أدب وفن

أمين الحضراني.. العاشق الذي غازل النجوم وتمنى أن يمتلك قلبين

المستقلة خاص ليمنات

في هذا المضمار إذا أردنا من الكتابة الإستعراض فقط فإننا سنكون ملزمين دون شك بالحديث عن كل شعراء الأغنية في اليمن لأننا إذا نظرنا للمسألة من ناحية الكم فسنجد القائمة تحفل بالمئات من الأسماء وعلى العكس إذا حاولنا إخضاع الأمور لمعيار الكيف فسنرى كيف أن قليلون فقط من استطاعوا أن يثبتوا جدارتهم وينحتوا مكانتهم على صخرة الوجدان الشعبي الأصيل ليس بكثرة نتاجهم المغنَّى ولكن بألق تميزهم وشاعريتهم الفذة التي لم يحتاجوا معها لشهادة أو إطراء من أحد على سمو قرائحهم وجلال إبداعهم الفريد..

وإذا فتشنا في ثنايا هذا الملف ستواجهنا العشرات من الأسماء المشعة واللامعة التي تشع بريقاً وعطراً وندى على امتداد مساحة الألق المفتوح.. ومن بين هذه الأسماء البراقة يلوح نجم الشاعر الغنائي الرقيق أمين أحمد الحضراني الشقيق الأصغر للشاعر الكبير الراحل إبراهيم الحضراني.. بمجموعة قصائد هي جواز عبورنا إلى عالمه الخاص ومع صدق الألم والمعاناة دعونا نتوقف للحظة لنقترب أكثر من تجربة أمين الحضراني ونلامس بأصابع الإحساس الشفاف شغاف الجرح الذي صاغ من نزيفه هذه الدرر المقلدة عقوداً على صدر مهجة الأيام..

صفوان القباطي- [email protected]


المفتتح البديع في خوضنا السريع بين ثنايا أوراق الشاعر أمين الحضراني الذي كبر بعمر الهم والأحزان يأتي من مقام القناعة والرضى بالمقدر والنصيب وهي دعوى منه لنا بأن نسلم بالمقسوم ونرفع شعار الصبر في وجه مآسي الغرام وعواصف الحياة العاتية..

ما حد معه في الحياة غير النصيب والمقدَّر..

 ولا حذر من قدر

لا تقضي العمر في دنيا همومك مُحيَّر.. ويضيع عمرك هدر

وان ضاقت الحال يا سيد الغواني تصبَّر.. من ضاق حاله صبر

ما يرحم إلا الذي محبوب قلبه تكبَّر..

والا حبيبه هجر

أما حبيبي أنا يا ناس قذكَّه تغيَّر..

بالذات بعد السفر

والصبر في شرع الحضراني فرض عين لن يتم الجميل إلا بسلوك سبيله وإن طال الطويل..

ياذي صبرت الكثير ما عاد يضرَّك قليلة.. تِمْ الجميل يا جميل

عواقب الصبر يا سيد الغواني جميلة.. والصبر طبع الأصيل

الصبر يا فاتني نعمة من الله جزيلة..

قد قال فيه الجليل

وبالتأكيد في غمرة الوجد ليس لدى الصابر من حيلة أو وسيلة لشرح ما يعانيه أكثر تعبيراً من الدموع والآحات كما هو حال شاعرنا الحضراني الذي جمع في صدره كل أسى الدهر ليطلقه في زفرة واحدة..

آح وألفين آح.. الشيب يا ذيب قد لاح..

ما ظهر من كِبَر.. لكن صروف الشدائد

وكم يتمنى العاشق أن يمتلك قلبين وهو يغالب حسراته ويقف على مشارف اللوعة مسلوب الفؤاد..

والنبي لو معي قلبين ما قلت لك آح..

كنت شاسلِّمك واحد وشحيا بواحد

لكن القلب ذي عاد كان معي أمس قد طاح..

قد لقي في هواك يا ذاك كافي وزايد

وَيْه غبني عليه ما قد شكا لك وما صاح..

وانت تهوى المزاح وان قلت يكفي تعاند

أين اسير اين اجي ضاقت بي الأرض يا صاح..

ويش عاد ارتجي ملَّيت كل المعاهد

ومع الضنا والآلام للحضراني صولات وجولات أوقعته في معترك أساها سهام النظرات من عيون الفاتن النعسان الذي ألهب جحيم الجوى في جوانحه وتركه ولهاناً يتحسس أثر الجرح النازف بين أحشائه بعد أن عز الوصل واحتجب الخل عن النظر رغم قرب المسافة فشرع بمخاطبته معاتباً:

أضنيت صَّبك وقد بان النحول..

واجريت دمعه على خده سيول

وارضيت فيه الحواسد والعذول..

وفوق هذا وذاك رُمت الغياب

أتيت فجأة وليتك ما أتيت..

عنَّيت قلبي بحبك واختفيت

والظاهر انَّك على قتلي نويت..

ما بعد هذا العذاب الا التراب

لا كانها عشقتك ياذا الحبيب..

فالقلب من عشقتك يلهب لهيب

بين افقدك وانت من عيني قريب..

وحين تغيب لا يطيب زاد أو شراب

وعلى درب شرح مأساته للحبيب يمضي أمين الحضراني مستعطفاً تارة ومستجدياً تارة أخرى وغاية آماله أن يحظى ولو ببعض المطلوب بعد أن شارف على الهلاك..

شيَّبت بي يا حبيبي قبل ابي..

وكيف بالشيب في رأس الصبي

أدَّيت لك ما تريد واوديت بي..

فتحت لي للهلاك ألفين باب

فيا رجائي وياكل الأمل..

لا كيف تضني أسد وانت الحمل

اسقيتني المر واسقيتك عسل..

وبيننا يا رشا يوم الحساب

يا منية النفس لا هانا وبس..

لو كان قلبك حجر قدَّر وحس

أدرك غريق في بحورك قد غطس..

بحق سيد الورى عالي الجناب

وتتوالى بكائيات الحضراني الذي أطال السباحة في محيط الدموع ولعمري إنها مأساة من كانت خطيئته الوحيدة رقة قلبه خصوصاً عندما يكون المعشوق من النوع (النذَّاق) أجارنا الله وإياكم من شر كل عشاق نذاق يبيع ويشتري (طريق طريق)..

عشَّاق نذَّاق لا يسأل ولا يشتاق..

ضيَّق عليَّا الخناق ما زيد دريت ما افعل

والعمر سار احسنه لهفة عليه واشواق..

لو زاد صبر لي سنة أيش كان بايحصل

من فعلته يا رفاق كُلِّي بكلِّي ضاق..

أمره إلى الله ما عجَّل وما أجَّل

عجَّل بموتي وأجَّل لحظة الإزهاق..

ليته يتم الجميل يقتل ويتجَّمل

وقبل أن نسأله يسرد لنا الحضراني بعضاً من صفات هذه العينة من العشاق (الركن) لنحذرهم  من باب العلم بالشيء..

في الغدر شاطر قوي يستاهل الصفَّاق..

في الحب أكبر غبي ما اشتيش اقول اخبل

من تحت لاتحت ما الأخلاق هو أخلاق..

والعالم الله كم عشاق قد قَتَّل

أيقنت أنه رَكن والذوق مش ذوَّاق..

يبيع بارخص ثمن حبيبه الأول

وللأسف يدَّعي إنه من العشاق..

والعشق منِّه بري لا يوم يتقبَّل

ولكي لا تكون النهاية مجهولة وغامضة يترك لنا شهيد الحب هذه الوصية ليخبرنا بمن يقف خلف مقتله ومن يتحمل مسئولية التبعات في هذه العريضة الشاملة..

إن مت يا قوم فالحب السبب..

قد دامني دوم ورَّّاني العجب

تبَّت يد الحب يا قلبي وتب..

وويله الويل من ودَّف وحب

الحب كالحرب بل أكثر دمار..

فيه ضرب بالقلب فيها ضرب نار

الحب يشتي قلوب مثل الحجار..

تقوى على النار لا مثل الحطب

في الحب ما ينفعك أقرب قريب..

ولا يفيدك علاج أمهر طبيب

وبعد أول حبيب ما بش حبيب..

إلا لعاشق على نفسه كذب

وبنبرة المتحسر على ما فات في الوقت الضائع يطلق الحضراني تنهدات الأسى وهو يعض بالنواجذ على أنامل الندم مستدركاً:

هنيت له من عشق جزعة طريق..

لابه حريق دم ولا نهده وضيق

ما احنا عشقنا وحبَّينا حقيق..

وما عرفنا معه إلا التعب

الحب أصعب وأخطر تجربة..

وإن كان لابد منه فانتبه

وان عذَّبك من تحبه عذَّبه..

ولا عليك شي ملامة أو عتب

ولأن طريق الهيام ليس له آخر طالما ظل القلب ينبض بالشوق والحنين فمن الطبيعي أن يعكس مسار الرحلة نفسه في شجون العاشق وعذابات لياليه الموحشة في فراق الحبيب.. ها هو الحضراني وقد بلغ به اليأس حد نفاد الصبر يفتح نافذة الشكوى المطلة على ساحة الخل الهاجر بعد 20 عاماً ويسكب آحات صدره الملتهبة حمماً مقفاة على هيئة:

خطَّيتني من طريق ما بش لها آخر..

واشعلت فيني حريق ما استرت اطفِّيها

ما قلت لي قلت لك ناهي تمام حاضر..

والله لو قلت هات الروح لا ادِّيها

عشرين سنة هيمنة وانا عليك صابر..

واليوم يا غارتاه والحال انا فيها

لا نوم فيني ولا انا بالذي ساهر..

مبلي بالأيام حانب كيف اخطِّيها

لا سامحك حالتي تصعب على الكافر..

يكفي عذابي لنفسي بس يكفيها

أيش ذي معي من هواك ما هو الذي سابر..

غير التعب والهلاك واحزان ساليها

يا هلَّلِي والمنى واموت لي باكر..

لاقد حياتي عناء لا اشتيك ولا اشتيها

وفي مستهل قصيدة أخرى يصف لنا أمين واقع الحال وكيف يقضي يومه المجسد لنسخة طبق الأصل من حال أيام عمره كلها..

أقضي اليوم سالي لا عليَّا ولا لي..

والعشي يقبل الهم

والنبي طال ليلي ويل قلبي وويلي..

كم سهر كم وياكم

صابرين صبر أيوب في هوى ظبي رعبوب..

عشقته مرعلقم

عشقته أسهدتني فرقته زلزلتني..

سال دمع العيون دم

كم وكم ضاق حالي ما احداً قال ما لي..

أنت يا رب تعلم

ولا نستغرب أن نجده يصل من الرضى بواقعه درجة استعداده لمجادلة الناس في هذا الخصوص..

قالوا الناس للمه أنت راضي بظلمه..

أتركه قبل تندم

قلت يا ناس ياقوم ما على من عشق لوم..

كيف تلوموا متيَّم

كل من حب يُظلَم لكن الظلم أرحم..

من حبيب ليس يفهم

وفي الحقيقة معلوم في طبع الغواني تظاهرهن بعدم الفهم وهو الأمر الذي لا يقل إيلاماً للعاشق عن المبالغة في (التلثام) وكثرة الكلام والمماطلة في الوعود..

يا كثير الكلام قد ذا لنا صابرين عام..

لا بعدت اللثام كلاَّ ولا قلت شي هام

كل شي فيك تمام قامة وهامة وهندام..

ليت لك اهتمام باللَّثم لا بالتلثَّام

لي شهور لا أنام لا حلم فيني ولا أحلام..

ما يجوز لك حرام تمَّيت قلبي تحتَّام

بالصلاة بالصيام يكفي عدامة ودعمام..

بيننا انسجام لا يحتمل صد واحجام

مقصدي والمرام واضح وعندك به المام..

وانت فيك المدام وللضرورات أحكام

ويصور لنا الحضراني قلقه وتفاصيل اضطرابه وهو يستقبل ضيف الفؤاد القادم إلى مجلسه بعد عذابات الفراق.. تعالوا نستشف حقيقة اللحظة ونقرأ ملامحها في هذه الجزئية على ختام تطوافنا السريع..

أهلا وسهلا بمن له في الفؤاد بستان..

حيَّا ملان المكان يا قرة الأعيان

ما احلاه وما احلى الورش قمري صغير فتان..

يقدر يطفي العطش يا قدرة الرحمن

إن غاب أبقى قلق هايم شجي ولهان..

والباب حين اسمعه أحمل صلا الدرجان

أهواه وآه عليه من كثرة الخلان..

الحسن كلِّه لديه ما فيه سخايهتان

أحيان أشكي إليه واحذِّره أحيان..

من ناس ما في أبتهُم حسن أو إحسان

والظاهر ان الكلام ما عاد يفيد الآن..

لأن من شب على شي شاب عليه يا اخوان

من روائعه

يا مغير الغزال.. لا زال ذكرك على البال

لكن البعد طال.. والحال قد ضاقت الحال

بالحسن والحسين.. ما كنت باني على البين

القضاء والقدر.. ما بيننا البين قد حال

فُرْقَتك فَرَّقت.. ما بين عقلي وبيني

بعدما وفَّقت.. ما بين قلبي والاهوال

صاح بعدك بقيت.. كالطير مقصوص الاجناح

بين آهٍ وآح.. والدمع ذي عز قد سال

لا يطيب لي رقاد.. كلا ولا ماء ولا زاد

والفؤاد في حداد.. قد زل وقته ولا زال

عِفْت كل البشر.. والجو والبحر والبر

ما بقى لي وطر.. في عز أو جاه أو مال

زر الذهاب إلى الأعلى