العرض في الرئيسةتحليلات

حرب مارس 1972م بين الشطرين

يمنات

قادري أحمد حيدر

الإهداء/
إلى روح العلامة الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني رمزاً وطنياً يمنياً كبيراً، ورجل سياسة مدنية، وصل إلى قمة السلطة في لحظة انكسار وطنية، (5 نوفمبر 1967م التي حولت النصر العسكري في السبعين يوماً إلى هزيمة سياسية كاملة، وبعد هزيمة قومية في يونيو حزيران/1967م ). ومن هنا فائض التحديات التي اصطدم بها في محيط سلطوي عصبوي متخلف.. محيط لم تكن علاقته ودية مع حلم اليمنيين ببناء الدولة الوطنية الحديثة .. على أن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني هو أحد أهم رموز حركة المعارضة السياسة اليمنية التاريخية، دخل إلى السياسة من باب المعرفة والفكر والثقافة والأدب، ولذلك حافظ على توازنه السياسي، وعلى قيمه الوطنية والأخلاقية.. بمثل ما دخل إلى الحكم نظيفاً بسيطاً، غادره شريفاً طاهراً عفيفاً لم تلوثه السلطة بمثالبها.

1-خلفية سياسية 
لا يمكن قراءة التوترات والحرب بين الشطرين، سواء حرب 1972م أو حرب مارس 1979م بعدد لك، فقط بإحالتها للأسباب والعوامل السياسية الداخلية (اليمنية) العائدة إلى الحساسيات الأيديولوجية والسياسية بين نخبتي الشطرين، أو اختلافهما حول قضية الدخول في الوحدة المباشرة بعيد استقلال الجنوب، ولا إلى فعل التوجه السياسي الداخلي لبناء السلطة والدولة، لكل من الشطرين، وكذا للحسابات السياسية الصراعية العائدة إلى ما قبل قيام دولة الاستقلال الوطني في الجنوب (حرب الجبهة القومية والتحرير) وطبيعة السلطة السياسية التي وصلت إلى الحكم بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، بعد حسم الصراع مع القوى الملكية الإمامية وما أعقبتها من أحداث وتطورات، وعقد اتفاقية جدة في مارس 1970م تحت مسمى “المصالحة الوطنية” مع الملكيين وبعدها مع السعودية. إن كل هذه العوامل مجتمعة، السياسية والأيديولوجية والتاريخية، حاضرة أمام كل من يبحث ويقرأ في سؤال الحرب بين الشطرين. ولكن يبقى العامل الخارجي هنا أساسياً وحاسماً في صورة البعد العربي الإقليمي (السعودية) والبعد الدولي، أي مناخ صراع “الحرب الباردة ” بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، أو الشرقي والغربي. وحول البعد الدولي، أي صراع الرأسمالية والاشتراكية، يقول مؤلفو كتاب “علي عبدالله صالح، 25 عاماً من القيادة السياسية” ما يلي: “كان الشطر الجنوبي هو الذي يعمل على زعزعة استقرار المنطقة وينفذ ما يطلبه المعسكر الشرقي منه، وكان من ضمنه المواجهة والعداء الدائم مع الشطر الشمالي واحتضان المتمردين على النظام (..). لهذا كان للحرب الباردة الدور الأكبر في تحريك أصابع المواجهات والحروب، بين الشطرين”. (1)ونقرأ ذات الرد الاتهامي والأيديولوجي في كتابات وخطابات الطرف الآخر. ويلعب الموقع الجيوسياسي الاستراتيجي لليمن شمالاً وجنوباً دوراً في ذلك التوتير والصراع وصولاً للحرب، خاصة وأن أسباب وعوامل الحرب الداخلية قد توفرت من بعد أحداث 23/ 24 أغسطس 1968م، ونزوح مجاميع عسكرية كبيرة بين الشطرين مسلحة ومدنية و إلى أرياف شمال البلاد، ومن ثم إلى جنوب البلاد ونتج عن ذلك نشوء بؤر توتر عسكرية كبيرة لم تتوقف منذ بداية السبعينيات ، حيث اندلعت من عام 1971م في مناطق إب وريمة ورداع (المنطقة الوسطى). وفي المناطق المتاخمة للحدود بين الشطرين: قعطبة، الحشا، دمت، البيضاء ، نشأت حركة تمرد وتكونت فرق مسلحة تحت قيادة “منظمة المقاومين الثوريين” التي أنشأها أعضاء سابقون في حركة القوميين العرب، فاستغلوا سخط وتذمر الفلاحين إزاء استغلال شبه الإقطاع ومشايخ القبائل لهم فنظموا تمرد الفلاحين والأعمال التخريبية ضد المستغلين (2).

وترافق ذلك سياسياً وعسكرياً بصدامات مسلحة بين دولة الجنوب ، والعربية السعودية حول منطقة “الوديعة” أواخر عام 1969م، وتحولت إلى بؤرة صراع واشتباكات بين النظام في الجنوب وبين السعودية. والسعودية هي الدولة العربية الوحيدة –إلى جانب دولة أخرى- لم تعترف بدولة الاستقلال الوطني في جنوب اليمن من الاستعمار لسنوات طويلة ، بمثل ما لم تعترف بالنظام الجمهوري في شمال اليمن إلا بعد اتفاق المصالحة 1970م، ودخلت مع دولة اليمن الجنوبية في معارك حدودية من بعد قيام دولة الاستقلال على أساس التناقض مع المضمون السياسي الوطني والقومي التحرري لدولة الجنوب الوليدة وذلك بإيعاز من وحدة مصالحها مع الغرب الرأسمالي . ومن هنا تعزيز وتقوية صلاتها السياسية والعسكرية والمالية والأمنية مع جمهورية 5 نوفمبر 1967م، والذي توج لاحقاً بعقد اتفاق “المصالحة” مع السعودية والملكيين في اتفاق جدة مارس 1970م .وفي أكتوبر –نوفمبر 1970م حدثت اشتباكات كبيرة على الحدود السعودية .واليمنية الجنوبية، وبين القوات الجنوبية اليمنية وجيش ما سمي بـِ “تحرير حضرموت والمهرة”، المشكل بدعم نشط من السعودية، ومن اليمنيين الجنوبيين النازحين من اليمن الديمقراطية والمناهضين للنظام الجديد هناك (3)، ومن بقايا تجمعات جبهة التحرير(4).

وفي هذا الاتجاه بدأت المواجهات وتوسعت الاشتباكات بين حين وآخر. فبعد أن بدأت يمنية جنوبية / سعودية، في البداية، ويمنية جنوبية شمالية، استقرت–مع الأسف– في الأخير لتنحصر في حدود التوترات والصراع والحرب بين الشطرين. وبمقدار ما كانت العلاقات تتوسع وتتعزز بين الجمهورية العربية اليمنية والمملكة السعودية، كانت تتوتر وتتناقض العلاقات بين نظامي الشطرين. فقد اشتغل أمراء الحرب في الشمال على نزوع التطرف الأيديولوجي والخطاب الطبقي الثوري في بعض اتجاهات الحكم في دولة الجنوب، لتبقى قناة الصراع والتوتر والحرب مفتوحة، وبالمقابل لجعل فاتورة الدعم بالمال والسلاح فاعلة وشغالة للحصول على مزيد من الدعم لجماعات الحرب من زعماء مشايخ القبائل وتجار السلاح. وكان الشعب ومصالحة ومسار التطور الطبيعي (الاقتصادي والاجتماعي والتنموي) في شطري الوطن الخاسر الأكبر بتعطيل مسار عجلة تنمية المجتمع، وبالمقابل الثراء الفاحش لأمراء الحرب من زعماء القبائل وتجار الحروب، وازدياد التدخل أو الحضور الاقليمي والدولي في شؤون الشطرين بالخبراء والمستشارين السياسيين والعسكريين.

2-موقف القاضي الأرياني والعيني من حرب 1972م.

للحقيقة والتاريخ وإنصافاً لدور القاضي عبدالرحمن الأرياني والأستاذ محسن العيني، يمكن القول إنهما كأسماء وكقيادات سياسية وطنية في قمة السلطة، لم يكونا رجلي حرب ولا داعيين لها، وكانا دائماً مع خط التطور السياسي الطبيعي السلمي للبلاد، سواء على الصعيد الداخلي أم في العلاقة مع الجوار اليمني (دولة الجنوب الوليدة) أم مع دول الجوار العربي (السعودية ومصر).

وقد انطلق الاثنان في استراتيجيتهما من عملية بسيطة بانتهاج سياسة خارجية مستقلة عن العربية السعودية تضمن للجمهورية العربية اليمنية إمكانية العيش بسلام (…) على أمل ترسيخ الأجهزة المركزية للسلطة وتعزيزها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، وبالتالي خلق المقدمات بانتهاج سياسة داخلية مستقلة (5)على طريق بناء الدولة الوطنية الحديثة.

ولكن يبدو أن السياسة المستقلة ضمن معادلة السياسة، والقوة الحاصلة في البلاد وفي قمة السلطة، لم تكن تسمح بتميز وبروز ذلك الخط وذلك النهج السياسي الاستقلالي، خاصة في واقع الانقسام الحاد بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وانعكاساته السياسية المباشرة على الداخل الوطني اليمني (شمالاً وجنوباً)، أي أن مشروع الاستقلالية الجنيني بقي حلماً بعيد المنال، مرتهنا لحالة الاشتباك في الجبهة الحدودية بين الشطرين كراً وفراً. 

وحول بداية اشعال شرارة حرب 1972م بين الشطرين، والتي تمثلت مقدمتها العملية والسياسية في مقتل الشيخ علي بن ناجي الغادر، يكتب ويقول الرئيس/ القاضي عبدالرحمن الإرياني في رسالة موجهة للعقيد محمد بن عبدالله الإرياني وإخوانه الضباط حول مقدمات الحرب بين الشطرين ودعوات تأجيجها من قبل مشايخ القبائل التالي: “كنا اتفقنا معكم كما اتفقنا مع رئيس الوزراء- يقصد محسن العيني- على تجنب التورط أو على الأصح التجاوب للتوريط في حرب الجنوب، وأنهم إذا ابتدأوا بالعدوان من فيرد عليهم في منطقة التعدي دون تجاوز أو شمول، مع أن لدينا تأكيدات من وزير داخليتهم أنهم لا يمكن أن يبدأوا العدوان (…) الاحتمالات كبيرة جداً لانتصار عدن (…)لأنهم أولاً مدافعون، ولأنهم ثانياً عقائديون سيقاتلون باستماته(…) وأن كان المشايخ محرجين من أصحابهم وتقاليدهم فعليهم أن يسألوا طالبي الثأر عن سبب سفر الغادر وأصحابه إلى بيحان(…) فكيف يزج باليمن في حرب من أجل أناس ذهبوا للتآمر على اليمن (..) قد يقول المشايخ أن العدنيين يتهددونهم ونحن لا ننكر تطرفهم وطيشهم (…) إن عليكم أن تفكروا ألف مرة ومرة قبل أن تدخلوا في محنة الحرب وتتحملوا مسؤولية تاريخية ليست مشرفة على احتمال النصر فكيف بها على احتمال الهزيمة المنتظرة (…) ولو كان هذا الحادث مع جماعة من المواطنين لم يذهبوا متآمرين لتحملنا المسؤولية في الرد غير متحرجين (..) ارجو أن تعرضوا هذا على الإخوان المشايخ وأملي أنهم سيقبلون نصيحتي فيتركون الجنوب للجنوبيين المشردين ويتركوا ثار الغادر لقبيلته خولان (…) ولا أريد أن أفاجئ الإخوان المشايخ بالاستقالة حينما يجد الجد، ويحتمها الدين (…) أما أنتم كضباط وقادة للقوات المسلحة فإن مسؤوليتكم التاريخية أعظم وأعظم فحاذروا التورط واتجهوا إلى بناء القوات المسلحة قوية حديثة (…) ذلك هو واجبكم ومتى انتهكت حدود بلادكم فهناك نود أن يرينا الله منكم ما يقرَّ العيون، أما الزج بالقوات المسلحة في حرب لا مبرر لها .. فلا نرضاه لكم”(6) هذا كان رأي القاضي عبدالرحمن الارياني رئيس المجلس الجمهوري ضد الحرب والعدوان على الجنوب لأنه يدرك أنها ليست سوى حرب بالنيابة عن السعودية بالدم اليمني وعلى الأرض اليمنية وفي نفس الاتجاه كان يقول ويتحرك الاستاذ محسن العيني. حينها حيث كتب رأيه قائلاً: “فوجئنا في 22 شباط (فبراير) 1972م بإذاعة عدن تعلن مقتل الغادر والهيال وحنتش وخمسة وستين آخرين في معركة قالت إنهم كانوا يحاولون بها التوغل في أراضي الجنوب (…)، أما القبائل الشمالية فقد قالت إنهم ذهبوا للاتصال بالسلطات في الجنوب، وكانوا ضيوفاً وإن عدن غدرت بهم وقتلتهم بالألغام …وأياً يكن الحال –كما يقول العيني- فإن كانوا ذهبوا للعدوان على الجنوب فالجميع يعلمون أنهم كانوا متمردين علينا، فلم نكن نحن الذين أرسلناهم حتى نطالب بالدفاع عنهم، وإن كانوا ذهبوا للاتصال بالسلطات الجنوبية والتآمر علينا فأيضاً لا يمكن أن يتوقع أحد منا أن ندافع عنهم وندخل الحرب من أجلهم” (7).

وواضح من هذا النص أن الموقف الشخصي والسياسي لرئيس الوزراء العيني لم يكن مع الحرب بدليل موقفه السياسي الواضح من حالة وقضية مقتل الشيخ علي بن ناجي الغادر وإشارته السياسية الواضحة إلى أن لا مصلحة للحكومة ولا للبلاد في الدخول في حرب من أجلهم –حسب تعييره– ففي كلتا الحالتين لا مصلحة لحكومة شمال اليمن في إشعال حرب بسبب حادثة القتل. ولأن أمر قرار الحرب حقيقة لم يكن بيد رئيس الوزراء العيني ولا بيد رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الأرياني الذي لم يكن مع اتجاه توتير الأجواء وتصعيد حالة قتل المشايخ إلى حد إعلان الحرب، جرت الأمور على غير هواهما الوطني، وتحت ضغط مجلس الشورى الذي يسيطر عليه مشايخ القبائل، أعلنت الحكومة في صنعاء إغلاق ما يسمى بالحدود مع الجنوب، وإيقاف كل عمليات الاستيراد عن طريق ميناء عدن. وبدأت حملات الإعلام والتشهير ضد نظام “الجبهة القومية” ونُددَ بالاتحاد السوفيتي الذي اتهم بزيادة تسليحه للجنوب مقابل تخفيض تسليح الشطر الشمالي (8). وكما هو واضح كان قرار حرب 1972م والرغبة في تفجيرها وإشعالها قائماً ومبيتاً ليس في رأس الدولة (القاضي الأرياني) ولا في أجندة رئيس الوزراء، بل في إرادة وعقل زعماء ومشايخ القبائل ورجال الدين وبعض العسكريين الموالين لهم والمرتبطين بالمصالح الخارجية. وكان الدور الحاسم في ذلك للمؤسسة التشريعية (مجلس الشورى) والمجاميع النافذة فيه. ولم يكن بالإمكان اتخاذ قرار الحرب، على الأقل من الناحية الشكلية، في ظل غياب رئيس الدولة (رئيس المجلس الجمهوري/ القاضي الأرياني) المتواجد خارج البلاد في دمشق، والذي اعتاد السفر الدائم والمتكرر إليها حين يغضب أو لا يعجبه سير الأمور في مؤسسات السلطة في البلاد. ولذلك “سافر إليه في مارس 1972م رئيس الوزراء محسن العيني إلى مدينة اللاذقية بسوريا لإجراء مشاورات معه حول الأوضاع القائمة بين الشمال والجنوب، والرد الذي يفترض اتخاذه بعد مقتل 65 شيخاً في جنوب الوطن. وعلى إثر عودته إلى صنعاء تمت الموافقة رسمياً على تشكيل “الجبهة الوطنية المتحدة” من كل العناصر المعارضة للنظام في الجنوب تحت رئاسة عبدالقوي مكاوي (9)(…)، وبدأت في تصعيد عملياتها المعادية للجنوب بدعم الأنظمة العربية المجاورة ” (10). لقد استخدمت ورقة المعارضة الجنوبية من “جبهة التحرير” والجماعات القبلية والسلاطينية الجنوبية المسلحة والفارين والمسرحين من الجيش الجنوبي والمعارضين للنظام في الجنوب إلى جانب القبائل الشمالية المسلحة والوحدات العسكرية الشمالية الرسمية، لإشعال المناطق الحدودية ولقيام حرب لا مصلحة لليمنيين فيها، وإنما خدمة لمصلحة أطراف خارجية ، واستعمارية. ومع أن الموقف في نظام صنعاء من قضية الحرب مع الجنوب ثأراً وانتقاماً لمقتل الشيخ الغادر وصحبه كان يتوزع بين اتجاهين أو رؤيتين: رؤية التهدئة والحل السياسي لإيقاف شبح الحرب، واتجاه آخر يمثله صقور الحرب من زعماء مشائخ القبائل وحلفائهم من بعض العسكريين وأمراء الحرب والمستفيدين منها الداعين لتسريع السير باتجاه الحرب. ولذلك وظفت ورقة المعارضة الجنوبية لتفجير حرب 1972م وإشعالها، وهو ما يقوله ويكتبه بلغة بيانية واضحة محسن العيني رئيس الوزراء في حينه، حيث يقول: “فالجنوبيون المعارضون لنظام الحكم في عدن من أعضاء “جبهة التحرير” ومن الضباط والجنود وأفراد الأمن المسرحين والقبائل الذين كانت أكبر تجمعاتهم في منطقة “السخنة”، على مقربة من الحديدة، وبعيداً عن المناطق المتاخمة للجنوب، انتقلوا أولاً إلى قرب منطقة “الجمعة”، على الطريق بين تعز والحديدة، وإلى المخا، ثم انتقلوا ثانية بعد إشكالات كثيرة وأثناء وجودنا خارج البلاد (لاحظوا تعبير وجودنا خارج البلاد ) إلى منطقة قعطبة المتاخمة للجنوب، وبدأت الحوادث وتعددت الأزمات بما يهدد باحتكاك مسلح بين الشطرين، وإذا بكل جهود التهدئة للموقف تتعرض للخطر (…)، والموقف يزداد تدهوراً، فاحتل الجنوبيون المعارضون لعدن قريتين أو ثلاثاً من أراضي الجنوب المتاخمة لقعطبة، ولم يعد أمامي إلا أن أحاول طرح الموضوع على الجامعة العربية (11). هذا ما يقوله رئيس حكومة الشمال في حينه. والسؤال هو: كيف لهذه القوات والمجاميع المسلحة من القوى المعارضة لدولة الجنوب أن تتحرك بكل سهولة وحرية في مناخ توتر وصراع وعلائم حرب واضحة دون علم وإرادة سلطات نافذة في دولة الشمال؟ وكيف لهذه المجاميع من التجمعات المسلحة الكبيرة أن تنتقل بأسلحتها من منطقة السخنة البعيدة إلى مناطق الحدود المتاخمة لأراضي الجنوب دون أن يكون هناك ضوء سياسي، وأمني وعسكري يسمح لهم بذلك؟ وهنا تفجرت حرب 1972م التي يريدها أعداء اليمن بين الشمال والجنوب بأيد يمنية. ومع أن القوات الجنوبية تقدمت عسكرياً بصورة كبيرة على جميع القوات المحاربة في الطرف الآخر واستعادت مواقعها، وتقدمت داخل الحدود الشمالية، بعد أن دخلت الجامعة العربية طرفاً في حل الصراع، بل وأقطار عربية عديدة (الجزائز، ليبيا، وحتى مصر). إلا أن تيار الحرب في صنعاء لم يكن مع إيقاف الحرب واتفاق السلام عبر الجامعة العربية والوساطات العربية التي تدخلت لحل إشكال الحرب بين الطرفين. فقد سعى الأستاذ محسن العيني باتجاه المصالحة وإيقاف الحرب وعقد اتفاقية بهذا الشأن، عارضها زعماء الحرب. وفي هذا السياق يقول الأستاذ محسن العيني: في “صباح 30 أكتوبر 1972م وأنا أهم بركوب الطائرة إلى الجزائر، سلمني العقيد يحيى المتوكل سفيرنا بالقاهرة برقية من رئيس المجلس الجهموري يطلب فيها إلغاء زيارة الجزائر وليبيا والعودة إلى صنعاء، فالاعتراض على أشده، ضد الاتفاقية، وأننا قد تجاهلنا الدستور حين تحدثنا عن التنظيمات الشعبية والجماهيرية. وكان رد العيني على الرسالة كما جاء في الكتاب: “إنني مقتنع بالاتفاقية حرفاً حرفاً وكلمة كلمة، ومعنىً ونصاً، وإنها في مصلحة اليمن (…) وفي صباح السبت 4/2/ 1972م وصلنا تعز، وفهمت من الرئيس أن اللقاء بالمجلس الجمهوري سيتم في صنعاء(…) ونصحني بالهدوء وعدم إثارة أي موضوع، وأن أعضاء المجلس الجمهوري غاضبون ورافضون (…) وأن رئيس مجلس الشورى (عبدالله الأحمر) غادر تعز قبل وصولي إلى خارجها مقاطعاً ومحرضاً المشايخ والقبائل ضدي وضد اتفاقية الوحدة. وقد تحركت قوى كثيرة في الجوامع وغير الجوامع ضد الاتفاقية التي وقعت مع الشيوعيين والملحدين إلى آخر هذا الكلام (12). هذا ما يقوله رئيس حكومة الشمال عن الموقف السياسي للأطراف النافذة من زعماء المشايخ، ورجال الدين وأمراء الحرب من العسكريين المستفيدين من رفض اتفاقية الوحدة، ومن استمرار الحرب وعدم إيقافها، اتفاقية الوحدة التي رآها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر أول طعنة حصلت هي اتفاقية الوحدة في القاهرة في أكتوبر 1972م والتي تمت بين الأستاذ محسن العيني وعلى ناصر محمد (…). يقول الأحمر” وقد عارضت الاتفاقية”. (13)

وتزعم مجلس الشورى في تركيبته السياسية التقليدية موقف رفض الإتفاقية والدعوة لعدم القبول بها ، لأن المشايخ رأوا في إيقاف الحرب ضعفاً وتنازلاً لدولة الجنوب، وهو ما وضحه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته حيث رأى في موقف القاضي عبدالرحمن الأرياني ضعفاً فيقول: “وبعدها ضَعُف جداً –يقصد الأرياني– أمام التيارات الهدامة لأن عناصرها الموجودة في أجهزة الدولة وجميع مؤسساتها أضعفوا من كان حوله حتى من كانوا داخل بيته (يقصد ابنه يحيى اليساري التوجه – الباحث) أضعفوه . كان تراخي القاضي وإتاحة الفرصة من قبله لهذه التيارات تعشعش وتفرخ وتقوى تحت مظلته هو أول الخلاف بيننا وبينه. وكان من نتائج هذا الخلاف تقديم القاضي عبدالرحمن الأرياني استقالته للمجلس الجمهوري أكثر من مرة (…) أما الأستاذ محسن العيني صاحب الفكر البعثي، فقد أصبح مرجعا عند القاضي الأرياني ومن أعقل الناس، وكان متبنياً لذلك الفكر ومشجعاً للتيار ويقود التوجهات اليسارية، فقط لمجرد رفضه للحرب مع الجنوب وهو رأس الحكومة. وأصبح المشايخ–كما يقول الأحمر–”في بعض الفترات في معركة حتى معه، وكنا نواجهه ويهرب. وكان القاضي عبدالله الحجري الذي كان في ذلك الوقت سفيراً لبلادنا في دولة الكويت صاحب موقف معارض للتيارات اليسارية، وهو ما جعل مجلس الشورى الذي كان فيه عدد كبير ضد تصاعد هذا التيار يستدعونه لانتخابه عضواً في المجلس الجمهوري (…)برغم امتعاض القاضي الأرياني” (14).

وهذا، في تصورنا، يكفي لتفسير وشرح الخلفية السياسية لقيام الحرب وفرض استمرار مناخ التوتر والصراع بين الشطرين، والتي جاءت اتفاقية الوحدة لتضع حداً لها. ولكن الأستاذ محسن العيني دفع لاحقاً الثمن السياسي لتوقيعه على هذه الاتفاقية، بدفعه لتقديم استقالته من رئاسة الحكومة (15) ليخلفه القاضي عبدالله الحجري بناءً على رغبة وإرادة سعودية باستبعاده واستبداله بالقاضي الحجري، كما جاء في وثيقة رسمية سعودية (16). وشكل القاضي الحجري حكومته في 30ديسمبر 1972م.

الهوامش:-

* تنويه/ 
هذه المادة هي فقرة من الكتاب الجديد للكاتب “الصراع السياسي في مجرى الثورة اليمنية ، وقضية بناء الدولة” 62-63-1990م، يتم نشرها في الذكرى السابعة والأربعين للحرب التي شنها مشايخ القبائل، ورجال الدين السياسي تحت غطاء مظلة مجلس الشورى ضد جنوب البلاد، حرب بالوكالة نيابة عن طرف خارجي وقودها الدم اليمني

1- مجموعة كتاب، علي عبدالله صالح، 25عاماً من القيادة والسياسة،ص41، مركز البحوث والمعلومات لوكالة الأنباء اليمنية (سبأ)،ط1، يوليو 2003م . 

2- مجموعة كتاب، علي عبدالله صالح، 25عاماً من القيادة والسياسية، ص41.

3- جولوبوفسكايا، إيلينا.ك، التطور السياسي، مصدر سابق، ص169، وتسمية الجيش بجيش تحرير حضرموت والمهرة يحمل دلالة سياسية انفصالية لهاتين المنطقتين الهامتين الحساستين عن التكوين السياسي لدولة الجنوب الوطنية، نفس المصدر،ص176.

4- المقصود بتعبير بقايا جبهة التحرير هي المجاميع العسكرية والسياسية لمنظمة جبهة تحرير الجنوب اليمن المحتل التي انسحبت بعد خسارتها حربها مع الجبهة القومية التي استولت على السلطة في جنوب البلاد في 30 نوفمبر 1967م ، وجبهة التحرير هي تنظم كفاحي مسلح تشكل في العام 1965م في القاهرة من مجموعة من التنظيمات سناتي على ذكرها بالتفصيل في الباب الثاني من هذا البحث ويمكننا تسمية جبهة التحرير بعد انتقالها إلى شمال البلاد بالمرحلة الثانية من تطورها التي لا صلة لها بأسباب النشأة ، والدور الذي كان يدخل في صلب مهما تها (مواجهة الاستعمار البريطاني). 

5- جولوبوفسكايا، مصدر سابق،ص181.

6-محمد عبدالله الإرياني ” أحداث من الذاكرة” ، ط (1)، 2001م، ص 260-261.

7- محسن العيني ، خمسون عاماً في الرمال المتحركة ، 1999م،ص211.

8- د. أحمد صالح الصياد، كتاب السلطة والمعارضة في اليمن المعاصر، ص317+318.

9- عبدالقوي مكاوي من مواليد المدينة عدن 1918-م ،12 أغسطس 1998م- درس في مدارس عدن والتحق بالعمل في شركة “البس” الفرنسية في عدن وفي فرعها في إريتريا في العام 1964م انتخب عضواً في المجلس التشريعي ثم تعين نائباً لرئيس الغرفة التجارية في المدينة عدن ثم أصبح رئيساً لوزراء عدن من مارس 1965م إلى 25 سبتمر 1965م خلفا لزين هارون، اقالته السلطات البريطانية بأمر من الملكة ، بسبب موقفه من الاستعمار واعتبار مقاومته مشروعة – وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً –والأهم رفض إدانته قتل السير أرثر تشارلز رئيس المجلس الوطني وبقى مقيماً معارضاً في مصر وشكل منظمة تحرير الجنوب المحتل ثم جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل بعد ما اسمى الدمج القسري …وفي 27 فبراير 1967م قتل ثلاثة من ابنائه بانفجار قنبلة في منزله وتوفى في القاهرة /مصر

10- د. أحمد صالح الصياد، نفس المرجع، ص318.

11- محسن العيني،كتاب خمسون عاماً، نفس المصدر، ص238+.239.

12- محسن العيني، نفس المصدر، ص252+253. 

13- انظر حول ذلك عبدالله بن حسين، مذكراته، مصدر سابق، ص206.

14- الشيخ عبدالله الأحمر، نفس المصدر، ص202.

15- نفس المصدر ، ص206حيث يشير عبدالله الأحمر كيف أوصلوا العيني لتقديم استقالته

16- نص رسالة أو مذكرة موقعة باسم كمال أدهم مستشار الملك، صدرت باسم المملكة العربية السعودية – المكتب الخاص –المملكة بتاريخ 27 شوال 1392هـ الموافق 3/12/1972م يقول فيها بالنص ” 4- ضرورة اقصاء محسن العيني مؤقتاً تخفيفاً لنقمة أبناء الجنوب بعد تسببه في توقيع اتفاقية الوحدة وتعيين خلفاً له الأخ عبدالله الحجري لضمانة أبناء الجنوب بأن هذا الاتفاق مقضي عليه بالتدريج نظراً لما للحجرى من قدرات إدارية ، ومكانة لدينا ولدى الأصدقاء 2-الاستمرار في دعم عبدالقوي مكاوي، وعبدالله الأصنج، وشيخان الحبشي ومجموعاتهم ضرورة لكم ولنا نحتاجها في المستقبل”، والرسالة موجهة هكذا من كمال أدهم مباشرة إلى الأخ القاضي عبدالرحمن الأرياني، رئيس مجلس رئاسة اليمن، حفظه الله.

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى