لا تفترض الحروب خلفيات شديدة التعقيد لإنتاج «المأساة» بشكل دائم. فالحرب بما تشمل من معارك وخنادق وحديد ونار، لا تعدو كونها مجموعة من أعمال «القتل الجماعي» التي ينخرط فيها العسكر والمدنيون ما بين قاتل ومقتول، وباختلاط شديد التعقيد عند محاولة تبيان الجاني من الضحيّة. وكل ذلك بمعزل عن الخطوط القانونية التي ترسمها التشريعات الدوليّة، أو «الحدود الأخلاقيّة» الخاضعة للتغيير الدائم بفعل الأدوات السياسية المسيّرة للمعارك. وهكذا، فإن «الضحايا» من خارج قيد المتقاتلين، بقيت بشكل دائم «ضرراً مصاحباً» عن قصد أو من دونه.
الا أن العدد والكمّ والكيف، كانت وما زالت من المحدّدات التي تنشط على أساسها «جماعات» الرقابة الحقوقيّة بمشاربها كافة، من أممية ودوليّة وخاصة، للخروج بلوائح سوداء تتنوّع فيها العناوين ما بين «جرائم حرب» و «جرائم ضد الإنسانية» و «ضد الطفولة» وغيرها.
عندما أطلقت المملكة العربية السعودية عمليّة «عاصفة الحزم» نهاية آذار من العام الماضي، بدا للجميع أن فصلاً جديداً من المأساة اليمنية بات قيد «الإنتاج». فالآلة الإعلامية العربية الخليجية المناصرة للتحالف، عملت طوال الفترة السابقة لأولى الضربات الجوية التي استهدفت صعدة وصنعاء، على تهيئة الأرضيّة بشاكلة تخدم إنتاج رأي عام عابر لعدد من الاعتبارات، خاصة تلك التي تمسّ القالب المجتمعي المشترك لمنطقة الجزيرة العربية، بما يكفل «انخراطاً» شبه كامل للسعودية وحلفائها من دول مجلس التعاون، في حرب عربية «بينيّة». والحرب تلك ترتكز في «مضبطتها الأخلاقيّة» على عناوين سياسية، تلاقي فكرة «الشرعيّة» في مواجهة «الانقلاب»، لكنها وبفعل الاستقطاب الحاد التالي لـ «الربيع العربي»، ارتكزت بفعل واعٍ على أبعاد وموروثات ثقافية، وكذلك حوادث تاريخيّة، تحوّلت الى جزء أساسي من «الوعي الجمعي». وبمعنى آخر، بات «للشراسة» الطائفية المتنقلة في المنطقة، منصة خليجية جديدة للعمل والازدهار.
لم يحصل في التاريخ، لا قبل «عاصفة الحزم» ولا بعدها، أن سُجلت حرب على اللوائح البيضاء. فـ «الحرب النظيفة» أنتجت كمصطلح عسكري نهاية القرن الماضي، للترويج لعدد من منتجات الموت الحديثة كالقنابل الموجهة والذكية والنيوترونية وما شاكلها، أي مجموع الاسلحة التي تؤدي غرض القتل البشري بدقة عالية، من دون أضرار مادية في البنى التحتية لا طائل من استهدافها.
وبصورة أدق، فإن الحرب النظيفة تعني إصابة الأهداف بدقة أشد. لكنها لم تكن يوماً حرباً تعزل فيها الأحياء المدنية عن إحداثيات الموت، ما يعني بفعل الضرورة وقبل الدخول في دراسة الخلفيات، ومحاولة فهم النيات بناء على الأفعال، أن المملكة العربية السعودية، كانت تدرك مسبّقاً أنها مقبلة على ارتكاب عدد هائل من «المجازر» من دون أي تسمية أخرى، لشدة التداخل بين ديموغرافيا اليمن ببعدها المدني وتكويناتها العسكرية، وبين قطاعات نظامية وأخرى شبه نظامية. وهذه المعرفة كانت بطبيعة الحال على طاولة غرفة قيادة «العاصفة»، قبل إعلانها على صنعاء، أو على الحوثيين وانصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح كما حددتها الرياض، لكون الأمر خاضعاً لمبادئ بسيطة في صناعة تقادير الموقف الخاصة بالحروب.
لم يعُد السؤال «اليمني» الأبرز في أروقة الأمم المتحدة اليوم، مَن يقتل مَن؟ وكيف؟ ولم تعُد السرديّة تتمحور حول السعي إلى تأمين «توافق» إقليمي كافٍ لإعادة إنتاج تسوية داخلية برعاية أممية. أصبح السؤال وببساطة، مَن هو «الأحمق» الذي أسقط «سهواً»، اسم «التحالف العربي» في اللائحة السوداء لمنتهكي حقوق الأطفال؟ غالبُ الظن أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، يردّد هذه الجملة بصوت عالٍ (عال جداً)، منذ سحب «مؤسسته» للتحالف عن اللائحة المذكورة بعد ساعات أو يوم من «إسقاطه»، وذلك بحسب فارق التوقيت بين نيويورك وصنعاء، أو ربما الرياض. لكنه، ومنذ تلك اللحظة، يجلس في بهو المبنى الرئيسي حيث يعمل، بانتظار نتائج حسيّة أكثر «حسماً» في الشهرين المقبلين، لتبيان ما إذا كانت صور الأطفال من ضحايا الحرب الدائرة في اليمن، صحيحة أم مزيّفة، بل قد يصل الأمر بالنقاش حدود البحث عن إمكانية وجود أطفال في اليمن من عدمه.
قليلة هي «التبريرات» التي يمكن أن تشكل قبة وقائية من سيل الانتقادات المتّجه نحو نيويورك هذه الأيام. وقليلة هي الخطوات التي يمكن من خلالها للأمين العام للأمم المتحدة وفريقه، العمل على «ترقيع» صورة المؤسسة الخاضعة دوماً للاهتراء والتجديد، بفعل السقطات المماثلة. فقضية انتشال «التحالف العربي» من اللائحة السوداء وبهذه الطريقة، أصبحت تشكل نموذجاً خالصاً لفضائح العلاقات العامة، قبل الاعتبارات الباقية الأساسية، التي يتداخل فيها القانوني بالسياسي. حيث إن الإدراج بالحد الأدنى، كان شديد الخجل والحياء في سرديّته. إذ حاول وبشكل غير منطقي، المساواة ما بين فائض القوة النارية السعودية أو الخليجية التي تستهدف مدناً وقرى مأهولة الى جانب الأهداف العسكرية، والقوة النارية اليمنية المشتركة التي تركز عملها بالأساس على مواجهة القطاعات البرية التابعة لـ «عاصفة الحزم».
فشل القوات البرية «العربية» في اقتحام أماكن التكتلات البشرية اليمنية الأساسية شمالاً، شكل بفعل الواقع عازلاً طبيعياً للقوات اليمنية المشتركة، منعها من الخوض في المعارك التي تتسبب بوفيات مدنية أكثر ارتفاعاً، حيث تركزت غالبية المعارك هذه على بعد عشرات الكيلومترات من المدن، ما يعني صرفاً أعلى للمجهود الحربي على أعمال القتل التي تنحصر بالعسكريين الى حد ما، وذلك بمعزل عن سير المعركة الجوية التي تشنها القوات الخليجية، علماً أن الأخيرة صاحبة «الفضل» في رفع أعداد القتلى من المدنيين الى آلاف عدة غالبيتهم من النساء والأطفال. لكن هذا لا يعفو القوات اليمنية المشتركة من «سقطات» كارثية تسببت بمقتل مدنيين في الضالع قبل أي منطقة أخرى ثم تعز ومحيط شبوة، وبصورة أقل إنتاجاً للوفيات في قصفهم الداخل السعودي برشقات عشوائية في بعض الأحيان.
لكن الأخطر من القتل في اليمن، يبقى «بيان القتل». فالمعركة التي تدار هناك في السياق «المذهبي» ذاته المعتمد في سوريا والعراق، وبفعل واعٍ ومباشر من أدوات الدعاية الخليجية والعربية، باتت لها سلة متكاملة من مبررات «الموت الضروري»، ترفع عنها الحرج الأخلاقي والى حد بعيد، في القطاعات المجتمعيّة التي استهدفتها الدعاية وما زالت، منذ أيام «الربيع» الأولى. وهي البيئة الولادة لـ «شريعة القتل» والقادرة على خلق «كوارث» أكثر عمقاً في بعدها الإنساني والوطني في الداخل اليمني، من خطوة عرجاء للأمم المتحدة وضعتها في الحزمة ذاتها، الى جانب كيانات وبلدان دفعها الفقر للتنازل عن قضايا وعناوين ذات أبعاد «سياديّة» و «أخلاقيّة». فالمصفقون والمهللون لطائرات الموت، باتوا اليوم أشد فتكاً بـ «الأمة» ومصائرها، من مجرد برميل أو صاروخ أو قذيفة.