العرض في الرئيسةفضاء حر

من أرشيف الذاكرة .. مشكلتي مع اللغة العربية

يمنات

أحمد سيف حاشد

– منذ مدرستي الأولى حتى الثانوية، كانت اللغة العربية يوميا، تعلكني ساعات عدة .. كان قدري يعك معها حد جنوني و اليأس .. سنة كانت ذهبية، و إحدى عشرة كانت جدباء لا مطر و لا عشب .. لم أفهم منها غير قليل جدا رغم العلك و رغم العك .. هل أصرخ في وجه الخيبة يا هولاه!! يا دؤلي و سيبويه..!! صرت اليوم في العقد الخامس من عمري المثقل، و أنا العربي لا أحسن أن أقرأ أو أكتب نصا في العربية..!!

– أحمل عُقدي، و عُقدي تكبر مع كبر السن .. عقدي صارت أكبر منّي .. صارت مرمى جمرات، و صرتُ مرماة للنقد .. اسئلة تعترض طريقي: كيف أكتب بوحي..؟! كيف أكتب وجعي..؟! و آمن من النقد، وباله!!

– لغة الضاد تنفيني بعيدا .. تقصيني بإلحاح .. لغة الضاد و ذاكرتي ضدان .. نحن ضدان نتنافى حتى أطراف الأرض .. نحترب دون هوادة .. نعترك ألفا في اليوم .. ما هذه الأقدار السوداء..!! هل كُتبت أقداري في لوح الله المحفوظ باللغة العربية..؟!

– أن أحاول أنظم بوحي بقصيدة، أصعب عندي من أن تصعد روحي للرب .. إن أتسلّق جبال الهملايا، و أطير من أعلى جبال الألب، أسهل من همزة تسألني عن موضعها .. الإملاء أشد عليّ من ضباع الفلوة..

– “التشكيل” يشبه مسرح حرب عبثة، و وغى بلغ الذروة .. لغتي عُقد أعقد من أن يصلحها نحاة العالم و علماء النفس .. إن تحفر بيرا في الصخر الصلد .. أن تستخرج نفطا من العمق الضارب في الأرض، أيسر من إعراب بضعة أسطر..

– لغة الضاد تحتاج ذاكرة كونية .. و تشكيل الكلمات في الإعراب تحتاج جيوشا جرارة، أكثر عددا من بطالة هذا العالم في هذه الألفية .. نحن في عصر السرعة لا في العصر الأول .. ألف سنة تيه في لغة الضاد، لم تصنع قلما، أو طبشورا، أو تصنع يوما إبرة..

– جمجمتي تزدحم بركام الماضي .. جمجمتي تنفجر بهذه الكثرة .. بهذا الإملاء و هذا النحو .. ضاع العمر سدى، و الوقت الأطول مهدور بالرفع و النصب و الجر.. بالضم و الفتح و الكسر..

– ضاعت أمتنا ألف سنة، و لازالت تمعن في التيه إلى الآخر .. لازالت تستمتع بالجهل الغارق .. الجهل مميتا جدا، و الأكثر موتا أن نسميه صحوة إسلامية .. أمة لا تصحو و لا تريد أن يصحي أحد فيها .. لا تريد بصيصا من أمل يحيينا بعد يأس طال .. لا تريد تغييرا يشق طريقا فيها .. جهلها أوغل في وخم الجهل و الجهل الضخم .. الجهل بلغ حد الموت و نفاذ الصبر..

– أمة لا تملك غير وهمٍ باذخ .. لا تصنع إلا عجزا يكبر .. لا تنتج غير خطباء يجيدون الإلقاء، و بلاغة تخدعنا من ألف سنة .. عاهات تتعمم دور الإفتاء، و فتاوى تصدرها أكثر وبالا و خرابا..

– عاهات أسموها علماء أعلام، و هم العالة على العصر و على العلم و أعلامه .. فتاوى من القرن الهجري الأول لازالت تحكم أمة بعد القرن العشرين .. أمة تستدعي وعيا من أيام الصحراء و البعران .. وعي مثقل بالكلس و سم الزئبق .. تستدعيه من أغوار الماضي إلى ثالث ألفية .. تعيش قهرا شديد الوطأة، و غربة عن العصر الراهن، ثم تزعم أنها بين أمم العالم، هي الأمة الحق..

– حشرجة الموت تغوص في حنجرتي .. غصات تذبحني و نشيج يطلع كالنار .. سكاكين علسه تقطع حبالي الصوتية .. في صدري عاصفة من ضيق .. ظنّوا أن العلم هو فتاوى رجال الدين .. أجاد الخطباء البلاغة و التغرير .. جهابذة اللغة أضاعونا بين شروحات النحو و تفاصيل التيه..

– قالوا: في النحو أبواب و فروع عدة .. أبنية و صيغ شتّى .. رسوم و مناهج تتعدد .. و ضبط الكلمات في آخرها أمر لازم، و دون هذا الضبط الأمر مُعوج .. قالوا في قصيدة بوحي الأولى أثرا زادوا فيه: هذا شذوذ في القول، و هذا لحن مجدور الوجه، و ذاك نبحُ كـلاب، و تلك أصوات سنانير..

– قالوا: في هذا تحريف، و في تلك تجريف، و في ذاك أكثر منه .. هذا نحو و هذا صرف و هذا عروض و أشياء أخرى .. في الأمر فِرق و مذاهب شتّى، ضاع فيه ما أحفظ، و طار ما وعته ذاكرتي في خمسة عقود من عمري المهدور .. أسأل عقلي المحتار: كيف أنجو من لغة ليس لمثلي فيها نجاة..؟!!

– محتار بين الضاد و الظاءِ .. الضدان يدان تحاصرني و تطوق عنقي .. لا أكتب سطرا يخلو من خطأ فيه بحجم خروف، و نحوي المتواضع يخلط مائي في الزيتِ .. العمر يمضي هدرا، و أنا لا أجرؤ أكتب سطرا من بوحي و أحزاني السود .. حتى لا يبدو حالي اللغوي أمام جهابذة النحو أشبه بزرع عبث به القردة..

– جامعتي لم أدرس فيها لغة عربية .. جامعتي فيها لغتين الإنجليزية و الروسية .. أربع سنوات مرت دون أن نجني غير لغات الخيبة .. تخرّجنا و نحن نمشي في العربية على أربع..

– و في معهد القضاء العالي، تعلّمنا فيه، أن سهيلا نجما، و قد كان عشار جابي ضرائب، فمسخه الله عبرة .. يا هذا الجهل..!! إن سهيلا في الواقع نجم كان و لازال أقدم منّا و من الأرض، و مجموعتنا الشمسية .. إن كان هذا العالي قضاء، فكيف الحال بما دونه .. هذا العته البالغ، و هذا التعليم المعتم..؟!!

– تعلّمنا في هذا المعهد أن الفيل مسخ لرجل كان لوطيا، و الأرنب امرأة كانت تحيض دون أن تغتسل من دم الحيض .. فكانت حكمة .. كم هذا الهراء وخيما في الألف الثالث و عمر ضاع سدا..

– في مكتبة معهدنا العالي، ألف بحث متخصص، في الصوم و الحيض و الصلاة الوسطى .. في معهدنا كدت في بحثي المجنون أن أفشل، فيما قضاة الحيض حازوا مرتبة الشرف و التكريم..

– في معهدنا أستاذ في العربية جاء من العصر الحجري لم أفهم منه شيئا .. و آخر جاء من القرن العشرين لم أفهم منه كلمة .. في معهدنا العالي تعلمت كيف أكون غبيا في التفكير، و كيف أعيش العمر بليدا، حدا يتحدى الأحجار..

– ما هذا التعقيد يا نحاة الضاد .. درب قواعدنا لا يسلكها إلا فارغ يتمطى كل الأوقات، و فراغ يتحدى الريح .. كونوا بسطاء يا نحاة كبساطتنا .. نحتاج تسهيلا و وسائل ايضاح .. نحتاج مرونة قصوى .. نحتاج تفكيك عقد صارت أكثر تعقيدا .. التعقيد في عصر السرعة و بالا لا ينتج علما أو معرفة .. التقعيد أصفاد و قيود ترسف فيها أقدام الحرية..

– النحو مُرهق جدا .. و هذا الإملاء المُشكِل ، و هذا التقعيد يقسم ظهر ألف حمار .. أمة تهيم على الوجه ألف سنة .. معها أعيش الماضي مُرغم؛ و المستقبل في وجهي مقفل بالنار و بالممنوع..

– مطلوب منّي أهيم على وجهي ما بقي لي من عمر .. أذرع صحراء الربع الخالي، و بادية كبرى بلا أطراف و لا أرداف .. لازلت أذرع أرض قريش .. عالق جدا بين الضاد و الظاء.. و الساكن أن ملتُ إليه، قالوا: “هذا حمار النحو” .. أريد لغة أسهل يا عالم .. لغة أرقى ببساطتها و سهولتها، دون تعقيد أو تعنيف..

– قلت بإيقاع في سياق منغوم أبحث فيه عن عقل مرهف “في صحوي و النوم”. قالوا أنت أخطأت كثيرا يا هذا، و قتلت النحو .. اعدل عن هذا المنحى الفاجع .. أنت مرقت و عبثت بفصول العام .. أنت خلطت خطوط العرض بخطوط الطول، و حرفت الأرض من محورها .. قل: في “صحوي و نومي” و هي صحيحة في كل الأوقات..

– أنا حاولت أشجي السامع بإيقاع من موسيقى، و فسحة من حرية في وجه الضيق .. الموسيقى لا تقتل حيا .. الموسيقى تحيي الأرواح في مقبرة الموتى .. شاهدت أرواح الموتى ترقص منتشيه على صوت و موسيقى مايكل، و أرباب الفن..

– حاولت أن أمسك زمام النحو بكلتي يداي .. حاولت أقبض على كل الأدوات .. حاولت احفظ كل الأخوات .. حاولت الإعراب .. بديت كالحامل أمتعة عدة .. يدان لا تكفي لحمل الأغراض .. صار شكلي ـ و أنا أحاول ـ مضحك جدا .. كلما سقط متاع أرفعه، فيسقط اثنان، و على هذا المنوال، حتى وقع الحامل و وقع متاعه .. فضجرت و ضقت من الإعراب، و كرهت حنبلة النحو و الإعراب..

– النحو مُرهق للغاية، و الإملاء دوار حد الإعياء، و التشكيل يشبه ساحة حرب بشعة .. نحن في الألف الثالث .. كيف لا نتمرد على لغة قريش، و ألف نظام بائد..

– قالوا “حتى” حرف عطف، و في موضع آخر قالوا: حرف جر، و في ثالث قالوا: عطف جملة على جملة، و في موضع رابع قالوا: ظرف زمان .. و قالوا أكثر من هذا .. قالوا: التشكيل يختلف تبعا له .. يتغير قبل و بعد الحرف .. إن كان هذا يحدث في الحرف الواحد؛ فكيف بآلاف الكلمات يا نحاة العربية..

– نريد تسهيلا يا نحاة العربية حتى نبوح .. نريد أن نتجاوز شدّ زاد، و تشدُدا بلغ الآماد .. نريد أن نتحرر من هذا البد .. نريد تجديد لغتنا العربية .. نريد للعربي أن يخرج من غربته في هذا العصر .. نريد العربي يخرج من غربة لغته .. نريد بساطة .. نريد حياة و حرية..

– إن لم يحدث هذا سنقول: كان أتاتورك محقا فيما ذهب إليه .. كان محقا بإدارة ظهره للعربية، كان محقا فيما ألقاه من عبء كان ثقيلا على كاهل أمة .. و به أزاح عقبة كأداء من طريق مستقبلها..

– سنقول ما قاله سلامة موسى من حق .. كان محقا فيما قال لقطع دابر تخلفنا عن حاضرنا و عن هذا العصر .. كان محقا و هو يوصينا بلغة أخرى، و خيارا آخر بدلا من مأساة هذا المكث .. و بدلا من أن نذوي موتا في القرن الأول هجرة .. ولعا في بلاغة خطبة، لا تتقدم خطوة نحو العصر..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى