فضاء حر

هل الهوية اختيار أم اكتشاف؟

يمنات
أمارتيا صن فيلسوف هندي معاصر في علم الاقتصاد , وكان لعلمه أثراً بالغاً على نهضة الهند الحديثة, ونظراً لذلك حصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية, كما أنه ترأس جامعة أكسفورد لثمان سنوات, وهذا العالم الاقتصادي كتب في كتابه “الهويّة والعنف” مفنداً نزعة التحوصل حول الهوّية والانغلاق الهوياتي الذي يكتسح مناطق النزاعات والعنف, وبقدر ما تكون الهوية مصدر فخر واعتزاز ” إلاّ أن الهوّية يمكن أيضاً أن تقتل , وبلا رحمة.
ففي حالات كثيرة يمكن لشعور قوي مطلق بانتماء يقتصر على جماعة واحدة , أن يحمل معه إدراكاً لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى, فالتضامن الداخلي لجماعة ما يمكن أن يغذي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى, ومن الممكن أن يُقال لنا, فجأة, أننا لسنا روانديين فقط ,لكننا بالتحديد من طائفة الهوتو ( ومعنى ذلك أننا نكره أبناء طائفة التوتتسي), أو أننا لسنا في الواقع مجرد يوغوسلافيين , وإنما نحن في الحقيقة ” صربيون” ( وهذا يعني أننا لا نحب المسلمين قطعياً) ” ( الهوية والعنف ص5)..
و على أساس هذه الهويات الضيقة كم دفعت البشرية من أرواح وكم ارتكبت من مجازر وعانت الإنسانية من أهوال!! أن هنالك حروباً وقعت قامت على اساسها دول وتفككت على إثرها دول, وذلك بفعل سلاح فتاك اسمه الهوّية, هذا السلاح قادر على اجتثاث شعوب بأكملها وتبرير القتل والعنف الإرهاب, لذا فإن أمر هذه ” الهوّية” ليس أمراً بسيطاً , وهو أمر لا يتعلق بزمننا الراهن , بل هو أمر يتعلق بكل الأزمان والأمكنة , لقد شهدت البشرية الكثير من الحروب على اساس من الهوّية والتفوق الهوياتي أو محاولة إخضاع هوّية لهوية أخرى بالقوة , وعلى الرغم من هذا المخزون الضخم من التجارب البشرية المُرّة , فلا زال هناك ناس تحاول تجر البشر مرة أخرى إلى هذه المربعات النتنة باسم الهويات الضيقة والهويات المغلقة..
العالم اليوم ينفتح على هويات أكثر انفتاحاً , وهؤلاء لم يبارحوا تلك المربعات الضيقة, وتحتمي بها إما باسم القبيلة أو باسم الدين أو المذهب أو الطائفة, طبعاً الإرتكان إلى هويات ضيقة يفتح باب العنف والعنف المضاد على مصرعيه, لم يعد العالم يعترف بهوية واحدة قارة تحدد جوهر الإنسان, لقد بات الإنسان مفتوح على تعدد هوّياتي لم يعهده في تاريخه, الهويات تتداخل وتختلط وتمتزج فيما بينها, ولا يعرف هؤلاء أيضاً أن الهوّية والانتماء إليها ليست مسألة اختيار, بقدر ما هي سيرورة تشكل ثقافي طويل المدى, ولا توجد هوّية قارة ثابتة, لكن أيضاً الهوّية لا تستقيم مع سيكولوجية الرغبات والأماني أو الأفكار المفكر بها خارج سياق الواقع, ومع ذلك فلا زال هناك من لم يستوعب جدل التاريخي والمنطقي في ظهور وتشكل الهوّية ويسعى إما إلى التحوصل حول هوية واحدة أو إلى خلق هوّية, مع أن الشاعر الإنجليزي جون دون يحذرنا من التحوصل حينما قال ” لا يمكن للإنسان أن يكون جزيرة بمفرده” ومن يتحوصل لا يدرك أن فعل كهذا يفتح المستقبل أمام المجهول!!!
و مالا يدركه البعض أن الهوية بالمفهوم العرقي, تقود إلى انتهاج سلوكيات بشعة وبشعة جداً , العالم اليوم يتبنى مفهوم التعدد والتنوع في هوية الإنسان؛ فلم يعد الإنسان ذلك الفرد الذي يحمل هوية واحدة, أي يمكن للفرد أن تجمعه مع أخرين هوية عمل وهوية سكن وهوية جماعة تنظيمية أو حزبية … وهلم جرا, ” فكل إنسان له مواطنة, ومكان إقامة , وأصل جغرافي, ونوع جنسي, وطبقة وانتماء سياسي, ومهنة, ووظيفة, وعادات لطعامه, واهتمامات رياضية , وذوق موسيقي , والتزامات اجتماعية, إلخ” ( أمارتيا صن نفس الكتاب ص8).
أي أن الإنسان متعدد الهويات وهذا التعدد الهوياتي هو ما يقيه من التصرف وفقاً إلى القواعد التي يقوم عليها الحط من قدر الأخرين, كما أنها تقيه من كل المزاعم المغلوطة, وتقيه من وهم أن هوّية مفردة يجب أن يربطها الأخرون بالشخص, لكي يحطوا من قدره, إننا بحاجة إلى عملية جراحية تزيل ” أنا ” الهوية المنغلقة تشبه تلك العملية الجراحية التي ذكرها الممثل الإنجليزي بيتر سيلرز ” كان المعتاد أن يكون هناك “أنا” لكني أزلتها بعملية جراحية” إن عنف الهوّية عنف مضاف يستحيل تصور نتائجه , وكل حالة العنف القائمة على العنف يمكن تصورها من داخل سياقها كحالة رواندا والصومال ويوغسلافيا, إن العنف بقدر ما هي حالة تفرضها قلة الحيلة للضعيف أو المقهور, فإنها تفرض من قبل القوي بالغطرسة واللامبالاة وعدم الشعور بالمسئولية, وفي كلي الأمرين انغلاق الهوية انعدام لأخلاق المسئولية.
خلاصة الخلاصة.. أن الهوّية ليست مسألة اختيار بقدر ما هي مسألة اكتشاف الإنسان لذاته عبر سيرورة تاريخية وتتشكل داخل سياق ثقافي ..!
فلندعو إلى تعدد الهوية ولا لانحصارها وتقوقعها!!
تغريدة
إن مشاهد الجرائم البشعة في الضالع والتي تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعي, لا تعف أحداً من المسئولية وأولهم رئيس الجمهورية, فهي جرائم ترقى إلى جرائم الإبادة, وسيتم مسائلة الكل طال الزمن أو قصر, إن العصابة تعمل لصالح أجندات خارجية لها علاقة بناهبي الثروات الداخليين والخارجيين, وإذا لم يتصرف رئيس الجمهورية بمسئولية معها, فإنها ستكون بمثابة جرائم يتم التلويح بها ضده من قبل هؤلاء الناهبين, ولذا عليه أن يتخذ قرارات شجاعة يبرأ ساحته منها, إنها عصا التلويح ضده باعتباره الرجل الأول والمسئول الأول عنها .
اعتذار/ أعتذر للقراء عن الخطأ غير المقصود في مقال الأسبوع الماضي, حيث جاء في سياق المقال أن مؤسس المذهب الأشعري ” أبو موسى الأشعري” والصحيح أبو الحسن الأشعري.
عن: “صحيفة التجمع”

زر الذهاب إلى الأعلى