فضاء حر

عن النشاط الإستخباري السعودي في اليمن

يمنات

منذ بداية تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932 وهي تنشط إستخباراتياً وسياسياً بل وعسكرياً في اليمن , وبدأ تأثير المملكة في اليمن منذ عهد عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود مؤسس المملكة , وبعد تلك الحرب الضروس بين الملكعبدالعزيز آل سعود والإمام يحيى حميد الدين عام 1934 أدت الى ضم (نجران وجيزان) للمملكة وانسحاب الطرفين , زاد تأثير المملكة وتوسع نفوذها , ولعل حصر مستوى التدخل الى كونه استخباراتيا بحتا يعتبر مفهوما ناقصاً و عارياً عن الصحة لما يحمله من معنى اكبر بكثير من كونه نشاط استخباراتي مجرد , بل امتد تأثيرها ونفوذها الى كافة مرافق ومؤسسات الدولة الحيوية و الحساسة ,  فالمملكة تملك شبكة محسوبية كبيرة في اليمن خاصة في الأوساط السياسية والقبلية وحتى الأوساط المثقفة وصلت الى امتلاك وسائل اعلام وفضائيات ومواقع اخبارية واقلام مأجورة تسبّح بحمد المملكة وتمجّدها ليل نهار, والشبكة هنا اكبر بكثير من الخلايا والبؤر المستوطنة في الساحة اليمنية.

وبالعودة الى التأريخ المعاصر , وبعد توسع المملكة جنوبا ضمن سياسة التوسع  والتوغل وابتلاع اراضي الجوار لبناء الإمبراطورية السعودية , القائمة على أسس الحروب والقتال وشراء الذمم , ارسلت حينها قوات مسلحة الى الحدود اليمنية الشمالية  لمناهضة الجمهورية الوليدة ومحاربتها , ولم تعترف بها إلا لاحقاً وبعد مرور سبع سنوات من عمر الثورة المجيدة , في العام 1970تحت ضغوط دولية كبرى وبعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة, وخوفا على مصالحها من التلاشي و الإنهيار .

لا يخفى على أحد ان تأثير المملكة في الساحة الخلفية والبوابة الجنوبية  لشبه الجزيرة العربية بدأ منذ وقت مبكر حين كانت المملكة ومنذ نشأتها تحت الوصاية البريطانية العظمى , ومن بعد ظهور النفط في نجد والحجاز وامتلاء خزينتها العامة بعد ان كان يستلم الملك السعودي سنويا مبلغ 60 ألف جنية استرليني من بريطانيا عبر شركة الهند الشرقية , وتم اسناد مشيخة حاشد الى آل سعود  ومن بعدها توسع الانفاق والدعم والنفوذ لمصلحة بريطانيا الى غيرهم من مشائخ القبائل اليمنية في المناطق الشمالية والوسطى .

انتفاضة حاشد عام 1959 ضد الإمام أحمد التي ذهب ضحيتها شيخ قبيلة حاشد حميد الأحمر كانت مدفوعة بأموال بريطانية عن طريق السعودية, هذا ما كشفت عنه الوثائق التي تسربت لاحقاً وتم اصدار كتب عنها بهذا الشأن , وعن تأريخ آل سعود – المثير للجدل- كاملاً , وان كان الدور السعودي مكشوف وفاضح لدرجة كبيرة في اليمن , الأ ان ثمة خلاف وصراع  ما كان يسبب الأرق للحكومات السعودية المتعاقبة , التي تحاول جاهدة جعل اليمن الحديقة الخلفية للمملكة  تحت نظام الوصاية الدائمة وفي كنف المملكة عبر اياديها المتنفذة في اليمن , من قادة عسكريين وامنيين ومشائخ ورجال قبائل , ولم يتوقف الدعم اللوجستي المقدم لتلك العناصر من الخزينة السعودية عبر لجنتها الخاصة , والتي كانت تدفع سابقا بصورة مباشرة ومن الديوان الملكي للمشائخ والأعيان , و هذا ما تطرق اليه الرئيس السابق علي عبدالله صالح في مقابلة صحفية مع صحيفة الوسط  حين تم سؤالة عن ماهية وحقيقة الأموال المقدمة من السعودية لرؤوس القبائل ومالمقابل لها, فأجاب هذه أمور شخصية !!

وكما ذكر الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في مذكراته (أنه حين تم ترشيح علي عبد الله صالح بعد مقتل أحمد حسين الغشمي في عام 1978م للرئاسة في اليمن لم يكن ليرضى أو يرفض إلا أن السعودية قد أشارت على الشيخ بالموافقة عليه ), وقد اقتنعت السعودية بصالح في وقت سابق حينما كان قائد لواء أمن تعز وقائد معسكر خالد بن الوليد المسيطر على ميناء المخاء ومنافذ التهريب القادمة من أفريقيا , وبعد اندلاع الحرب الأهلية في اثيوبيا ارادت السعودية دعم المعارضة بصورة غير مباشرة وبدون معرفة الإتحاد السوفيتي بالأمر , وبعد عدة محاولات فاشلة لتهريب السلاح وعدم القدرة على ايجاد وسيلة لإيصاله , تولى الرائد علي عبدالله صالح المهمة وقام بتهريب اكبر حمولة أسلحة للمعارضة الأثيوبية عبر البحر , و بعد بيعه صفقة السلاح الشهيرة وتمريرها الى الأراضي الأثيوبية عبر الحدود الصومالية للوقوف مع المعارضة ضد التوسع السوفيتي في دول القرن الأفريقي ,نال بهذه العملية رضا السعودية ومعها أمريكا وبدأت (المخابرات السعودية) بإعداده ليكون المرشح القادم للرئاسة , لأنه قدم ولاءه بدون حدود بالإضافة إلى أنه أظهر عداءً شرساً للشيوعية وللسلطة الإشتراكية في جنوب اليمن , ولهذا فقد ضغطت السعودية على كل الأطراف المعارضة لترشحه للرئاسة بعد مقتل الغشمي وأقنعتهم بعدم ترشيح أي شخص آخر.

 وهذا ما فسره طيران الرئيس السابق مباشرة الى المملكة بعد توليه منصب الرئاسة لفرض مراسم الولاء والطاعة لحضرة الملك السعودي فهد بن عبد العزيز.

ولعل الحدث الأبرز حينه من حرب الجواسيس واستئجار العملاء والمرتزقة ما تناقلتة الكتب المؤرخة عن تعاون المملكة الوثيق مع الموساد الإسرائيلي إبان الثورة اليمنية , مما ساهم في صنع جسر جوي إسرائيلي سري يمتد من جيبوتي الى شمال اليمن وجنوب السعودية, شارك حينها الطيران الحربي الإسرائيلي في قصف مناطق الشمال  وفرض رصد تحركات القوات البرية المصرية, وامتدت خطوط المواجهه من سينا حينها الى اليمن, وكما ذكرمحمدحسنين هيكل أن إسرائيل قامت بإعطاء شحنات من الأسلحة كما أقامت اتصالات مع المئات من المرتزقة  الذين يقاتلون بجانب الملكيين في اليمن,  وايضا التواصل الوثيق بين بريطانيا والسعودية حينما كانت حينها القوات البريطانية متواجدة في اتحاد الجنوب العربي في محمية عدن ساهمت في خنق الثورة اليمنية من الجهة الجنوبية والشرقية.

أصدر منتدى اليمن التابع لبرنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الملكي البريطاني للدراسات تشاتم هاوس تقريراً حديثاً بتاريخ 12 أيار/مايو من العام الماضي قال فيه (إن السعودية تحتفظ بشبكات واسعة من المحسوبية في اليمن، ويعتقد كثير من اليمنيين بأنها تحاول التأثير على نتائج التغيير السياسي في بلادهم).

وفي العام 1994 وقفت المملكة ضد رغبة الجمهورية اليمنية الناشئة حينها مع الوحدة , وانضمت الى مربع الإنفصال بل وذهبت الى ابعد من ذلك ودعمته بالمال والعتاد والسلاح , وساهمت بصورة مباشرة في حرب الإخوة واراقة الدماء بغزارة , و ان كانت هذه الخطوة السلبية تمثل ضررا فادحا وشرخاً كبيراً في العلاقة الودّيه تجاه البلدين , الا انه تم تفسيره بسبب تداعيات حرب الخليج الثانية وموقف اليمن الصامت – المنحاز نوعاً ما للنظام العراقي- من غزو الكويت وما اصاب العلاقات العربية-العربية من تصدع وتشقق.

بدا دور المملكة في اليمن واضحا وبشدة خاصة خلال حروب صعدة الست الطاحنة, وخصوصا بعد الحرب الخامسة وخلال الحرب السادسة حين حلق الطيران السعودي الحربي في الأجواء اليمنية وقام بقصف الأبرياء والعزل , بل وتوغلت القوات البرية السعودية الى اقصى شمال الشمال وفي العمق اليمني مما نتج عنه مواجهات مسلحة بين الحوثيين والسعودية , انسحب بعدها الطرفين من حدة المواجهات بعد إبرام الصلح والهدنة – التي لم تدم طويلاً- بين النظام السابق وجماعة الحوثي.

ولعل ابرز ما تمثله خطورة التدخل السعودي وشبكات المحسوبية العملاقة المتشعبة في مؤسسات ومرافق الدولة اليمنية , هو مسألة ترسيم الحدود المثيرة للجدل بين البلدين الجارين وما شابها من ملابسات واحداث غامضة, والتي كانت الحلقة الأقوى لبروز دور الحلفاء مما نتج عنه بيع ثلث اراضي اليمن والتنازل عنها مقابل رشوات مالية قدمت بسخاء للمشائخ الموالية ورموز النظام السابق , و امتد التدخل الى تأجير ميناء عدن لشركة موانئ دبي العالمية بمبالغ زهيدة جدا , مما ساهم في اعاقة حركة الملاحة البحرية اليمنية واصابتها بالشلل التام وانهيار المنظومة التجارية لليمن مع توسع الإستثمار الخليجي الذي يرى في اليمن تابعاً ومستهلكاً للسوق الخليجية لا يحق له الإستحواذ على مواقع القدرة والنفوذ الإقتصادي والسياسي وحرية القرار.

رياح التغيير العربي اثارت حفيظة وقلق نظام المملكة الراعي لليمن من سقوط النظام الحليف في اليمن , فسعت بكل الوسائل الممكنة الى تحجيم دور الثورة الشبابية , واحتواء النظام اليمني باجنحة طائرة محلقة في الداخل والخارج الدولي لفرض الرؤية السعودي ورسم السياسات بما يتماشى مع تطلعات المملكة , ووقفت مع النظام الحاكم بل وارسلت شحنات عسكرية ومعدات حربية الى ميناء عدن لإستخدامها في قمع المظاهرات والإحتجاجات السلمية , واستخدمت اياديها وحلفائها التأريخيين في اليمن لمحاولة افشال الثورة و مخطط اسقاط النظام , وحينما رأت انقسام الحلفاء على انفسهم وانشقاق الصف السعودي في الداخل اليمني الى موال ومعارض , مع حرب الإخوة الأشقاء ارتأت المملكة صياغة حل سلمي لإخراج اليمن من شبح الإنهيار- كما تدعي- وانقاذ النظام , ما خرجت عنه الجهود السعودية الخليجية برعاية أمريكية الى المبادرة الخليجية في صيغتها الخامسة والمعدّلة , تم بموجبها منح حصانة وعدالة انتقالية لرموز النظام .

ما يهم المملكة هنا هو الحفاظ على النظام الجمهوري الجديد تحت وصايتها وأمرتها, ولا يعنيها شخص الرئيس السابق والنظام بقدر ما يهمها المحافظة على مصالحها الحيوية والإستراتيجية في اليمن , بغض النظر عن تغيير الأنظمة والأشخاص , وبسبب الخوف الشديد من تبوؤ الحكم بعد سقوط النظام في حال اذا ما نجحت الثورة الشبابية نظام جديد مجهول الولاء والاتجاه,قد يعطل مسيرة المملكة ويبعثر الأوراق والترتيبات السعودية الخاصة في البيت اليمني , ومن ناحية اخرى خوفاً من توسع موجة تسونامي الربيع العربي العاصفة الى جنوب وشرق المملكة مما يهدد الأنظمة الحاكمة في المشيخات والأمارات الخليجية الغارقة في الرفاهية المطلقة.

ولم تتوقف شبكة المحسوبية الكبرى التي كشفت عنها الوثائق المسربة وتناقلتها الصحف بما وصل الى تقاضي 27 ألفا من مشائخ وقادة امنيين ومدنيين مرتبات ومستحقات خاصة من قبل اللجنة السعودية الخاصة , بل وصلت الى اعتراف رؤوس مشائخ القبائل اليمنية ممثلة بحاشد وبكيل كبرى قبائل اليمن بكل فخر واعتزاز بإستلامهم لهذه الأموال!

وعليه ظل ومازال دور المملكة لعب دور الوصاية الإقليمية والدولية في المنطقة للقوى الكبرى بريطانيا سابقاً والولايات المتحدة الأمريكية لاحقاً, استغلت الفترات الإنتقالية المتكررة في اليمن لسد الفراغ السياسي الكبير عبر ادماج عناصر تدين بالطاعة العمياء والولاء المطلق للتاج السعودي الملكي , مما ساهم في إنصدام الإرادت الشعبية العامة دوماً مع خيارات الجوار والخارج , مما وضع اليمن دائماً تحت الوصاية منزوعة السيادة والقرار , وبلداً غير مستقراً.

زر الذهاب إلى الأعلى