العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة .. قصتي مع الأشباح (1)

يمنات

أحمد سيف حاشد

– عندما كنت صغيرا ـ لم أعد أتذكر بأي عمر ـ ربما في الخامسة أو أقل منها أو أكثر بقليل، كنت أخاف، و أعيش رعب الجن و الظلام .. كنت أسمع أمي تتحدث عن جن “الداجنة” القريبة من بيت أهلها القديم .. كما كنت اسمع أبي يتحدث عن الجن، و يروي بعض الحكايات عنهم .. كنت أشعر بالرعب و الخوف و الهلع، و أنا أسمع ما لا يقوى على سماعه طفل بعمري الصغير .. كل تلك الحكايات، كانت تسرح بي إلى البعيد .. كنت و أنا أسمع تلك الحكايات أعيش بذهن طفل، و قلبي الصغير يخفق داخلي، و يدق كالطبل الكبير، و يحتشد في وعيي اللزج ما هو مرعب و مخيف .. كنت أحاول كتمان مشاعر الخوف التي تزلزلني من الداخل بصمت كتوم.

– كنت أشعر بالوحشة و الخوف و الهلع و هم يتحدثون عن الجن و الشياطين .. كان الظلام يخيفني، و كانت درج دارنا القديم مظلمة، إلا من بصيص نور خافت يتسلل من كوة أو كوتين صغيرتين في الجدار .. كنت عندما أصعد أو أنزل الدرج منفردا، أركض مسرعا كالريح، دون أن ألتفت إلى الوراء، حتى انجو، و للحيلولة دون أن تلحقني يد جني أو جنية أو مس شيطان، ربما يختبئ في إحدى الزوايا المعتمة في سلم درج الدار .. كنت أعيش و أنا في تلك السن الصغيرة معاناة يومية مع الجن و الدرج و الظلام..

– عندما انتقلت إلى دارنا الجديد الذي بني على مراحل، و كان يومها دكانا فوقه ديوان، لا زال بابه مكشوفا، و من دون باب، غير حزمة من الزرب تُنحَى مع الفجر، و تعاد إليه قبل النوم أو بعد المساء بقليل، و في مدخله كان يوجد مطبخاً صغيراً .. كنّا يومها ننام في الديوان و نترك الفانوس يضيء على نحو خافت أثناء النوم .. صحيت أنا و أبي مذعورين من الفراش على صوت أمي، و هي تستنجد بأبي و تقول: “خربي خربي .. البندق البندق”.. لقد شاهدت أمي يدا ترمينا بالحصى، من جانب قطب الدرج جوار مطبخنا الصغير .. كانت أمي قد لمحت وجه متخفي باللثام .. هرع أبي ببندقيته، لنكتشف جميعنا أنها امرأة جميلة و مغامرة، تلبس في دجى الليل لبس الرجال..

– كنت أسمع عن خالي الذي فاق طموحه اللامعقول، و حاول اقتحام عالم الجن لا ليكون واحد منهم، بل ليتوج نفسه ملكا عليهم، و يجعلهم له طائعين و مخلصين .. أراد أن لا تعصى أوامره و لا تُرد بحال .. أراد أن يسمع منهم: “شبيك لبيك نحن بين يديك” .. أوامره مطاعة من أول وهلة، و مستجابة من اللحظة الأولى، و تنفذ دون تلكؤ أو تردد، و من غير نقاش أو سؤال .. أراد أن تكون لكل إيماءة تصدر منه ألف حساب .. باختصار أراد أن يكون “سوبرمان” و لكن على نمط ذلك العهد، و الطراز القديم.

– كان خالي هذا لا يريد أن يستوزر ملكهم، بل يريد أن يكون هو ذات الملك .. أراد امتلاكهم ليكونوا له عبيدا طائعين .. أراد أن يعيش ملكا في عالم خرافي لا يخترقه و لا يجرؤ بالتفكير به إلا من يملك شجاعة فذة، و رباطة جأش نادرة .. ربما بدا له المستقبل، عالم خرافي يستحق المغامرة .. لا بأس في أمر على هذه الدرجة من الأهمية أن يغامر و يجازف المرء من أجله، فإما أن يكون ملكا في عالم الجن، أو مجنونا في عالم الإنسان..

– و من “جلب موجر” في الجبل، أراد الانطلاق إلى عالم الجن، ليعترش مملكتهم بكتاب .. كاد يجن و هو يقرأه في خلوة موحشة، لتحقيق حلما عصيا، يحتاج منه إلى شجاعة و رباطة جأش خارقة .. كانت أمي تروي التفاصيل المخيفة، و التي انتهت تجربته بسماع حوافر الخيل على السقف الذي كاد يسقط عليه، و رمى بالكتاب فزعا، و غادر خلوته و المكان راكضا، مرعوبا و مذعورا، بعد أن فاق حمله تحمُّله و قدرته..

– عندما صار دارنا الجديد ثلاث طباق .. كنت أنام في الديوان مع أمي و أبي و أخوتي الصغار، و في ليل شاتي و داجي و طافي الأنوار استيقظت من النوم، و الليل شديد الحلكة و السواد، و السكون يسمعك دبيب النمل، و “حركشات” البقرة في اصطبلها، و الدجاج في “دومهن” خارج الدار .. سمعت وقع خطوات ثقيلة على سقف الديوان .. ظلت تشتد و تزداد .. ثم صارت شديدة السرعة و الوضوح .. ثم سمعت كلام و أصوات بدت لي واضحة .. قرأت مع نفسي سورتي الإخلاص و الفاتحة، و سورتي الناس و الفلق، لأحرق الجن، و لكن دون جدوى و من غير فائدة؛ فصرخت بكل صوتي، مرعوبا و مذعورا، و شق صوتي الليل و المكان، و ما إن شاهدت “تريك” والدي المنتفض يضيء بيده، شعرت بالنجاة و عودة النفَس، فيما كانت أمي تحتضنني بخوف و قوة، و تتعوذ من الشيطان الرجيم، و أبي يقرأ سورة الجن لحرقهم، و أنا أرتجف رعبا و هلعا و خوفا .. قامت أمي و أخرجت من صندوقها الحديدي حرز “السبعة العهود” و ألبستي إياه .. نلبسه حرزا في الشأن الجلل و العظيم .. شعرت بالسكينة و الاطمئنان، و لم ينام أبي و أمي ليلتها إلا بعد أن ولجت في النوم، و غطيت في نوم عميق..

– و في سنة أولى من أيام الثانوية على الأرجح، و حالما كنت عائدا من عدن عن طريق منطقة “شعب” التي كنّا نرخي فيها الرحال، لنستريح قليلا حتى يدخل الغلس، ثم ننتقل منها إلى قريتنا البعيدة عبر طرق تحتال على نقاط أمن الشمال..

– كانت هناك مزاعم قديمة في ذهني من أيام الطفولة الأولى تحكي أن المنطقة الخالية من السكان في “موجران” تحت الدار الأبيض من جهة الشرق، مسكونة بالجن و العفاريت .. كان لي في هذا المكان قصة تثير الضحك و الشجون..

– كان الوقت قريب من منتصف الليل .. كنت حينها أحمل بيدي مسدسا نوع “تاتا” روسي الصنع، معمرا و جاهزا للإطلاق، للتعامل مع أي مفاجأة أو طارئ يعترض طريقي في ذلك المكان .. كان المسدس يعطيني شعورا بقدر من الأمان و الثقة بالنفس، كما كانت معتقداتي القديمة قد تضاءلت، أو أقل حدة من تلك التي كانت في أيام طفولتي الأولى..

– فجأة و في المكان الخالي و التي تكثر فيه مزاعم الجن، شاهدت شيئا أسودا و أكثر سوادا مما حوله .. بدأ لي جسما ضخما إلى حد ما يتوسط الطريق، و كأنه يعترض طريقي .. أردت أن أنحو لليمين بعيدا عن هذا الذي أشاهده ملتبسا بالظلام، و لكنني شاهدته ينحو معي نحو اليمين، حاولت أن أنحو في الاتجاه يسارا فأراه ينحو معي نحو اليسار .. إنه يعترض طريقي أينما ملت، طالما أنا أتقدم إلى الأمام .. كانت العودة من حيث أتيت صعبة و مرهقة، و أصعب منها كيف أجيب على أصدقاء والدي في “شعب” و الذي انطلقت من لديهم في أول الليل، حالما يسألوني لماذا عدت!! لا أريد أن يقولوا عني أنني جبنت و ركبني الخوف .. آثرت التقدم إلى الأمام، طالما طوع يدي مسدسا جاهزا لإطلاق النار على الفور..

– تقدمت إلى الأمام في وضعية منحنية و متسللة نحو ذلك الشيء الملتبس لاكتشف ماهيته، و أصبعي على زناد المسدس جاهزة للضغط و إطلاق الرصاص في أي لحظة .. تقدمت متسللا أكثر فأكثر .. اقتربت و دنيت، و عندما صرت قريبا منه، و على شفق خفيف اكتشفت إنها نخلة متوسطة الحجم، كان النسيم يحرك سعفها، و بالتباسها بالظلام و الوهم القديم الذي سمعته بدت كشبح يميل يمينا و يسارا حتى توهمت أنه قاصدا اعتراض طريقي، و منعي من المرور، فتنفست الصعداء و أنا أضحك من نفسي على نفسي..

 يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى