بادية عتاب : الأرض المنسية
ضمن رحلاتي لتقصي وضع مرض الجذام وماتبقى منه في بلادنا المحرومة من عناية الإدارة الصحية الحديثة ورعاية المواطنين حسب ما جاء في دستورهم الذي لا يطيعه ولا يعمل به أحد ، زرت في شهر يوليو هذه السنة أرضا بعيدة عن تعز مكان سكني هي أرض ليست بالصحراء الرملية وليست بالأرض الجبلية التي تحتضنها حقول عمرها الإنسان على مدى الاف السنين ، بل هي وديان طويلة تحتضنها وتفصل ما بينها جبال جرداء لا ترى فيها شجرة يانعة بل كهوف نحتتها ريح صلصل عاتية قادمة من عمق المحيط الهندي الذي لا ترى له نهاية ، كهوف فاغرة أفواها السوداء المفتوحة على تجاويف بيضاء لم تصلها شمس عتاب المحرقة لتحيل بياضها سوادا وبها نتوأت بارزة كأنها أسنان الشيطان .
على جوانب تلك الوديان الجرداء تناثرت خيام تحيط بها جمال وأغنام بيضاء كتلك القادمة من الشاطئ الغربي لبحر العرب ؛ تأكل الأغنام أعشاب صحراوية نادرة متناثرة ونساء ذاهبات غاديات لابسات السواد تحيط بوجههن براقع سوداء وتنتهي عند أفواههن وأنوفهن بقماش مخروطي الشكل كخرطوم الفيل يسمح للهواء بالدخول يساعد التنفس ويمنع الإختناق الذي قد يحدثة البراقع التي تحمي جمالهن من العيون المتطلعة في هذا الحر الكتوهج.
رجال قابعون في تلك الخيام يمدون أرجلهم مسترخيين في ظلال الخيام يتقون به حر الشمس اللافحة وللخيام سقوف رفعتها أعمدة من خشب وحديد وشدت أطراف أقمشتها إلى الأرض بالحبال المتينة المتصلة بأوتاد غرست عميقة في الأرض لتقاوم العواصف ثابته في أماكنها لا تتزحزح ورفعت جوانب أقمشتها عاليا كما ترفع المرأة الخجول أطراف ثوبها الطويل الى جانب جسدها لتعطي مجال للهواء للتجوال في فسحاتها فيلطف جو الصيف الخانق حاملا معه كثيرا من الغبار وذرات الرمال.
تلك هي الأرض المنسية أرض بادية عتاب والذي تقع ما بين سيحوت وقشن من أرض المهرة ، ذلك الأسم الذي يجعلك تتوقف عند سماعه كثيرا لتفكر بأصله اللغوي ؛ ترى من وصف هؤلاء القوم بهذا الوصف الرائع الجميل كجمال ملامحهم العربية اليمنية الأصيلة أصالة الوديان والجبال الذين يتمسكون في البقاء عليها رغم قساوة تضاريسها وندرة مائها، ملامحهم تبهرك جمال وجوههم تسحرك وعذوبة لهجتهم تجعلك فاغرا ثغرك في عجب لتعطي أذنك مزيدا من الهدؤ للإستمتاع بنغماتها الموسيقية .
تقاسيم ملامحهم عربية أصيلة لم يتداخل في تركيبها الوراثي أي جنس أخر فبقيت تتمتع بجمالها الأصيل المميز للعرب ، الأنف الطويل المسيف دون إعوجاج والشفاة الممتلئة الرفيعة والأسنان الناصعة البياض والعيون الواسعة ذات مقلة داكنة السواد تحيط بها بياض كاللبن تغطيها رموش مقوسة وأهداب طويلة سوداء وإبتسامة عذبة ملؤها الحب والحنان .
لغتهم القديمة قدم سبأ وحمير ومعين ليست غريبة على الأذن ، تكاد تفهمها ، تنطقها ، لكنك لا تستطيع تفسير معانيها قريبة مخارجها من اللغة العربية وكأنها قطعة موسيقية تتشابه معها لكنها مختلفة لا نستطيع إستيعابها ؛ فهم ما يزالون يتكلمون اللغة الحميرية القديمة التي يطلقون عليها اللغة المهرية ، ترى لماذا هم مهرة ولما وصفوا بهذا الوصف البديع المميز ؟؟.
قال لي أحدهم لقد كانوا مهرة فعلاً ؛ في صنع السفن ! صنع السفن ؟! في هذه الأرض الجدباء بدون شجر !! ومن أين يأتون بالخشب إلى هذه الأرض التي لا توجد بها شجرة باسقة واحدة ؟ ، كل أشجارها واطية ممتدة براحتها تحتضن سطح الرمال خوفاً من أن تقتلعها الرياح العاتية القادمة من المحيط !؟ لا سيقان لها و أن كان لها سيقان وجذوع فإن سيقان تلك الشجر الباسطة منبطحة أغصانها على الرمال مغطاة سيقانها بحياء وخجل بل بخوف من الرياح العاتية فلا تراها عين ولا تصل إليها الرياح لتقتلعها !! إذا من أين يحضرون الخشب لصنع السفن؟؟ كانوا يحضرون الخشب على سفنهم من بلاد الهند !! وهم الذين علموا جيرانهم العمانيين صناعة السفن !! .
ولما لا يكون العكس بأن العمانيون هم الذين علموا المهرة صناعة السفن ؟ السبب واضح في هذه الحالة سيكون إسم العمانيون المهرة إسم لسكان ظفار وصلالة !! ولن يعطى الإسم الا لهم ! لا مش ضروري ! بل لا فرق في ذلك الزمن بين عربي وعربي، الأرض كانت واحدة وبلاد العرب كلها واحدة ليس فيها جوازات ولا تأشيرات ولا حرس حدود ولا رؤساء يبيعون أوطانهم للملوك ولا ملوك يبيعون شعوبهم للصهاينة.
قاطعني أحدهم بقولة لا يهم المهم أن تتحرر الأرض من الإستعمار الشمالي وتبقى الجنوب حرة ، نحن لسنا يمنيون !! هكذا تدخل مرافقي من المكلا – ألستم يمنيون ؟! أجبته مستغربا ! من أنتم إذاً؟ إلى أي وطن تنتمون ؟! إلى الجنوب ؟! رد صاحبي .
إذا أنتم تنتمون إلى الجهات الجغرافية أصلية وفرعية ؟! هل توافق على هذا أن يكون إنتماء البشر جهوي؟سألت الشيخ المهري الذي أمامي : لا يا تختر بل نحن يمنيون وقالها باللغة الأمهرية (يمنات) ومن أصل العرب ولغتنا لغة حمير أصل اليمن .
دعوني الأن من هذا الهراء فلنفحص المرضى ، كان أمامي كثير من الأطفال والنساء والشيوخ ؟ كنت أبحث بينهم عن مصاب بمرض الجذام كعادتي التي لم أهجرها منذ 30 سنة أكتشفت خلالها أكثر من عشرة الف مريض جذام !!! إمراءة قادمة من الوادي توا تسوق غنمها يحضرها زوجها إلى الخيمة ويأمرها بأن ترفع ثوبها قليلاً للكشف ، تمنعت ورفضت لا لا أفضل أن أبقى مريضة على أن أكشف نفسي لرجل غريب ، يحاول زوجها أن يقنعها رفضت مثل كل نساء المهرة ، كانت ساحرة الجمال إبتسامتها العذبة تمنعني بأدب من أن أقترب أو ألمسها ، أكتفيت بسؤالها وأخذ القصة المرضية وأعطيتها بعض الفيتامينات والمسكنات .
المريض التالي رجل أفترش الحصير تحت رأسه وسادة صغيرة ، بطنه منتفخة تحسستها كانت الكبد والطحال متضخمتين إنه يعاني من التهاب بالكبد وربما السرطان ؛ أقنعته بأن عليه الذهاب إلى مستشفى كبير في عدن أو تعز أو صنعاء ، لا أستطيع له شيأً إن ما أبحث عنه هنا أمراض جلدية فقط مرضه خارج تخصصي ، بعد أن خرجنا من الخيمة وفحصنا كثير من الأطفال وقد أكتشفت بينهم حالة إصابة بمرض الجذام في بداية الإصابة سيأخذ علاجه ويشفى دون أي أثار، كان وقت الظهيرة يقترب والشمس المحرقة تقترب من منتصف السماء أقتربت مني مساعدي القادم من المكلا يلومني (يا دكتور الرجل صاحب البطن المتضخم يلومك كيف تقول له أذهب إلى عدن ، إنهم فقراء لا يملكون شيئاً . يذهبون إلى السوق بغنمة يبيعونها ليعودون بكيس رز أو كيس دقيق وجلن زيت بقيمة الغنمة ، إذا وجدوا من يشتريها أو يعودون ليتضورون جوعاً حتى ميعاد السوق التالي ، هؤلاء البدو إلى زمن قريب كانوا يعيشون في هذه الأكواخ الحجرية التي تراها بالجبال وتحت الأشجار حتى الخيام لا يملكونها ويتنقلون بغنمهم ومواشيهم في البادية ليستقرون مؤقتاً حينما يجدون الماء والعشب لأغنامهم ، لم يعرفون الخيام التي تراها منصوبة إلى منذ زمن يسير وتلك الأبار الإرتوازية التي أستقرت بعض قبائل البدو حولها هي تبرعات من فاعلين خير من أبناء صلالة المجاورة لهم أو من أبناء المهرة الذين هاجروا وأستقروا في الخليج ) .
في خيام البدو في بوادي المهرة لا توجد كهرباء ، لا يملكون وسائل المعرفة لا راديو ولا تلفزيون أنتشرت الأسلحة بينهم بعد حرب 1994 وينتشر حديثا بينهم التلفون السيار كما تنتشر حمى الضنك في تعز بفضل ردائة الخدمات الصحية وفسادها ينامون مبكرين ويصحون مبكرين ، ونشاهد عدداً كبيراً من الأطفال بجانب الخيام معظمهم تضخمت بطونهم من الديدان والطفيليات التي تعيش في أمعائهم تستهلك ما يجدونه من قوت معظمه يتكون من الخبز والرز وحليب الغنم أو الأبل ولا يذوقون اللحم الا في العيد أما السمك المجفف فلا يأكلونه مثل بوادي حضرموت.
معظم الأطفال لا يفهمون العربية يتكلمون المهرية فقط ، وإذا توفرت مدارس تحت الأشجار النادرة كندرة المدارس والمدرسين مما وجد غير مؤهلين فإنهم يدرسون الأطفال باللغة المهرية أيضاً وخاصة في السنوات الأساسية ثم يتكلمون العربية في مراحل متقدمة .
تنتهي بادية عتاب بإنتهاء الوادي الممتد من بين الجبال الجرداء الشاهقة إلى البحر العربي حيث كان هذا الوادي الأجرد منذ الاف السنين نهرا يتدفق مياها عذبة من جنة عدن التي كانت غابات وأنهار تغطي صحراء الربع الخالي القاحلة اليوم ينتهي الوادي الأجرد بمدينة عتاب والذي يبلغ عدد سكانها حوالي الفين مواطن أهم مايوجد فيها مسجد فسيح أنيق مرتب بناه فاعل خير يرجو جزاء ربه في مقام عال في الجنة.
مدرسة ؟؟ كانت هناك مدرسة أيام الحزب هجرها الأطفال لعدم وجود مدرسين ! مستوصف ؟ هناك مبنى لا يوجد به عاملين صحيين ولا خدمات طبية !! والعامل الصحي الوحيد رجل من الصالحيين سلفي المنهجر فتح له صيدلية تكاد تكون خالية من العلاجات الا ماندر.
عتاب وهي مدينة صغيرة تقع على ساحل بحر العرب في المحيط الهندي مابين البحر والوادي معظم سكانها الألفين ماعدا النساء والأطفال مهاجرين في عمان والخليج عند الجيران الذين لا يرفضون لهم تأشيرة ولا جواز وحبهم لهم نقيا خالصا لوجه السلاطين والملوك والأمراء المحيطين بالجزيرة التي صارت جمهورية ناشزة منذ 1962 فحق عليها البقاء فقيرة يمزقها النزاع والخلافات التي يغذيها الجيران حتى لا ينظر لها السكان المجاورين في السلطنات والإمارات والممالك بعين الحسد .
لايوجد في عتاب مطاعم ولا قادمين من الشمال يرتزقون من المخابز حتى السمك في مدينة تجاور البحر نادر المطعم الوحيد يخدم الناس ولا يوجد به طاولات أو كراسي تتراكم المخلفات والقمامة أمامه وتتسابق الذباب لتنافسك على كل لقمة تمتد الى فمك فلا تدري هل أمتلاء فمك بالخبز والأدام أم بقوافل الذباب.
هناك كان عشائنا على الأرض في ذلك المسمى مطعم أما السمك فقد أحضرناه معنا من قرية ساحلية أخرى ، ويعتذر زميلنا العامل الصحي السلفي كنت سوف أرتب لكم العشاء في منزلي ولكن طبيب مكافحة الجذام الذي زارني قبلكم رفض إلا أن يأكل في المطعم قلت في داخلي (( الله لا سامحك يا دكتور عبدالصمد)) وقبل أن يدعني ومساعدي والسائق للبحث عن مكان نأوي إليه قلت له وأين سننام ؟؟ قال عندي في البيت فاستبشرت خيرا وكان نوم هنيئا على سقف بيته الجميل الخالي الذي لم يكتمل بناؤه بعد ونسيم البحر العليل يشفي الهم ويزيل التعب ونجوم السماء كلها قناديل تضيئ ليلنا كل النجوم في المهرة تضيئ لا يختفي منها نجم بفعل التلوث الضوئي الذي ينتج من الكهرباء الساطعة التي نحلم بها ليل ونهار في مدينة تعز يالها من ليلة رائعة لا سامحك الله يانيوتن.
بيوت عتاب كلها واسعة ولها أحواش كبيرة وعندما تنظر إليها من القمر الصناعي بخرائط جوجل تراها كأنها القصور وترى الشوارع مرتبة منظمة متعامدة على بعضها لكن إذا أقتربت منها لا يوجد في عتاب متر واحد معبد وشوارعها مليئة بالقمامة والذباب الذي لا يتركك وحيدا أبدا.
صحينا من نومنا الهنيئ مبكرين لصلاة الفجر مع أصوات مكبرات الصوت من المسجد الفخم الوحيد في عتاب وإلى المطعم بعد الصلاة مباشرة الى الخبز الأبيض الناصع والشاي الأسود الذي يذوب بالسكر بدل ذوبان السكر فيه ولنبدأ يوم جديد في قرى أخرى في المهرة وبادية تزخر بمعاناة البشر.