قالوا: نحن ظٌلمنا حتى بلغ الظلم مداه .. كدنا نُفنى على آخرنا، و كدنا نُباد دون أن يسأل عنّا أحد .. كان الظلم يدهسنا في كل مكان، و ينال ما أمكن من دمنا و العظم .. كان العالم أصم و أخرس دون أذنين و دون لسان، و كان كل منكم طبق من صمت أو كنتم كومة أحجار .. كل منكم كان حاله أشبه بمن أكل القط لسانه أو كان فاه ملقوم بالصخر .. الكل تواطأ حد الخسة أو صار تواطؤه سوطا يلسع، سوط جلاد منزوع الرحمة؛ فصمدنا و قاومنا حد الموت، و عشقنا الموت حتى جاء من دمنا النصر.
فأجبت والغصة تذبحني بساطور قصّاب: نحن كنّا و لا زلنا ضحايا نقاوم، و لم نتحول يوما إلى صف الطغيان .. كل قاوم بطريقته و دفع الثمن الغالي و الدم، و إن كان قد نال الظلم منكم عقد مما فات، فنحن قد نال منا ما شارف نصف القرن، و لا زلنا ضحايا، و نعيش الدور إلى اليوم .. منّا من مات تحت التعذيب و لسع النار، و منّا من كبّوه و رموه من رأس جبل و قالوا حادث سير .. منّا من ولج بالعمر حتى بلغ أرذله و مات مظلوما أو مهدور الدم .. الفرق عنكم أن الظلم لا زال يسحقنا على مدار الساعة فيما أنتم قد صرتم بعض منه.
الجهل ظلم الكل، و الفارق لا زلنا نحن على الجهل نثور، فيما صار الجهل عند البعض إله يُعبد و محاط بالتسبيح و بالحمد، و مثلما كان في الزمن الماضي للسلطان قطعانا من جهل، صار لكم مثله قطعان.
كنتم تقيمون الحجة على ظُلم الظالم، و لما صرتم في السلطة الحجة لديكم صارت مجرد حيلة و بلوغ مرام.
تشاركنا يوما بالسلم، و بالعهد وثقنا و استوثقنا، و مضينا صفاً صفاً نحو المستقبل، و لما وجدتم إن القوة أجدى سرعة، و فساد كالخيل يطير بكم نحو الحكم، و إن اللحظة جاءت، و إن السلطة باتت على مرمى حجر أو بعد الميل، جن جنون الرغبة، و هرعتم نحو السلطة كالريح، و تنكرتم لماض أبيض كالفل، و قلتم نحن ولاة الأمر فمن أنتم؟!!
كنّا معكم ضد فساد قطع النسل، و عاث ولاث بالزرع و بالضرع، و لمّا بلغتم منيتكم و ذقتم من السلطة عسيلتها و اللذة، عثتم فسادا بالمليار، و صرتم قحط الأرض، و بلغ الجوع في أشهر مبلغه و أقتات من الجلد العظم، و قلتم هذه ثورة تغنيكم عن كل الثورات و كل الأعياد.
و اليوم مأساة تدمي العين و سؤال يقطع كالسكين: كيف ترى من كان في الأمس ضحية أن يتحول إلى جلاد؟!! صار جلاد ذو بأس و مراس .. صار الفارق عن جلاد الأمس أن جلاد اليوم أكثر عنفا.
جئتم باسم الله و مظلومية لا تُنسى .. جئتم باسم القدس و غزة و الوطن المصلوب على حائط مكة، و تلفعتم بالحق و أثواب التقوى، و لما نلتم بغيتكم و صرتم في الحكم تنكرتم، و قلتم: إنما كانت تقية، و كان لابد منها لأن نحمي الروح من الأوغاد.
كنا نُلدغ من جحر، و كان للجدران أذان و عيون، و اليوم جواسيس الأرض تحتشد تحت جلدي المرقوع بالجوع، و في عيوني مخارزكم تستعرض بطولات الدم .. و مخافركم مغروزة في حنجرتي المذبوحة و صوتي مقطوع بسواطير من لؤم، و حيل ليس لها في الأرض نظير.