع نائب فكيف الحال مع المواطن المكدود الذي تسحقه الظروف و يطحنه الواقع المأزوم الطافح بالفساد و القبيلة و عنترية المسؤولين.

و لا أخفي سراً إن قلت: لقد كنت أتمنى أن تعلم وزارة الداخلية لمثل هؤلاء مادة القانون و لكن صرت أتمنى اليوم أن تدرسهم أيضاً الذوق و الأخلاق مع المواطن، لأن المصيبة أكبر و الأمر جلل عندما يجتمع الجهل مع عدم الذوق في رجل يفترض أن يحمي كرامة و حرية و دماء و أعراض الناس.

و للحريات أحزان و ماسٍ أخرى .. لقد أتصلت بعد سويعات من وقوع الاعتداء بواحد ممن يدعون أنهم حماة الحقوق و الحريات، و أخبرته بقلب دام بما حدث ، و لكنني يا ليت ما فعلت، فقد تلذذ الرجل بما حصل، و عرفت أنه مدع عابث لا يعرف للحقوق و الحريات طريق، بل اكتشفت أنه رجل أمن لا زال يعيش بعقلية الحرس القديم التي كانت تصول و تجول في حقبة السبعينات و الثمانينات رغم أنه حديث ولادة و طري عهد .. و اكتشفت أيضاً و هو ما لم أكن أعرفه من قبل إن لدينا ليس فقراً في الغذاء فقط، و لكن لدينا فقر كذلك في السياسة و الحقوق و الحريات، و كلل في النظر و عمى في البصيرة..

و في مجلس النواب قمت بجمع حملة توقيعات من أعضاء مجلس النواب لهيئة رئاسة المجلس بلغت في ساعة أكثر من تسعين توقيعاً على عريضة يطلبون فيها من هيئة رئاسة المجلس تشكيل لجنة تحقيق و متابعة لضبط المعتدين غير أن الرئاسة أحالت الأمر على لجنة الدفاع و الأمن و الذي أبلغني بعض أعضائها إن (المسؤول) قد حكم باثنين بنادق .. و ضغط البعض لأقبل التحكيم، بل و ألمح أحدهم أن تقرير اللجنة سيقع مثل تقرير رداع و لا زلت لا أعلم شيئاً عن تقرير رداع، و لكني فهمت أن الأمور ستأتي بما لا يسر إن لم أسر بإجراءات التحكيم.

عادل صالح يحيى

 

لقد حاولت دون جدوى أن أفهم بعض (الناصحين) و غيرهم أن أبن المسؤول و جماعته ما كانوا يجرؤون على فعل ما فعلوه لو أدركوا أن القانون يطالهم و لو بحبس يوم واحد، و عرفت أن فلسفتهم تقول: أكسر كرامة المواطن الطيب و الغلبان كعود ثقاب ثم أسليه و ارضيه بذبح شاة أو عقر ثور .. و يظل هو الشامخ على مر السنين .. ظافراً و منتصراً و منتشياً على الوطن البائس و المواطن الغلبان.

نصحني أحد الزملاء أن أحتاط و أبحث عن بعض القتلة و قطاع الطرق ليكونوا لي حراسا و مرافقين و أعواناً أصون فيهم كرامتي و حياتي و حياة و كرامة من معي مثل ما يفعل أخرون كثيرون، و لا بأس أن أعتدي على من هو أصغر مني إن شئت لأبني مجداً حتى لو كان من أشلاء ضحايا المجد في وطن بائس و حزين و موجوع أكثر منا .. فقلت له لن أفعل و إن ظلوا هم كذلك يفعلون.

و ما زالت رحلتي مع العدالة المهترئة مضنية و شاقة، و ما زلت في أول الطريق، و ما زالت أطالب بضبط بقية المعتدين و هم كثر، و طريق العدالة في بلادنا متاهة لا تنتهي، و قد ينتهي بك العمر قبل أن تطال أريجاً منها .. و لكن هذا قدرنا في بلد لا زال قدرها يعبث به المال و الجاه و الفساد و سلطان القبيلة و بعض من أبناء المسؤولين.

و ما زلت أسمع حي المجني عليه قبل أن يموت و هو يطلب من المحقق أن يضبط المعتدين و يأخذ القانون مجراه، بينما يقاطعه صوت موجوع أخر و يقول: لا قانون و لا يحزنون لمن ليس لديه مال أو جاه أو سلطة أو قبيلة .. و أنا لا أملك غير كلمة موجوعة و عزاء متشح بالحزن و متلوي بالألم أقدمه لأم عادل المشلولة و الثكلى و أبنائه القصر و زوجته و ذويه المحزونين .. و أملنا في غد أفضل و وطن سعيد ينتصر فيه العدل و يسود فيه القانون..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى