فضاء حر

“مقبل” .. ودور الفرد في التاريخ (2-3)

يمنات

قادري أحمد حيدر

ذَهَبْنَا إِلَى عَدَنٍ قَبْلَ تَارِيخنَا، فَوَجَدْنَا اليَمَن

حَزِيناً عَلَى امْرئِ القَيْسِ، يَمْضَغُ قاتاً, وَيَمْحُو الصُّوَرْ.

أَمَا كُنْتَ تُدْرِكُ، يَا صَاحِبِي، أَنَّنَا لاَحِقَانِ بِقَيْصَرِ هَذَا الزَّمَنْ؟

ذَهَبْنَا إِلَى الفُقَراءِ الفَقِيرَةِ، نَفْتَحُ نَافِذَةً فِي الحَجَر

لَقَدْ حَاصَرَتْنَا القَبَائِلُ، يَا صَاحِبِي، وَرَمَتْنَا المِحَنْ،

وَلَكِنَّنَا لَمْ نُقَايِضْ رَغِيفَ العَدُوِّ بِخُبزِ الشَّجَر

محمود درويش
ديوان/ ورد أقل

قرأت كثيراً عن دور الفرد في التاريخ، وتأملت مسارات العديد من التجارب الحديثة والمعاصرة، في إدارة السياسة ، والحكم، وفي قيادة الأحزاب، وقيادة الدول، ووجدت أن التاريخ الاجتماعي / السياسي ليس كتلة صماء .. فقطعاً تشتغل القوانين الموضوعية والشروط التاريخية وتفعل فعلها في تحديد اتجاهات التطور في الظروف العامة (العادية)، على أن المراحل والظروف الاستثنائية، والانتقالية، المعقدة تكشف أو تعطي أهمية خاصة لدور الأفراد في التاريخ الخاص والعام.. الأفراد الذين يتمكنون من الإمساك بدفة القضايا المفصلية والجوهرية، ويقدمون عنها وحولها إجابات وحلولاً تلبي احتياجات المرحلة وتساهم في تفكيك وحل الأزمات، وعقد التسويات التاريخية.. أفراد مدركون برؤية استراتيجية متوحدة بالقدرة على الفعل، أفراد قادرون على توظيف كل المعطيات لخدمة انجاز هدف سياسي استراتيجي ينتظره الناس.. أفراد مؤهلون لتحريك دولاب السياسة، والاجتماع في الاتجاه الصحيح. وهنا يبرز ويتعملق دور الأفراد الاستثنائيين في تحديد اتجاه حركة التاريخ باتجاه التغيير والتقدم .

حقا ! هناك قادة يبدو أن وجودهم في بعض المراحل شديدة التعقيد ذو أهمية خاصة، قد تطرحها وتفرضها الصدفة التاريخية، ولكنها معهم ومن خلالهم تتحول الصدفة إلى ضرورة موضوعية تاريخية، لأن الحياة أجازت وأقرت انتدابهم لدور نبيل وجليل في تاريخ مجتمعاتهم، ولأن الحياة بدونهم تكون صعبة المراس قاسية ومؤلمة سياسياً ، وإنسانياً. ومع صعودهم على تاج وهرم الضرورة الحياتية للمجتمع والناس، تصبح الحياة أكثر قابلية للعيش، وكأن وجودهم متعة وفسحة تفتح باباً للأمل لكل من حولهم، وهو ما ينطبق على القلة القليلة من الناس (القيادات) ومنهم “مقبل”.

كان الرفيق والقائد الفذ، والفدائي علي صالح عباد “مقبل” من هذه الأسماء النادرة والقليلة التي انتدبها التاريخ الوطني لمهمات عظيمة وجليلة، اسم وقائد لا يمكن تجاهل دوره، أو القفز على إسمه في هندسة التاريخ الوطني المعاصر لليمنيين في الجنوب والشمال، بدايةً من تأسيس “الجبهة القومية” إلى الثورة المسلحة التي شارك فعلياً فيها حتى قيادته تنظيم الثورة المسلحة في عدن، خلفاً للقائد الكبير الشهيد عبدالفتاح اسماعيل، إلى دوره في صناعة مجد الاستقلال الوطني 30نوفمبر 1967م، إلى دوره المتميز في تجربة بناء الدولة في جنوب الوطن بكل تحدياتها: ايجابياتها الكبيرة، وسلبياتها التي لا يمكن تجاهلها وتجاوزها إلاَّ بالنقد لمناطق الضعف والعوار فيها، إلى دوره الكبير والاستثنائي في إعادة بناء الحزب الاشتراكي بعد حرب 1994م، وهي الحرب التي أسست لمعظم الشرور السياسية والحروب الصغيرة، والكبيرة التي تناسلت منها.

ذلك إنه لا يمكن قراءة الحرب الجارية منذ خمس سنوات دون اعتبار حرب 1994م مقدمة سياسية واجتماعية وأيديولوجية لها.

إن علي صالح عباد “مقبل” لا يمكن أن يقرأ ويفهم إلاَّ كقائد استثنائي، جمع بين المثقف والسياسي، بين المفكر والثوري، قائد استثنائي لمرحلة فوق استثنائية .. وساعده على ذلك جمعه الخلاق بين الكلمة والموقف، قائد حالم متفائل كان يدرك بتفاؤله الواقعي المسافة بين الممكن والمأمول، بين الرغبة والقدرة ..أي القدرة على انجاز حلمه، وتحويل تفاؤله إلى واقع معاش.. ولولا إرادة التفاؤل والحلم في داخله لما تمكن من هزيمة جبال التشاؤم التي صنعتها جريمة حرب 1994م، وواجهها جميعاً بتفاؤل الإرادة، وصلابة الفكر المقاوم ،والممارسة المغيرة والمنتجة.. ومن هنا قوة رفضه لنظام الحرب أو التكيف والتأقلم مع نتائجها المأسوية، باعتبار ذلك واقعية سياسية، وقضاءً وقدراً لا مفر منه كما كان يبرر ذلك بعض المهزومين والمنكسرين في اعماقهم.. لأنه، كما كتب مرة الصديق الفقيد خيري منصور، عن أمثال هذا النموذج والذي خصصنا له هذه القراءة من أنه ” أمتاز عن سائر الكائنات بخيال استطاع أن يدرك النقصان في واقعه المفروض عليه وبالتالي يتخيل واقعاً أفضل، وهنا الفارق بين من تعاطوا الأحلام بإدمان وتوكلوا ولم يعقلوا وبين من كدحوا لترجمة الحلم إلى واقع” (صحيفة الخليج 5/6/2018م) .

وكان “مقبل” بحق هو القائد الاستثنائي، بل ومن أبرز وأهم القادة الاستثنائيين الذين امتلكوا قوة العقل المقاوم بإرادة تفاؤلية واعية لمهمات المرحلة. ولا أتصور أن أحداً غيره كان قادراً على مواجهة “زعيم الحرب” المتغطرس، علي صالح، وهو في قمة نشوة النصر/ الجريمة، قالها له وهو ما يزال يجني ثمار الحرب العسكرية سياسياً ومالياً، وأمام زبانيته وحشده السياسي قالها له: أنت فاسد ونظامك ممتلئ بالمستنقعات وبالجريمة، ولا يحق لك أن تؤبن النعمان،الرمز الوطني الكبير، لأنك بذلك تغتاله حياً، وميتاً.

كان ذلك هو علي صالح عباد “مقبل” الذي امتلك شجاعة القول وإرادة الفعل، لأنه لم يفرط بوعيه وعقله ولم يبع نفسه لدعاة وهم النصر الزائف الذي أورثنا كل هذا الخراب والحروب المتناسلة إلى كل المستقبل الآتي، إن لم نضع لكل ذلك حداً بمبادرات وحلول سياسية وطنية تاريخية .

ويمكنني القول إن لحظة المواجهة السياسية الوطنية التاريخية بين عباد “مقبل” وتجار الحروب وصانع الهزيمة السياسية والوطنية المعاصرة علي عبدالله صالح، هي البداية الأولى لإعلان شرارة انتفاضة الحراك الجنوبي السلمي، وخميرة انطلاق الثورة الشبابية الشعبية 2011م بعد ذلك.

وجاءت مواقف “مقبل” الكفاحية والصلبة المتماهية والمتوحدة مع خطاباته ومبادراته السياسية الواضحة والقوية التي لم تعرف مسك العصا من المنتصف،وفي اصعب واعقد المراحل، سنوات ما بعد الحرب/الجريمة، لتنير الطريق أمام الحزب الاشتراكي وأمام الجميع سياسياً ووطنياً.. قائد سياسي تاريخي، استوعب شروط التغيير وفتح بوهج مقاومته كوة للنور في جحيم الظلام الذي أراد نظام علي صالح أن يفرضه على كل البلاد.
والأهم أن “مقبل” بتفاؤله ومقاومته الواعية، حول الهزيمة العسكرية التي تلقاها الاشتراكي، وكل الوطن، إلى انتصار سياسي للحزب، وبداية انتصار لكل الشعب في صورة ثورته الشبابية الشعبية.. مثل العنقاء التي تنتفض وتنهض من قلب الرماد .

إن قيادة ” مقبل” للحزب الاشتراكي ما بعد الحرب / الكارثة، إنما جاء وكان بمثابة انقاذ وراية خلاص لكل البلاد شمالاً وجنوباً. لقد تمكن “مقبل” بقيادته الجسورة الحكيمة والصائبة، وبقوة الإرادة في أعماقه أن يستوعب النتائج السلبية للحرب، ويحولها إلى مشاريع ومبادرات للمقاومة السياسية والوطنية.. بداية من حديثة عن استعادة الوحدة السلمية، وإدانة الوحدة بالحرب، إلى دعوته للمصالحة السياسية الوطنية الشاملة، إلى دعوته لتطبيع الحياة السياسية، ورفض نتائج الحرب كأمر واقع، وإستعادة الحزب لمعظم ممتلكاته وبعض أمواله وإصراره العنيد على إعتبار نتائج الحرب جريمة سياسية ووطنية.

إن القائد الاستثنائي (المقاتل/ مقبل) كان يستمد الأمل والحلم والتفاؤل وروح المقاومة من كينونته البسيطة، ومن أن متطلباته واحتياجاته الحياتية والمعاشية كانت شبه منعدمة، إن لم أقل (صفرية) .. كان إنساناً سياسياً بسيطاً فوق العادة، وفوق الحاجات والاحتياجات التي تفرضها شروط حياة أي قائد سياسي كبير، ولذلك لم يقع أسيراً لتلك الحاجات والمتطلبات، وبالنتيجة لم تجد السلطة مدخلاً لابتزازه والضغط عليه أو التقرب منه، وجره إلى حظيرتها كما فعلت مع البعض.

حين كان في قمة السلطة في دولة الاستقلال الوطني في جنوب البلاد، بقى ذلك المثقف الثوري العضوي، والقائد السياسي المتعفف من أية امتيازات تقدمها السلطة، ما جعله يفرض احترامه على الجميع في السلطة وفي قيادات الأحزاب.

لا أعتقد أن اليمن الحديث والمعاصر مر بمحنة أقسى وأعنف مما جرى وحصل من بعد حرب 1994م التي لا نقرأ ولا نرى كل ما يجري ويتحقق اليوم سوى استمرار سياسي موضوعي لتلك الجريمة السياسية التاريخية.

والمفارقة الابداعية الثورية أنه، ومن جحيم تلك المأساة التراجو/كوميدية، بزغ صوت الحق، وتقدم دور الفرد في المشاركة في صناعة التاريخ وتصويب اتجاهاته الخاطئة، برز وصعد دور القائد السياسي الاستثنائي علي صالح عباد “مقبل” شامخاً ومقارعاً ورافضاً لنتائج الحرب، وكأنها مسلمات وبديهيات.. بقى صوته عالياً مقاوماً حالة استسلام البعض لها، تحت مسميات زائفة: “رفض الانفصال” و”الدفاع عن الوحدة ولو بالحرب و الموت” أو تحت غطاء الحديث عن “السلام” وأهمية ايقاف الحرب.

يقال ذلك وكأن نتائج الحرب الكارثية هي التجسيد للحقيقة الوطنية الغائبة المطلوب القبول بها والامتثال لها كقضاء وقدر وباسم الحفاظ على الوحدة.

هذا، مع العلم أن حرب 1994م كانت وجاءت نقضاً سياسياً ووطنياً لمعنى الوحدة، ولأي محاولة لبناء وقيام الدولة الوطنية الحديثة.

ومن قلب ذلك الجحيم المأسوي، الذي تمت تغطيته أيديولوجيا، وسياسياً، بثلاثية فاجرة قاتلة: “الردة”، “الجهاد” “الفتح” .. وهي المفردات/ المفاهيم، التي يقول نصها ومنطوقها، أنها دعوة للحرب، والتكفير الديني ،وليس إلى عدم الاعتراف بالأخر فحسب، بل والتحريض والعمل على قتل الآخر ، ومن قلب هذا الجحيم الدموي صعد وبرز دور الفرد .. دور القائد الفكري/ السياسي والكفاحي والتنظيمي في صورة قيادة علي صالح عباد “مقبل” للحزب الاشتراكي اليمني، حين قرر بعقل سياسي ثوري نقدي أن يمسك دفة القيادة “الأمانة العامة” في مواجهة أعنف وأشرس هجمة عسكرية وأمنية وسياسية واجهها الوطن كله، وفي القلب منها الحزب الاشتراكي، بعد أن تحولت الوحدة إلى حرب، وموت، وغنيمة وفيد لتجار الحروب، لم تلغ فيه شراكة الجنوب في السلطة والثروة، بل وتحول الجنوب كله: إنساناً، وأرضاً، وتاريخاً، واقتصاداً، إلى مجرد أرض “خراجية” و سكانها إلى ما يشبه “أهل الذمة”، وصار مئات الآلاف من أبناء الجنوب : جيش وأمن وموظفين، خارج الجاهزية الوظيفية.. لم ينهب خلالها فقط اقتصاد الجنوب ثروات وأرضاً، بل إن تاريخ الجنوب وذاكرته الوطنية والتاريخية تحول إلى غنيمة حرب وفيد أيديولوجي طالت آثاره ونتائجه السلبية كل الوطن.. جعلت العديد من أبناء الجنوب يتنكر حتى “لهويته اليمنية” .. دخلت معه البلاد مرحلة جديدة من السياسة، والثقافة، لا علاقة لها بالثورة ولا بالجمهورية، مرحلة كان مخرجها السياسي البارز “التوريث” كاستمرار متطور لصيغة “ولاية العهد” في المرحلة الإمامية، والتي كانت أحد المسامير التي دقت في نعش الإمامة مثلما كان “التوريث” ناقوساً لإعلان بداية أفول نظام علي عبدالله صالح الذي ما يزال يقاوم الزوال في معاندة عبثية لقانونية التقدم التاريخي.

لقد حمل “مقبل” الراية نيابة عن كل الوطن ليبحر من خلال تلك القيادة إلى كل الوطن، مصححاً ومصوباً مسار الوجهة التاريخية بالاتجاه التقدمي لحركة التاريخ.

ذلكم هو “مقبل” الذي أطل علينا من علياء قيادته مبشراً بكل الصباحات المنتظرة ..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى