من ارشيف الذاكرة (4)
يمنات
أحمد سيف حاشد
في السلك العسكري
(1)
الالتحاق بالكلية العسكرية
“لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية بعد أن أحرزت المركز الأول في الدفعة.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو مرتفع”!
ما أن أتممت الثانوية العامة حتى كان عليّ أن أحسن اختيار جواب سؤال: ماذا بعد؟ كنت أشــعر أن الجواب مهم وعليّ أن أجيد الاختيار لأن مستقبلي محكوم بالجواب على هذا السؤال.. كنت أشعر إن الإجــابة تحتاج لبعض من التريث والاستغراق.. شعرت في أحايين كثيرة بالحيرة العميقة.. شعرت أنني على مفترق طريق وأنني سأدفع ثمن أي خطأ كلفة باهظة حتى آخر العمر.. داهمتني خيبات عديدة جعلتني أردد: ” مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ”.
تمنيت أن أحصل على منحة دراسية بعد الثانوية العامة في الخارج شأني شأن عدد غير قليل من أقراني ومن هم دون مستواي؛ حيث كانت محصلة نتيجتي في الثانوية العامة جيد جداً.. كنت أريد أن أحصل على منحة دراسة في الإعلام أو الآداب أو العلاقات الدولية أو العلوم السياسية أو الفلسفة أو علم الاجتماع أو نحو ذلك.. لكنني على ما يبدو كنت عاثر الحظ وقليل الحيلة ولم أتلقِ فرصة من أي جهة أو مسئول مختص للوصول للمنافسة والفوز بمنحة دراسية..
اضطررت للاتجاه نحو خيار آخر وهو الالتحاق بالكلية العسكرية والحصول على مقعد من تلك المقاعد المخصصة لما كانت تُعرف بالجبهة الوطنية الديمقراطية (جودي) التي تم تخصيص حوالي 12 مقعداً لها في تلك الدفعة، كانت هنالك مقاعد أخرى تمنح لما يعرف بحركة التحرر الوطني مخصصة لفلسطينيين وأكراد وشيوعيين عراقيين وعمانيين.
كان يتوجب الفحص الطبي للالتحاق في الكلية العسكرية، وكنت قبل المعاينة الطبية أشعر بالخجل من معاينة الطبيب لأعضائي الداخلية.. بل وشعرتُ عند المعاينة أن الخجل يبتلعني.. تذكرت “علوان” الرجل الحساس والخجول والقبيلي في القرية الذي آثر الموت على معاينة الطبيب للباسور والذي كان قد بلغ حد لا يحتمل من التضخم والألم، وأنتحر للحيلولة دون أن يرى الطبيب فتحت شرجه.. كم نحن قوم مثقلين بالحياء والحرج والخجل وإلى حد يفوق التصور في بعض الأحيان.
اجتزت امتحان اللياقة البدنية في الكلية العسكرية وكنت أخشى ألا أجتاز الفحص الطبي بسبب وجود دوالي خفيفة بالخصيتين، غير أن الأمر كان بسيطا جداً ولم يشكل لي أي مانع من الالتحاق بالكلية العسكرية.
(2)
الهروب من التجنيد إلى المضبطة
التحاقي بالكلية العسكرية كان يعني لي اختصار الطريق.. اختصار من عمر ينفذ وزمن يهدر ربما لا استفيد منه كما يجب..
كان هروبا من التجنيد الذي من المفترض أن أفقد فيه عامين دون أن يضيف شيئا إلى مستقبلي المنشود.. فترة السنتين التي سأقضيها في التجنيد سأقضيها في الكلية العسكرية لأتخرج منها ضابطا برتبة ملازم ويكون لدي معارف عسكرية قد احتاجها في نضالي القادم في الشمال..
كما أن أخي علي سيف حاشد كان هو الآخر خريجاً من الكلية الحربية في صنعاء وكان له دور نضالي في حماية الجمهورية وكسر حصار السبعين يوماً على صنعاء جنباً لجنب مع زملائه الأفذاذ عبد الرقيب عبد الوهاب والوحش وصالح سرحان وغيرهم..
لقد كنت بالفعل فخورا بما أنجزه أخي في الحياة العسكرية دفاعاً عن الثورة والنظام الجمهوري .. أردت أن أكون مثله أو أكثر منه إن استطعت رغم تغير الظروف وتبدل الأحوال ..
كان أخي شجاعا ومقداما ومحبوبا ويحمل صفات قيادية كثيرة ومتعددة.. كنت أريد أن أسلك مسلكاً يحاكي تجربته في الحياة أو على الأقل أختط خطاً مقارباً له.. كان عسكريا مشهوداً له بالشجاعة وكان يسارياً وثورياً ومتمرداً على النظام في الشمال ويرى في قضايا الناس والتقدم قضيته الأولى.
الصورة أخي وأنا .. صورة أخي تعود إلى عام 1963 أو الذي يليه.. فيما صورتي تعود إلى 1982
(3)
الإرغام على الالتحاق بالكلية العسكرية
في نهاية عام 1981 قبُلت في الدفعة العاشرة وبرقم (573/10)، كان مثل هذا الرقم والحاجز يشير إلى أن الملتحق بالدفعة منتمي لحركة التحرر الوطني، فيما كان الطلاب الذين ينتمون لليمن الديمقراطية بأرقام عسكرية مختلفة عن أرقامنا.. غير أن هذا التمايز بالأرقام لا يقابله أي شكل من أشكال التمييز بين صفوف الملتحقين بالكلية.
صار هذا الرقم (573) بالنسبة محط تفاؤل وخصوصا أن صاحبه أحرز المرتبة الأولى في دفعته، كنت استحضره عند إنشاء كلمات السر واختيار الأرقام القائمة على الحظ على أمل أن يجلب لي التوفيق والتفوق ..
كان هنالك حرص من قبل القائمين على الكلية العسكرية وعلى وزارة الدفاع على ضمان توفير الحد الأدنى من تمثيل المحافظات في صفوف الملتحقين بالكلية، وكان أبناء عدن تحديدا أكثر من يحجمون عن الالتحاق بالكلية العسكرية إلاّ في حدود أعداد ضئيلة وقليلة جداً ربما بسبب مزاجهم المدني الذي لا يؤثر العسكرة ولا يطمئن لها كمستقبل..
شاهدت وأنا استعد لحلاقة رأسي ثلاث مجموعات من الطلبة وهم يجتمعون على ثلاثة من أبناء عدن ليرغمونهم على حلاقة شعر الرأس (صفر) بما أنها من الشروط الأولية والبديهية للالتحاق بالكلية..
شاهدت هذا الإرغام وسمعت صراخ المرغمين واستنكرت في أعماق نفسي أن يتم حمل الناس على الالتحاق بالكلية العسكرية كارهين ومرغمين.. إنه أشبه بالإرغام على الزواج بمن لا تعشق ولا تحب، بل وبمن تعافه وتكرهه.
الصور لزملاء في الكلية العسكرية من ردفان ويافع وأبين
الصورة الأولى في الأعلى لـ”جمال فضل القطيبي” من ردفان وكان من أقرب وأعز الأصدقاء..
(4)
الاستجداد الفترة الأولى والأكثر صعوبة في الكلية
كانت فترة (الاستجداد) في الكلية بالنسبة لي فترة عصيبة ومرهقة جدا ومثقلة بالصرامة حيث لا يستطيع الطالب المستجد مغادرة أبواب الكلية..
التمارين والتدريبات العسكرية شاقة وتستغرق ساعات طوال.. ملابسنا العسكرية النظامية تبدو ثقيلة جداً وتضايقني عند التدريب خاصة مع فصل الصيف الطويل والشاق.. وبعد فترة الاستجداد كان يتاح لنا الخروج يوماً واحداً في الأسبوع ..
كنت أشعر وأنا أخرج من حرم الكلية بملابسي المدنية بحرية كبيرة لا تضاهى كشعور أسير تحرر من قيوده الثقيلة التي ظلت قدماه ترسف بها طويلاً .. أشعر أنني خفيف الوزن كعصفور .. أشعر بلياقة ورشاقة وخفة وزن لم أكن أشعر بها من ذي قبل.. أخرج من عالم ضاغط إلى عالم حر ومريح.. خروجي من الكلية إلى المدينة والناس جالبا لسعادة غامرة.
فترة الإستجداد في الكلية هي المرحلة الأكثر صعوبة وتستدعي من الطالب كثيرا من الانضباط والجلَد..
فترة الاستجداد هي الخطوة الأولى التي تنقلك من رجل مدني إلى رجل عسكري مختلف الطباع..
مرحلة الاستجداد هي محك حقيقي واختبار مضن يتحول خلالها الطالب من المدنية إلى العسكرية بصرامتها وضوابطها.. مرحلة “الضبط والربط العسكري”.
كنّا إذا خلعنا ملابسنا الثقيلة بعد ساعات طوال في الكلية نلبس ثياب الرياضة الخفيفة بقية اليوم وهي عبارة عن (فنله) بيضاء وسروال قصيرة أزرق .. كنت أشعر إن ذلك اللباس القصيرة عورة ولا يليق ولكن مع مضي الأيام اعتدنا عليه وكنا نحبذه على الملابس الثقيلة التي كنا نلزم على ارتداءها لساعات طوال في أوقات النهار.
كنت أنا بطبيعتي منزوٍ وخجول.. كانت أكثر الأوقات إحراجاً لي هي تلك القترة الصباحية التي نغتسل فيها فجر كل يوم، وأحيانا نكررها عند الظهيرة أيضا، خصوصا في فصل الصيف.. كانت حمامات سكن الطلاب مصممة دون أبواب وكل شخص يغتسل يشاهد الآخر عاريا وكان هذا الحال يضايقني كثيرا وأشعر أنه يخدش حيائي ويسبب لي كثيراً من الخجل ولكن سرعان ما اعتدنا على مثل هكذا حال وصرنا نراه لاحقا أمرا عاديا..
شعرت أن المرء على بيئته ووسطه وما يعتاد عليه.. بإمكانه الانتقال والتكيف في الوسط البيئي الذي ينتقل إليه.
عندما أخرج من الكلية في اللباس المدني كنت أشعر أنني خفيف الوزن كعصفور.
(5)
لا أستريح للحركة النظامية وأكره العقوبات
كانت الحركة النظامية في الكلية العسكرية يومية ويخصص لها أحيانا وقتاً أطول من الحصص الدراسية.. كنت لا أستريح لها وأقع أثنائها بأخطاء طفيفة تعرضني لإحراجات كبيرة أمام زملائي .. كنت استنكرها في أعماق نفسي وكلِّي تطلُّع لأن نتعلم كل ما من شأنه أن يجعلنا مقاتلين صناديد وقادة أفذاذ وليس بما يستحيلنا إلى كائنات استعراضية لا يستفاد منها شيء في ميادين الحرب والقتال.
كنت أكره العقوبات الجسدية في الكلية العسكرية لاسيما ما كان يعرف ب(السحك) وهو أن ينبطح الطالب ثم يزحف على بطنه بمساعدة يديه ورجليه.. كنت أحتقر هذه العقوبات ومن يتخذها.. كنت أشعر أنها تنطوي على إرغام وإذلال.. كنت أشعر أن الآمر بها لديه مركب نقص.. كنت أشعر بأن تلك الأوامر تصدر من شخصيات مريضة.. كنت لا أمانع أن تتم في إطار التدريب العسكري بيد أنني كنت أكره أن يمارسها الآمرون على المأمورين كعقوبة.. وشتان ما بين الاثنين! كنت أكره أيضا عقوبة (الخسارة) التي تطال راتب الطالب وأحس إنها في كثير من الأحيان لا تطاله وحده فحسب وإنما تطال عائلته وأهله في مأكلهم ومشربهم!
كنت أكره العقوبات الجماعية التي يصدرها بعض الضباط الذين كان يخيل لي بأنهم مرضى بالسادية أكثر من كونهم قادة ينبغي جلهم واحترامهم وتقديرهم.. لقد كان القائد المحترم لدي هو ذاك الذي يفرض احترامه بسلوكه الجيد ويقدم شخصيته على نحو يصير معها أنموذجاً، مثالاً، قدوة، يحظى بحب طلابه واحترامهم.
كان إذا صدر خطأ أو صوت ينم عن احتجاج أو عدم رضا أو تململ ناقد أو صوت مشوش من أحد الطلاب في الطابور الصباحي ولا يستطيع الضابط المناوب معرفة مصدره ولا يرغب صاحب الصوت أو من يحيط به كشفه، لا يعمد الضابط إلى الإقناع أو محاولة إيجاد المنطق أو الطريقة التي تحمل هذا الطالب أو من يحيطون به على الاعتراف أو الشهادة عليه، بل يسارع بحمق منقطع النظير إلى عقوبة جماعية كمنتقم ثأري ويصدر أمره الجازم والحازم بعقاب كل الفصيلة أو حتى الدفعة كاملة في بعض الأحيان .. ما ذنب من لا يسمع مصدر الصوت لتناله العقوبة إذاً؟! إذا كانت الجريمة شخصية فما حدث دون ذلك، بل هو مجرد مخالفة بسيطة وشخصية لا يجب أن تطال من لم يعلم ومن لم يسمع الصوت الذي صدرت بسبه هذه العقوبة أو تلك، لطالما تساءلت…!
كنت أشعر إن العقوبات الجماعية انتقام وتدمير وإفساد للقيم والأخلاق.. تنكيل انتقامي ليس له علاقة بالمدنية أو الإدارة الرشيدة بل هي أسلوب نازي وثأري في الأساس وينم عن عُقد ومركب نقص وربما يتحول من يستلذ به إلى خطر مدمر ومستبد إذا ما أمتلك السلطة والقرار .. العقوبات الجماعية أكثر السياسات سوءا ووبالا..
الصورة لصديقاي حبيش والقعقوع وهما من الجليلة ـ الضالع.. كانا من أكثر الطلاب الذين تطالهم العقوبات وبشكل يومي ومتكرر وأحيانا عدة مرات في اليوم الواحد..
لا تملك من تعليق حيالهم ألا فيضا دافقا من العجب يقول : ما أجلدهما.
(6)
قاعدة نفذ ثم ناقش تحوِّلنا إلى أدوات منفذة غير واعية
كنت أشعر إن العسكرية تنطوي على قمع واستبداد وتراتبية صارمة.. كنت اكره بعض القواعد التي يكرسون تعليمها في العسكرية.. كنت أكره تلك القاعدة التي تقول : (نفذ ثم ناقش).. كنت أشعر أن هذه القاعدة تلغي عقولنا وتحولنا إلى مجرد أدوات منفذة بيد من يقودونا لتنفيذ ما يريد ..
كنت أشعر من أنه يجري تحويلنا إلى أدوات منفذة غير واعية وغير عاقلة.. كنت أشعر أن إنفاذ أوامر عمياء قد تجلب ضرراً فادحاً لنا ولغيرنا .. كثير من الجرائم في دورات العنف التي كان يشهدها الجنوب ترجع إلى مثل تلك الفداحات وتلك الأوامر الخطيرة أحيانا..
كثير هم من أنفذوا أوامر جلبت لأصحابها وللناس الهلاك والضرر الكبير.. كثير من إنفاذ الأوامر غير المناسبة نتج عنها مآسٍ مؤلمة وفادحة كان بالإمكان تفاديها لو تم استحضار قليل من العقل قبل تنفيذها والتسبب بنتائجها المدمرة المريرة..
كنت اعتقد بسبب كل ذلك أن التحاقي بالسلك العسكري جاء بطريق الخطأ.. ولكن من أين للمرء أن يدرك عواقب وتفاصيل كل المسارات التي يحلم بها! لطالما يجد المرء واقعا يختلف عن ذلك الحلم المرسوم في الذهن ليكتشف أنه وقع في سوء تقدير كبير.
(7)
تغير في الطباع واكتساب صفات جديدة
كانت شخصيتي خجولة إلى درجة ذلك الذي يخجل من صوته بيد أن الكلية العسكرية بعد مضي قليل من الوقت أزاحت عني بعيدا كثيرا من الخجل الباذخ .. تعودت على الصراخ والصوت القوي الناري.. تشكلت لدي شخصية مختلفة إلى حد ما عن تلك الشخصية المدنية التي اعتدت عليها.. كانت صرخة (أخي) التي يطلقها طالب الكلية العسكرية لأي تمام أو سلام عسكري تحمل في معناها رفض الشعور بالدونية وترفع مقام الطالب أو الجندي إلى مصاف أكبر قائد عسكري على خلاف تلك الصرخة المعتادة في شمال الوطن والتي كان الطالب أو الجندي ينادي بها رئيسه أو قائدة بـ (فندم) وتعني بالتركية (سيدي).
تعلمت في الكلية أن أكون مجتهدا وصبورا ومنضبطا وحريصا على المواعيد .. تعلمت في الكلية النظام والجلد والصمود والخشونة.. تخصصت في المشاة لأن رجل المشاة هو القائد .. جميع القادة يخضعون لقائد المشاة .. قادة الدبابات والصواريخ والمدفعية وحتى الطيران يقودهم رجل المشاة .. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة والقادة الكبار في القوات المسلحة ينتمون لتخصص مشاة .. لعل هذا ما جعلني آثر تخصص المشاة على ما عداه من التخصصات الأخرى .. كنت أردد في نفسي مقولة لينين (الجندي الذي لا يحلم أن يكون جنرالا جندي خامل).
في الكلية العسكرية .. أنا وصديقي العماني الذي كان بنتمي للجبهة الشعبية لتحرير عُمان.
(8)
اعتز بنفسك .. ارفع رأسك .. أنت قائد
كانت فصيلتنا هي الأولى مشاة وهي واحدة من قوام ثلاث فصائل مشاة، وكان المشرف على الفصيلة عبد الرقيب ثابت وكان يدربنا مادة التكتيك وكان قد حاز على المرتبة الأولى في دفعته الثامنة وأردت أن أكون مثله الأول في دفعتي العاشرة .. كنت معجبا به لأنه كان يعتمد أو يميل للإقناع والإفهام بدلا من سلوك طرق القسوة المذلة التي تهتك المشاعر التي شهدتها تمارس من بعض أقرانه على حساب المنطق ورفع الوعي ..
تعلمت في الكلية العسكرية القيادة حيث كان على الطالب قيادة فصيلته لمدة 24 ساعة كلما أتى عليه الدور بالتناوب لكل عشرين يوم .. لقد بدا لي هذا الدور في البداية صعبا غير أنني ما أن كسرت هذا التهيب في المرة الأولى حتى صار الأمر عاديا إن لم يكن قد أستثار في أعماقي تحدي ذلك الرجل الخجول الذي يتحول إلى قائدا فذا وناجحاً..
من أكثر الذين أعجبت بهم في الكلية العسكرية هو قائد الكلية آنذاك أحمد صالح عليوه ..
كان قائد عسكريا وتربويا محنكاً.. كان يمتلك شخصية قوية وجذابة تخطف إعجابنا وحبنا الكبير .. دأب يغرس في أعماقنا الاعتزاز بالنفس والثقة والشجاعة وقوة الشخصية.. مازال صوته الجهوري حياً في مسمعي وهو يقول: “طالب اعتز بنفسك .. ارفع رأسك .. أنت قائد .. ” .. كنت معجباً به وأشعر أنه ممتلئاً وأكثر من يستحق أن يكون قائداً لجيش بلد تستحقه.. كنت أشعر أن ذكائه وقدرته وثقافته وحيويته كبيرة وفائقة.. كان رجلاً يمتلك قدرة قيادية فذة ومؤثرة ويحظى باحترام وتقدير من يقودهم .. سمعت بعد سنوات أنهم أهملوا وحطموا ذلك القائد .. حطمه الفاشلون.. قالوا إنه أصيب بحالة نفسية ثم رحل ليترك عالماً من الفاشلين.. آه يا بلد.. رجالك المخلصين والقادرين ينتهون إلى الجنون أو الضياع أو الهلاك.
من زملائي طلبة فصائل المشاة في الكلية العسكرية بعدن ـ الدفعة العاشرة 1982
(9)
طعم النجاح لذيذا
طيلة وجودي طالبا في الكلية لم ارتكب مخالفات كبيرة.. كنت كثير الحرص على أن أكون ملتزماً ومنضبطاً.. لا أعرف سلوكا أو تصرفاً مخلاً باستثناء إحدى المرات؛ حيث ما أن كانت الفصيلة تركض في تدريبها حاول أحد زملائي الأشقياء كثير المخالفة والشغب أن يعتدي بلسانه على زميلاً له من الطلاب المنتمين للحزب الشوعي العراقي وكان بالنسبة لي أنموذجاً ومثالاً في السلوك والفهم والأخلاق والتواضع إلى الحد الذي كنت أرى فيه قبساً من نبوة، هذا التصرف دفعني لأن أهب نحو هذا الطالب المشاغب على نحو مجنون لأتشاجر معه بعنف ومن ثم تدخل طلاب لفض الاشتباك فيما بيننا وتم احتواء الأمر وحله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة.
كنت مجتهدا ومثابرا.. ما بذلته من صبر واجتهاد ومثابرة حصدته بالمرتبة الأولى على الدفعة.. “من جد وجد”.. كأنني وجدت كنزاً في عمق نفق شققته بأظافري.. كم كان شعور النجاح غامرا وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول!
لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..
حضر حفل التخرج آنذاك الرئيس على ناصر محمد وسلمني جائزة أدهشتني كثيراً بالإضافة إلى أنني كُرمت زيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام بمعية التسعة الأوائل في الدفعة..
لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو مرتفع!
لأول مرة أشاهد السِرك! لأول مرة أشاهد لينين مسجى في الكرملين وطابور طويل ينتظر فيه كل واحد دوره ليلقي على لينين نظرة يتمني صاحبها أن تطول وتطول! والأهم أنني أول مرة أشاهد بأم العين رجلاً يقبل حبيبته بالشارع..!
لأول مرة أشاهد عالماً كل شيء فيه جديداً ومثيراً للدهشة بذلك القدر الذي يستحق مني الاستغراق والذهول!
الصور في “فولجا جراد” أو ما تم تسميتها “استالين جراد” في روسيا، الاتحاد السوفيتي سابقا..
الصور في 1983 في فسحة زيارة تمنح للعشرة الأوائل من خريجي الكلية العسكرية ـ الدفعة العاشرة ـ عدن
(10)
بعد التخرج
تخرجت من الكلية العسكرية .. ولكن إلى أين ؟! كانت رغبتي جامحة لأن التحق بالجامعة غير أن ظروفي المادية متعسرة و(راتبي) المتواضع الذي كنت أتقاضاه في الكلية العسكرية سينقطع، وأنا لم أدخر شيئا منه وكنت ما أحصل عليه أصرفه أول بأول .. أصرف بعضه وأساعد آخرين وأسلف البعض دون أن أنتظر عودة ما أُسلفه، بل وارفض استعادته في معظم الأحيان.. إنها عادة درجت عليها ولا أعرف عمّا إذا كانت مذمومة أو محمودة ولكن الأكيد إنها عادة أو طبع لا زال يرافقني إلى اليوم.. والأكيد أيضا أن انعدام المال يمكن أن يكون مشكلة أو معضلة تحول دون تحقيق بعض من أحلامنا، أو على الأقل يعمل على تأجيل تحقيقها.
بعد أن تخرجت من الكلية العسكرية في العام 1983 فضلت الالتحاق بلواء الوحدة المُعسكر في محافظة أبين وكان أغلب أفراده وضباطه من القادمين إلى الجنوب من الشمال، أما الالتحاق بغيره فإن التوزيع متروك للحظ الذي يمكن أن يقذف بي إلى أي جزيرة أو صحراء بعيدة أو في أي منأى بعيد ويكون التحاقي بالدراسة الجامعية أكثر صعوبة ويكون الموافقة على تفرغي للدراسة ربما حظ أقل وأضأل .
كان علي أن أعمل على الأقل عامين في السلك العسكري بعد التخرج من الكلية العسكرية لأتمكن من التفرغ للدراسة الجامعية وأحصل على راتب متفرغ يعينني على الدراسة الجامعية.
(11)
قائد فصيلة استطلاع في لواء الوحدة
كان معسكر اللواء يقع على مقربة من عاصمة المحافظة (زنجبار) وكان كثير من أفراده وضباطه من الشمال أغلبهم ممن هرب إلى الجنوب أيام عبد الله عبد العالم وكان قائده اللواء عبد الله منصور من نفس محافظة أبين وكان ذو وجه غضوب وأشعر بالانقباض كلما شاهدته ، فيما كان أركان اللواء عبد الواحد أحد القادمين من الشمال وكان أقدر على القيادة غير أنه كان يتجنب أن يكون قويا أمام القائد وربما كان سلبيا أغلب الأحيان .
وفي لواء الوحدة جاء توزيعي رئيسا لفصيلة في سرية استطلاع اللواء فيما كان الملازم أول محمد الحياني من خريجي الدفعة الثامنة (شمالي) رئيسا للفصيلة الثانية والملازم ثاني سند الرهوة وهو من أبين ومن خريجي الدفعة العاشرة قائدا للفصيلة الثالثة وكان عبده قائد الكهالي (شمالي) رئيسا لسرية الاستطلاع وأضيف للسرية ضابط جديد هو الملازم علوان (شمالي) من خريجي الدفعة الـحادي عشر .. وكان صف الضباط في السرية جميعهم من الشمال ، وكان يسود بيننا كثير من الاحترام والانسجام..
الصورة في لواء الوحدة بأبين.. أنا ومجموعة من الرفاق الضباط.
(12)
عشق الصحافة
في لواء الوحدة كنت أشتري الصحف وأتابع الأخبار وأود أن أعمل في الصحافة ورغبتي في العمل فيها كانت جامحة، ولكن تخصصي كان يفهم بالتكتيك العسكري والتدريب الناري والعلوم العسكرية إجمالا بعيدا عن تخصص الصحافة والإعلام..
كنت أساير رغبتي وأحدث نفسي بأن كثير ممن برعوا واحترفوا في الصحافة ومنهم محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين قد تركوا تخصصاتهم وعشقوا الإعلام وبرزوا فيه وصار كل واحد منهم نار على علم وأكثر، رغم أنهم جاءوا من خارج تخصص الإعلام والصحافة.. ولكن أنا لا أعلم من أين أبدأ.. سؤال تكرر ووجدت مع السعي الطويل والانتظار الأطول أثر قد تحقق، وما تبدد حلم ساعي..
بدأت أراسل صحيفة (الراية) التابعة لوزارة الدفاع في عدن ببعض الكتابات والمشاركات والمواضيع السياسية الدولية بالإضافة للمحاولات الشعرية ومحاولة في كتابة القصة القصيرة..
أذكر من المواضيع الأولى التي نشرتها في صحيفة الراية كانت ضد التدخلات الأمريكية في العالم ومنها الاحتلال الأمريكي لجزيرة “جرندا”..
كنت أتابع أخبار العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.. كانت كتاباتي السياسية تنشر في الصفحة الرئيسية المخصصة للشؤون الدولية أما المحاولات الشعرية فكانت تنشر مقتطفات مما أرسل في صفحة بريد القراء باستثناء واحدة أو اثنتين وأحسست إن الشعر عصي عليّ وأنني لست موهوبا فيه بل ولا تتوفر لدي الموهبة حتى في حدودها الأدنى، واقتنعت أنه لا يمكن أن أكون يوما بشاعر رغم أنني كنت أطمح أن أكون شاعرا ولكن (ليس كل ما يطلبه المرء يدركه) فكفيت عن المحاولة رغم أنني ألقيت في أكثر من مناسبة شيئا من تلك القصائد وشعرت أنها تحظى ببعض القبول عند السامعين لها، ولكن كنت أشعر أن قيود الشعر كثيرة ومنها القافية والتفعيلة وأدركني اليأس لاحقا وأصابتني في الشعر خيبة .. أما القصة القصيرة فقد نشرت لي محاولة واحدة في الصفحة الأدبية ولكن خطاء الطباع بتقديم صفحة على أخرى خلافا لترتيبي للصفحات أصابني أيضا بالخيبة، حيث بدأت القصة مشوهة وغير مفهومة الأمر الذي قلل من فرحي بالنشر، وأصابتني بعض الخيبة ولم أحاول كتابة غيرها.
كنت في كل عدد انتظر يوم صدور صحيفة الراية بفارغ الصبر ثم أفتش بصفحاتها بشغف كمن يبحث عن حلمه ومحل نهمه ويرى عنوان ما أرسله من مقالات أو مشاركات.. وعندما أجد مشاركاتي منشورة أعيد قرأت ما تم نشره مرات ومرات إن لم يكن عشرات المرات واكتشف فيها بعض ثغرات ما كتبت أو اكتشف أنه كان بإمكاني تحسين ما نُشر لو كانت تلك القراءة المتكررة قبل النشر لا بعده .. وعند النشر لي كنت أشتري عدة نسخ للأرشفة والاحتفاظ..
ظلت رغبة الصحافة تنازعني حتى صارت بعد سنوات حقيقة وصار لي صحيفة وموقع أشارك تحرير بعض موادهما، ولا زال حلمي يكبر رغم أن الحال والواقع يتكالبان ضدي ويريدان الإجهاز على ما تحقق من حُلم ورغبة.
الصورة لأحمد مسعد القردعي كان مراسل صحيفة الراية في لواء الوحدة ومن يوصل معظم رسائلي إليها.. كان يعشق الكتابة في الصحافة إلى حد الجنون.. لا أدري ماذا أصابه!! لماذا لم أعد أقرأ كتاباته من حوالي ربع قرن أو أكثر.. لا أدري سبب غيبته.. هل هو الموت أم سوء الحظ وعثرات الحياة؟!!
(13)
صاعقة .. شكرا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
طلبت وزارة الدفاع من كل لواء إرسال ضابط أو اثنين إلى اللواء الخامس (مضلات) من أجل إعطاءهم دورة صاعقة وفي لواء الوحدة وقع الاختيار عليّ وعلى زميلي سند.. كانت فرحي بهذا الاختيار كبير وغامر .. وكانت المصادفة إن مدرسة البيروليتاريا التي درست فيها الثانوية العامة والتي تقع على طريق عدن لحج وقضيت فيها ثلاث سنوات قد صارت مقرا لمعسكر اللواء الخامس وهو لواء مستحدث.. صارت المدرسة معسكرا مجهزا بقاعدة مادية جيدة ومميزه.. تم ترميم السكن بشكل كامل واستحدثت بنى تحتية شملت كل الوسائل اللازمة للتدريبات العسكرية للصاعقة والمضلات بما فيها الحواجز الهندسية والحلبات ومتطلبات التدريب الميدانية بالإضافة إلى توفير مدربين أكفاء.. وقد أنيط تدريب الدورة التي نحن فيها إلى مدربين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتدريبنا صاعقة مدة أربعة أشهر.
شعرت أن هذه الدورة قد أضافت لمعارفي معارف جديدة وعلى قدر من الأهمية لطالما تمنيتها من سنوات وكان مدربينا من الجبهة الشعبية أكفاء ومحترفين ويحملون وعيا ونضجا ومعرفة فارقة جعلتنا نحترمهم ونقدرهم في نفوسنا ونبذل مجهودا كبيرا لنيل رضاهم من خلال مزيدا من بذل الجهد والتعلم والانضباط..
أحببت هؤلاء المدربين كما أحببت من خلالهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيسها جورج حبش الذي كانوا يسمونه بـ (الحكيم)..
أحببت المدرب أبو علي الذي تعلمنا منه معارف عسكرية لم يكن يعرفها الجيش اليمني من قبل.. كانت مادته جديدة ومتميزة وداهشة.. كنت أكثر من الأسئلة المتكاثرة وهو يجيب ويعرِّج على أشياء فيها كثير من الدهشة تضيف لنا كل يوما فرقا في المعرفة العسكرية.. فيما هو كان يعتبرني تلميذا نجيب.
أحببت المدرب (أبو فراس) والذي كان يدربنا تدريبا ميدانيا عنيفا .. فيه الاشتباك والركض وتجاوز الحرائق واالحواجز الهندسية والمعوقات الطبيعية.. الخ ..
الصورة الملون الأول على يسارك يظهر فيها المدرب الفلسطيني أبو علي.. أحببته.. كان أكثر من رائع.. كان لي مثال.. كان يشرح لي تفاصيل التفاصيل.. لازلت أتذكر كل دروسه إلى اليوم..
الصورة الأسود والأبيض للمدرب الفلسطيني أبو فراس مدرب حلقة الركض والاشتباك والميدان.. علمت أن أستشهد في جنوب لبنان في الثمانينات..
(14)
استماته من أجل الحياة
في دورة الصاعقة أذكر أنني كنت أركض في حلبة (الصاعقة) حتى أكاد أتقيء ولكنني كنت أصمد على نحو لم أكن أتوقعه.. وفي اقتحام الحواجز كان علينا تسلق جدار ارتفاعه أكثر من أثني عشر متر وأنت تحمل سلاحك وكل عدتك العسكرية الشخصية.. لا يساعدك في هذا الصعود غير حبل مربوط في رأس الجدار..
أذكر أنني في إحدى المرات كدت أن أسقط قبل أن أصل إلى سطح الجدار.. خارت قواي إلى درجة تصورت إن الأمر سيان بل أن السقوط مريح أكثر من إكمال ما بقي من ارتفاع الجدار وهو قليل..
داهمني فتور شديد .. قدماي لم تعد تقوى على الصعود ويداي تقاوم السقوط وبطن كفوفي تكاد تنفطر دما وهي قابضة على الحبل، ولكني أيضا كنت أعي إن السقوط إذا ما حدث أو تخاذلت يداي من الاستماتة بإمساك الحبل وإكمال الصعود إلى السطح سيكون مميتا وفي أفضل الحالات ربما يسبب لي عاهة مستديمة، هذا الوعي وغريزة البقاء التي انتفضت داخلي وإفراز الجسم لمادة (الأدرينالين) في مثل هذه اللحظة الخطرة جعلتني أغلب هذا التحدي..
استمت في الصعود وتجاوزت الخطر ووصلت إلى سطح الجدار حتى بدا لي الأمر وكأنني اجترحت معجزة.. خضت في ذلك الصعود تحدي حقيقي ومغالبة أحسست أنه بإمكاني انتزع الحياة من لحظة خطر محققة.. أحسست أن بين الموت والحياة لحظة وقرار..
تعلمت أن بين أن أنتصر أو أُهزم قليلا من الجلد والصبر في برهة زمن حاسمة.. بين أن أكون غالبا أو مغلوبا قليلا من التحدّي والصبر والاستماتة من أجل الحياة والأمل..
تذكرت هذا الدرس في نفس الدورة وأنا أعاصر أحدهم بالذراع والكف لنرى من الأقوى والأكثر جلدا وصبرا وغلبة.. من الذي باستطاعته أن يسقط يد الآخر ويغلبها.. كان هذا التحدي أشبه بالمبارزة وأمام شهود ومشهد من الناس، وكان بين انتصاري وهزيمتي برهة زمن ولحظة صبر..
الصورة لبعض الضباط في دورة الصاعقة والتي استغرقت أربعه أشهر..
(15)
تفوُّق مرة أخرى
تذكرت الجدار، فغالبت حتى أستسلم وأسقطت يده ولو صبر برهة زمن ربما لأنتصر هو وكانت هزيمتي.. هذا ما قلته له عقب المبارزة.. ولذلك أجد نفسي في أحايين كثيرة أتذكر مغالبتي للجدار في كل محنة فيها صبر ومغالبة.. إن ما بين النصر والهزيمة تكون في أكثر الأحيان لحظة أو برهة زمن أو شعرة رفيعة فاصلة..
وعلى نفس النهج تعاطيت مع التفوق وما دونه.. اجتهدت وثابرت وبذلت جهد مغالب حتى أحرزت المرتبة الأولى في الدورة وتم تكريمي من قبل نائب رئيس هيئة الأركان العامة آنذاك عمر العطاس على احتلالي للمركز الأول في الدورة التي استغرقت أربعة أشهر..
في هذه الدورة العسكرية أمعنت في تعلم أهمية الجلد والصبر والمغالبة والانتصار..
كما تعلمنا أيضا في هذه الدورة كيف نصارع الموت خلف خطوط العدو ونصرعه..
تعلمنا كيف نشتبك مع جنود العدو بالسلاح الأبيض عندما تنفذ ذخيرتك..
كيف نشتبك مع العدو ونحن عزل .. كيف نأكل عندما لا نجد ما نأكله ..
تعلمنا كيف نفترس الأرانب والضفادع .. كيف نعظ ونأكل الثعابين .. كيف نعبر الوحول والمستنقعات عندما يكون العبور ضرورة أو لمصلحة لك ولأفرادك وقواتك..
كيف نكسر المستحيل ونحوله إلى ممكن وانتصار.. كيف نكون أوفياء للأرض التي نقف عليها .. كيف ننتصر لها عندما تحتاجنا وتستغيث بنا ولا نبخل عليها بدمنا وأرواحنا..
لازال صوت أبو فراس يرن بإذني ووجداني وهو يقول :” أوصل شريانك للأرض عندما تعطش هذه الأرض وتحتاج تضحيتك.. لا تتردد ولا تبخل أن تسقيها دمك” بعد عام أو أكثر علمت أنه أستشهد في لبنان في معركة مع المحتل الصهيوني.
بعد انتهاء دورة الصاعقة عدت للواء الوحدة .. بدأت أتابع من أجل الالتحاق بكلية الحقوق في جامعة عدن ولكن مرت السنة الأولى دون أن أتمكن من الالتحاق بالجامعة لأنه يتوجب مرور العامين بعد التخرج لمنح التفرغ وأن يكونا هذين العامين قد قضاها طالب التفرع بالخدمة الفعلية..
(16)
في حضرت جار الله عمر
وفي العام التالي كان السؤال: من يساعدني؟ لا فرصة في الإعلام .. لابأس من الحقوق.. ذهبت إلى اللقاء بجار الله عمر في منزله..
سبق أن زرت جار الله في بيته قبل هذه المرة عدة مرات وفي كل مرة كان يشعرك بحرارة ودة وحفاوة استقباله حتى وإن كان عمرك خُمس عمره..
زرته في أحد المرات حال ما كان عمري دون لـ 17 سنة.. شاهدت في بيته مكتبه كبيرة لا يساويها إلا تواضعه الجم.. كان استقباله لي حارا جدا وتعامل معي بندية وتقدير رفيع.. أهم انطباع خرجت به أنه لا يكذب ولا يخلف وعدا.
كنت أقارنه بالمسؤول الأول الذي بدأ لي الفرق بينهما مثل فرق الثراء والثريا.. هذا المسؤول الذي كان صديق أخي في حياته وجدته متعاليا جدا وينظر للناس شزرا .. كان يتجاهلني إلى حد الاستفزاز والقرف.. إذا ذهبت إلى بيته كان يستقبلني بوجه عبوس مكفهر ومستفز للأدمية وإذا زرته إلى مكتبه صافحني بيد من ثلج وصقيع.. كل مرة كان يسأل عن اسمي وكأنه مصاب بمرض الزهايمر، ثم أعرفه بنفسي وهو يعرفني جيدا ولكنه ثقيل الدم ولئيم الطباع.
جار الله عمر كان شيئا مختلفا.. كان ودودا وخلوقا وممتلئا ومتواضعا ومتميزا ..
في اللقاء الذي قصدته في منزله بخور مكسر أبلغته أنني أرغب بالالتحاق بكلية الحقوق وأنه قد مر عام والعام الثاني على وشك أن يمر، وأن اشتراط مرور العامين بعد التخرج من الكلية العسكرية يكاد أن يتم ولا أريد أن يمر هذا العام لأقضي عام ثالث في الانتظار، وأنني قد رفعت طلب آخر للوزير أخشى أن يهمله أو يتجاهله وأن رغبتي للالتحاق بالكلية جامحة وأخبرته أني متفوقا في دراستي، وطلبت منه التواصل بوزير الدفاع صالح مصلح، فرفع السماعة وأتصل مباشرة للوزير وأخذ موافقته على الفور ووعدني بمتابعة الموضوع وأوفى بوعده وكان يبر بالوعود وجاءت الموافقة على طلبي لتبلغني قيادة اللواء بالخبر..
كدت أطير من الفرح وهم يبلغوني بالموافقة.. شعرت إن المستقبل يبتسم لي وإن الآمال تتحقق.. غير أن الأهم إن هذا التفرغ والدراسة أنقذاني من موت محقق وأكيد..
(17)
وجه من 13 يناير
لقد جاءت أحداث 13 يناير 1986 وأنا متفرغاً للدراسة سنة أولى كلية الحقوق وقد كانت لي تجربة ومواقف في هذه الأحداث سأذكرها في موضع آخر ولكن سأذكر هنا الشطر المتعلق بلواء الوحدة.
بعد أسبوعين من بداية الأحداث زرت اللواء ووجدت كل أصدقائي تقريبا قد تم تصفينهم ضباط وصف ضباط وجنود.. إلا ما كان في حكم النادر.. قتلوا البعض في وادي حسان وبعضهم في السجون والزنازين وبعض آخر في معسكر اللواء.. تم تصفية الكثير منهم لمجرد انتماؤهم الجغرافي للشمال أو للضالع أو ردفان أو يافع .. بعض من تم تصفيتهم كان لا يهتم ولا يكترث بالسياسة ولا تربطه رابط بها، ولكن حتى هذا لم يشفع لهم أو يخفف عنهم .. وتمت تصفيتهم دون تردد.
عند زيارتي للواء شعرت بالأسى والوحشة والحزن العميق .. شاهدت أثار الدماء على أرض الغرف والجدران .. بقايا شعر رؤوس آدمية هنا وهناك وبعضها لا زال ملتصق بجدران الغرف وآثار الرصاص لا زال شاخصا .. ملابس عسكرية ومدنية عليها الدماء مرمية على الأرض .. رائحة الدم كانت لا تزال نفاثة .. الممرات تحكي إن الموت مر من هنا .. الموت صال وجال هنا وهناك .. الوحشة تسكن الأمكنة والزوايا .. والمجازر قابلتها مجازر من الطرف الآخر واكتظت الأرض بالضحايا..
الملازم علوان من أبناء محافظة إب كان في نفس سريتي وأيضا جاري في السكن بعدن وهو من خريجي الكلية العسكرية الدفعة الحادية عشر .. أصيب بطلقة في خاصرته عند محاولة الهرب من مصير أكيد وموت محقق لا يفصله عنه غير ساعة زمن أو أقل من ساعة.. نجا بأعجوبة ..
جاء في روايته إن لم تخنِّ الذاكرة:
أخذونا من السجن مليان بابور بعد أن ربطوا أيدينا إلى الخلف وجميعنا من أبنا الشمال ويافع والضالع وردفان .. كنت أشعر أنهم يريدون تصفيتنا، وكنت أحك الحبل الذي يقيد كفاي إلى نتوء في البابور .. وكان الوقت ليلا والظلام دامس ..
في الطريق تأكدت أنه سيتم تصفيتنا في وادي حسان.. وبعد جهد جهيد استطعت أن أمزق وثاقي بذلك النتوء الذي ظللت أحك وثاقي به .. كان بعض الزملاء بعد أن عرفوا وجهتهم وإن الموت صار قريب .. بعضهم يبكي وبعضهم يترجي ..
أحد الضباط اسمه نصر من أبناء ردفان وكان يغلب عليه حسن النية بعد أن أدرك أنه ذاهب إلى وادي حسان وإن هناك الموت ينتظر، طلب منهم التفاوض وهو يضطرب.. كان أشبه بغريق يحاول أن يمسك بقشة .. ولكنهم سخروا منه ومن طلبه .. الضابط نصر واحد من الطيبين والذين لا يعيرون بالا للسياسة ..
الكلام لا زال لعلوان: أنا الوحيد الذي استطعت تمزيق رباطي والقفز من فوق البابور فتداركوني بإطلاق النار وأصبت برصاصة في خاصرتي وثانية في يدي وكان الظلام كثيف واستمريت بالركض وأنا أنزف ولم يستطيعوا اللحاق بي وقد ساعدني الظلام على الهروب.. عصبت جرحي بقميصي وأمضيت ساعات طويلة في الركض وأنا أنزف في الصحراء حتى وصلت إلى منطقة العلم بين عدن وأبين وهناك أغمي عليّ حتى وجدتني قوات الاتجاه الآخر فتم إسعافي ونجاة حياتي..
هناك روايات فاجعة كثيرة .. زميلي الملازم أول الحياني كان ضمن آخرين محشورين في غرفة بلغ عددهم فيها أكثر من ثلاثين جندي وضابط .. تم إطلاق النار الكثيف عليهم وقد أصيب بالرصاص ولكن لم يمت .. فجاء أحدهم ورمى بقنبلة إلى الغرفة لتقضي على الناجين..
هناك قصص مروعة كثيرة أرتكبها طرفي الصراع وسوف أسلط بعض الضوء على بعض تلك الجرائم التي أقترفها الطرف الآخر في موضع آخر .
صور بعض الزملاء في لواء الوحدة بأبين