فضاء حر

جنوب اليمن: مشكلة أم حل؟

يمنات

خلال الفترة الماضية كنت أتابع ملف الحوار اليمني، وأرصد تصريحات ومواقف من هنا وهناك. تمخضت كل الملاحظات قبل بدء الحوار الوطني في اليمن عن استنتاج يوشك ألا يكون محل خلاف، وهو أن «قضية الجنوب» أهم القضايا المطروحة على مائدة الحوار وأكثر تلك القضايا تعقيدا. وحول هذا الاستنتاج، هناك استنتاجات أخرى، تتمثل في أن حل القضية الجنوبية سيؤدي إلى نجاح مؤتمر الحوار، وسيكون بوابة الحل للمشكل اليمني بشكل عام، وأن عدم حل هذه القضية، أو ترحيل حلها سيؤدي إلى تفجر الوضع الهش وربما الانهيار التام. إضافة إلى ذلك فإن حل هذه القضية وفق المفهوم السائد لـ«الوحدة» لم يعد مقبولا في الشمال قبل الجنوب، ذلك أن هذا المفهوم هو الذي هيأ لكثير من عناصر الفساد السيطرة على الموارد التي كانت مؤممة للدولة في الجنوب سابقا، وبالمقابل فإن حل «القضية الجنوبية» وفق مفهوم «فك الارتباط» الذي لا يزيد على كونه «فذلكة لغوية» يقصد بها تقسيم البلاد، حل هذه القضية وفقا لهذا المفهوم يفوق خطورة استمرار الوحدة في مفهومها السابق.


القيادات الجنوبية اليوم مطالبة بضبط ساعاتها على إيقاع اللحظة التاريخية الراهنة، وهذه القيادات تدرك بالطبع أن هناك تفهما كبيرا لقضيتها على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، تماما كما تدرك هذه القيادات أن هناك مواقف دولية تصر على ضرورة إبقاء اليمن موحدا، ليس لأجل المصلحة اليمنية وحسب، وإنما لأن هذه المواقف الدولية مبنية على أساس أن تقسيم البلاد هو الباب الأسهل المؤدي إلى قلاقل محلية وإقليمية ومن ثم عالمية لن تنتهي. ومع ذلك فإن هناك قلقا اليوم من أن تضيع هذه «اللحظة المفصلية» في خضم التشاحن الجنوبي الجنوبي، والمزايدات على القضية، والانسياق وراء رغبة كثير من قيادات الحراك في لعب دور «البطل الجماهيري» لأغراض سياسية. ومشكل آخر يلحظ هنا وهو أن كثيرا من مواقف قيادات معينة في الحراك هي ردود فعل، وقد حان الوقت بالنسبة لهذه القيادات لتقديم الأفعال على ردود الفعل، والبعد عن حالة ارتجال المواقف، والمزايدة من أجل النجومية والبطولة الجماهيرية التي قد يكسب منها أصحابها بعض الهتاف لكنهم بلا شك سيخسرون القضية. مشكلة الخطاب الجماهيري الانفعالي أنه في البداية يركز على شحن جماهيره ضد طرف معين، لكنه بعد ذلك لا يستطيع توجيه شحنة الكراهية التي تنفلت لتتجه ضد مكونات معينة ضمن دائرة خطاب الكراهية ذاته. ومن مفارقات الخطاب الارتجالي الجماهيري لبعض فصائل الحراك الجنوبي أنه سعى بشكل حماسي نحو الوحدة الاندماجية قبل 1990، وبالأسلوب ذاته يطالب اليوم بالانفصال التام.


هناك حلول وسط يمكن أن يجتمع عليها اليمنيون اليوم شمالا وجنوبا، تتمثل في رفض المفهوم الذي ساد عن وحدة اليمن خلال الفترة الماضية، ورفض مفهوم «فك الارتباط» الذي تطرحه العناصر الارتجالية في الحراك الجنوبي، ويأتي رفض مفهوم «الوحدة السلبية» من خلال رفض السياسات التي من خلالها صار الجنوب غنيمة ليس للشمال، ولكن لعناصر انتهازية قبلية وعسكرية وسياسية من الشمال والجنوب، هذا المفهوم القائم على أساس أن الجنوب فرع عاد إلى أصله ينبغي تفكيكه، ويأتي ضمن تفكيكه، تفكيك مفهوم «المركز الحاكم» أو «الأصل الذي عاد إليه فرعه». وتفكيك هذا المفهوم يتطلب تفكيك أدوات «تسلط» هذا «المركز الحاكم» على ما يعتبره فروعا له. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المقصود بالمركز الحاكم، ليس الشمال، ولا الحزام القبلي شمال صنعاء، وهو الذي يحلو للبعض أن يحمله المسؤولية، مع أنه في مجمله ضحية من ضحايا بنية سياسية أنتجت مركزا حاكما يتشكل من مجموعة «عصبوية» مغلقة سعت إلى إعادة إنتاج النظام ذاته في كل فترة من فترات التاريخ المعاصر للبلاد، وسعت بكل جهدها لتفكيك كل محاولات تدوير «المركز الحاكم»، أو تطعيم هذا المركز بعناصر من مراكز أخرى في البلاد. أعلم أن هذا التشخيص سيغضب كثيرا من العناصر الفاسدة فيما يسمى «المركز الحاكم»، التي تعرف جيدا أنها هي التي أنتجت الوضع القائم اليوم في الجنوب، وأنها شريكة عناصر «الخطاب الارتجالي» في صف الحراك عن حالة الاستقطاب والشحن المناطقي في البلاد. واليوم يحاول تيار يقوده الرئيس الأسبق علي ناصر محمد ورئيس الوزراء الأسبق حيدر أبو بكر العطاس التوصل مع المبعوث الدولي إلى صيغة لتمثيل الجنوبيين في مؤتمر الحوار الوطني، إلا أن النقاشات لا تزال فيما يبدو في بداياتها، ومن الصعب تشكيل رؤية واضحة عن توجهات هذا التيار، خاصة أن هناك حالة من الخصام بين تيارات مختلفة في الحراك، وهناك خوف من أن توظف تيارات حراكية بعض المواقف لصالحها في اشتغال على وتر المزايدات للكسب الجماهيري على حساب ما بات يعرف بـ«القضية الجنوبية». ولعل هذا العامل هو الأهم بين مجموعة من العوامل التي تفسر عملية الغموض الذي يكتنف مواقف قيادات جنوبية بعينها إزاء الحوار الوطني.


الثابت اليوم أن الحفاظ على وحدة البلاد يقتضي إعادة النظر في مفهومها، وإعادة بناء الدولة الجديدة وفقا لحقيقة راسخة مفادها أن هناك تنوعا جغرافيا وديموغرافيا في البلاد، وأن هذا التنوع ينبغي الاعتراف به، وأنه ليس علامة ضعف، بل مكمن قوة إذا وظف التوظيف السليم. دعونا نقول بوضوح إن القلة العددية لسكان الجنوب مقابل الغالبية الموجود في الشمال، والمساحة الكبيرة للجنوب مقابل مساحة الشمال الأصغر، تبعث على القلق عند الجنوبيين، لأنه حتى ضمن نظام ديمقراطي شفاف، فإن السلطة ستؤول إلى الأغلبية الشمالية. وهنا يمكن الإشارة إلى أشكال من الديمقراطية يمكن بها التغلب على هذا «العيب الديمقراطي»، الذي يتخوف البعض في الجنوب من أن ينتج عنه «ديكتاتورية الأغلبية». الاستفادة من النموذج الأميركي في تقسيم غرفتي البرلمان قد يساعد على بلورة حل، كأن تكون هناك غرفتان للبرلمان اليمني، واحدة تؤول إليها عملية رسم السياسات الخارجية والقضايا السيادية، وتخضع عملية اختيار أعضائها لـ«الانتخاب الديمقراطي»، مع ضمان عدد متساو من المقاعد لكل إقليم أو ولاية، حيث يمثل كل إقليم بعدد متساو من الأعضاء بغض النظر عن عدد السكان في هذا الإقليم أو ذاك، وقد عرف اليمن القديم ما أطلق عليهم القرآن الكريم لاحقا تسمية «الملأ» في سرده لقصة ملكة سبأ التي «قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري»، وكان الملأ مجموعة من «الأقيال» الذين كانوا يمثلون «مخاليفهم» في العاصمة. ثم تكون هناك غرفة أخرى، ينتخب فيها الناس ممثليهم وتقسم الدوائر الانتخابية في الأقاليم على أساس التناسب العددي للسكان، وتعطى لهذه الغرفة مسؤوليات المراقبة، والاهتمام بالقضايا الداخلية. هذا مجرد أحد الحلول الكثيرة التي يمكن أن تضمن نظاما ديمقراطيا شعبيا مع الحيلولة دون تشكل «مركز حاكم» ديكتاتوري مدعوم بأغلبية شعبية، وهناك حلول أخرى كأن تعاد عملية صياغة مفهومي الجنوب والشمال جغرافيا وديموغرافيا، بما يتيح نوعا من التكافؤ السكاني والتجانس البيئي والثقافي مع الأخذ بالنظام البرلماني المذكور. الحلول كثيرة، وما يلزم اليمنيين اليوم هو إرادة التغيير، والبحث عن الحلول، مع قدر من «الإبداع» المطلوب في اجتراح الحلول، وفتح آفاق المستقبل الذي يمكن أن تكون محنة اليمنيين اليوم سببا في ازدهاره أو عاملا لانفجاره.


من المهم أن تدرك الأطراف الداخلة في الحوار أنها لن تخرج من الحوار بمكاسب حزبية أو شخصية إذا أرادت للحوار أن ينجح، عليها أن تدخل الحوار بنية تقديم تنازلات، والتنازل قد يكون صعبا لكن نتائجه إيجابية حال وجود ضمانات حقيقية لتنفيذ ما سيصدر عن مؤتمر الحوار. وهذه الضمانات ينبغي أن تكون على نوعين؛ النوع الأول ذاتي داخلي، يكون عن طريق سن تشريعات، أو أحداث تغييرات في البناء السياسي، وهو الأقوى والنوع الثاني ضمانة الداعمين للمبادرة الخليجية. وكما تنازلت الأطراف التي تنادي بالوحدة عن المفهوم القديم للوحدة الذي أساء للشمال قبل الجنوب، وكما تحرك الشباب لإسقاط المنظومة التي شكا منها الجنوبيون طويلا، فإن القيادات المسؤولة في الحراك الجنوبي اليوم مطالبة بأن تقترب خطوة نحو وسط الطريق الطويل. ومن المهم هنا القول إن فريقين لن يكونا مسرورين بهذا الطرح؛ الفريق الأول: هو الذي نظر إلى الوحدة على أساس أنها سيطرة وضم وإلحاق وبسط على سواحل عدن والمكلا وأبين، وحقول جنة والمسيلة، بعد أن أفقر سواحل الحديدة وذبح جبال صنعاء وتعز، وتحكم في حقول مأرب، وهذا الفريق عناصره موجودة في صفوف النظام السابق، كما هي موجودة ضمن من ثار ضد هذا النظام، وهو الفريق الذي يتحمل مسؤولية تشويه الوحدة في نظر مكونات جنوبية واسعة. أما الفريق الثاني فهو الفريق الارتجالي العاطفي في الحراك، والذي ثبت أن كثيرا من طرحه يصب في صالح الفريق الأول اليوم والأمس، في ضرب من جنون المسرح السياسي اليمني القادر حتى اللحظة على إنتاج مسرحيات هزلية تبكي الجمهور عوضا عن أن ترفه عنه.

زر الذهاب إلى الأعلى