فضاء حر

محمد المتوكل .. اليمني الأكثر نبلاً

يمنات
في المجتمعات المحكومة بظروف عنف سياسية، يأتي لجوء أحد أطراف الصراع إلى تنفيذ عمليات اغتيال تعبيراً عن عجز هذا الطرف، وتغطيةً لعجزه بارتكاب هكذا فعل مدان أخلاقياً وسياسياً.
ويجيء تجريم استهداف السياسيين في الصراعات باعتبار السياسي صاحب القول الفصل في المرحلة التي يصل فيها الصراع إلى أقصى مستوياته، ويصبح الحوار ضرورة لجميع الأطراف المتصارعة. لكن، ماذا عن اغتيال سياسي وطني محايد، لا يمثل، ولا ينحاز لأيٍ من الأطراف المتصارعة؟ بالتأكيد، يعد ذلك عملاً إجرامياً لا يكون ضحيته فقط السياسي الذي تعرض للاغتيال، بل والمجتمع الذي عبر المنفذون لاغتياله عن إلغائهم له، وتجاوز أقصى الحدود التي يقوم عليها.
هذا ما حدث مع الدكتور محمد عبد الملك المتوكل الذي اغتاله مجهولون في 2 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ومثل اغتياله جريمة في حق المجتمع اليمني كله وحق الإنسانية. فإذا ما استطاع المتصارعون تبرير العنف المتبادل، فإن ما تعرض له المتوكل يأتي خارج ذلك كله، يأتي كدورة عنف قائمة بذاتها تهدد الجميع بلا استثناء.
يشكل الاغتيال صدمة وفاجعة كبيرة، لما يمثله الدكتور محمد المتوكل من رمزية وطنية وسياسية لجمهور عريض من اليمنيين. صحيح أن قطاعاً واسعاً منهم طالما تألموا من اغتيالات سابقة، وضلت صدماتهم (للأسف) متسقة مع إرباك معطيات الواقع ومصالح الأطراف السياسية المتصارعة ومراكز القوى المتحالفة معها.
لكن اغتيال المتوكل، البعيد عن تمثيل أيٍ من أطراف الصراع، لا بد سيرعب اليمنيين، ليس فقط لخسارتهم قامة وطنية، بل وكون اغتياله يجعل النيل من الجميع، ومن بنية المجتمع نفسه، أمراً وارداً قائماً بذاته، وخارجاً عن سلطات جميع أطراف المجتمع وأفراده. إن الصدمة من حادث اغتيال الدكتور المتوكل، علاوة على كونها ردة فعل أخلاقية وإنسانية، هي، أيضاً، تعبير عن شعور جمعي بالخطر والفداحة.
لا يندب اليمنيون، اليوم، الحركة الوطنية ترفاً، بل يندبونها، لأنها مثلت وعد خلاص جمعي لهم، وقوة وطنية، تمكنت من وضع أسس وطنية لجمهورية عادلة، لأنها، والدكتور المتوكل برهان على ذلك، كانت قد نجحت في تحقيق نقلةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ في بنية المجتمع والنظام السياسي؛ فالمتوكل ابن الحركة الوطنية في أزهي تعبيراتها وتجلياتها الوطنية. ويأتي اغتياله امتداداً لاستهداف رموز الحركة الوطنية، وباغتياله اكتمل رحيل من يمكن تسميتهم “الرفاق المغدورين” الثلاثة: الرئيس إبراهيم الحمدي والشهيد جار الله عمر والدكتور محمد عبد الملك المتوكل؛ فالثلاثة، ضمن هامات وطنية أخرى كثيرة، من رموز الحركة الوطنية اليمنية المنادين بإقامة دولة يمنية مدنية، وتمت تصقيتهم خارج السياق الطبيعي للصراع والمصالح الوطنية، ووفق إرادة عابرة لمصالح وحقوق وحريات اليمنيين.
اغتال الرئيس إبراهيم الحمدي تحالف مراكز القوى التي هدد مشروع الدولة الوطنية مصالحها وضربها في الصميم؛ واغتيل جار الله عمر، لأنه وحد الفرقاء السياسيين في المعارضة، على قاعدة وطنية لمواجهة سلطة علي عبد الله صالح القاهرة. وبالمثل، جاء اغتيال الدكتور محمد المتوكل، لتعقيد الأوضاع السياسية في اليمن، وضرب الصوت المدني من خارج أي سياق وطني، وحتى من خارج معطيات الصراع الدامي بكل دورة عنفه.
كان الدكتور المتوكل رجل فكر وسياسة مخضرم، خاض التحديات السياسية بمسؤولية قيادية، من دون الجنوح إلى الخصومة، أو إقصاء الآخرين. من يطالع سيرته يجده حاضراً بجوار الرئيس إبراهيم الحمدي في حركة التصحيح التي قام بها، ومساهماً فاعلاً في مشروع الشراكة السياسية للمعارضة (تكتل أحزاب اللقاء المشترك) الذي أسسه جار الله عمر. المتأمل في سيرته ربما يخطر له أن يتساءل: لماذا لم يكن الدكتور المتوكل مرشحاً لرئاسة حكومة الوفاق الوطني؟ ولماذا كان، وهو الأبعد عن تواطؤات مراكز الصراع وخياناتها، الأقرب لجنونها وغدرها؟
لا تمييز بين اغتيال الدكتور محمد المتوكل واغتيال أي يمني آخر من آلاف اليمنيين الذين سلبتهم دورات العنف حياتهم، والحديث عن حادثة اغتيال هو حديث عن كل الحالات؛ حيث يجب أن ينطلق التعاطي مع قضايا الاغتيالات، التي مثل اغتيال الدكتور المتوكل ذروة دورة العنف الحالية، من قدسية الحياة ورفض المساس بها تحت أي دواعٍ سياسية أو ظروف فرضتها أطراف الصراع على الواقع. وإذا كان من المفروغ منه ضرورة محاكمة الجناة الذين خططوا ونفذوا عملية الاغتيال، ومسؤولية السلطة، وكل القوى السياسية، لتحقيق العدالة والأمن، فإن ذلك يحتاج مقاومة مجتمعية لما يعانيه اليمنيون من ضعف حساسية وسلبية تجاه التدمير اليومي لواقعهم المعيشي.
يحتاج اليمنيون إلى إخراج نخبهم السياسية من حالة الشلل العصبي تجاه قضاياهم ومصائرهم، أو استبدالهم بممثلين سياسيين جدد، يعمل جهازهم العصبي بكل طاقته الوطنية والإنسانية.
يمثل اغتيال الدكتور محمد المتوكل تعبيراً عن حالة تردٍّ وطني على كل المستويات، وهو خسارة إنسانية كبيرة، ويترك فراغاً في الجبهة المدنية اليمنية، إلا أن الخوف، اليوم، هو من تبعات ما بعد اغتياله ومحاولة بعض القوى السياسية استثمار مقتله، على الضد من الإرث الوطني لهذا الرجل، واستدعاء عصبية “استهداف الطائفة الهاشمية”، وجرها كلياً إلى الصراع الدائر.
وذلك ما جعل ابنة الشهيد، رضية المتوكل، تطالب القوى السياسية بعدم توظيف مقتل والدها في صراعاتها، متمنية أن يكون دم والدها آخر دماء يمنية تسفك؛ مستلهمة في رسالتها روح ومبادئ والدها الذي لم يكن ليقبل بأن يكون سبباً لمزيد من الاحتراب الطائفي.
باغتيال الدكتور المتوكل، يؤكد الخارجون عن القانون مطلق سطوتهم وجنونهم، وتبرهن أطراف الصراع على اعتمادها، بالدرجة الأولى، على “قلة رجاحة سياسية”، في ظل ارتهان كل النخب السياسية، تقريباً، إلى نفسية مهزومة، يسهم في تقويض مشروع الدولة الوطنية.
باغتياله، يكتشف اليمنيون أنهم ربما بحاجة لمعجزة لإعادة الأمور إلى نصابها، وأن فرصهم للنجاة وإنقاذ أدميتهم تتضائل أكثر. باغتيال الدكتور محمد المتوكل، الذي كان نموذجاً للتصالح والتعايش والقبول بالآخر الوطني المختلف، يجرى تغريب الطبيعة السوية لليمنيين، وتأجيج قوة وعبث صراعات طائفية وجهوية. وفوق ذلك وقبله، يمثل اغتياله خيبة أمل كبيرة، ووجعاً لا طاقة للضمير اليمني على تحمله، إلا بإعادة الاعتبار لكل ما تمثله تضحيات “الرفاق المغدورين” الثلاثة.
عن: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى