العرض في الرئيسةفضاء حر

من ارشيف الذاكرة (10)

يمنات

أحمد سيف حاشد

انحياز وحيرة وأسئلة

(22)

• في الجامعة كانت تستهويني ما تسمى أيديولوجية الاشتراكية العلمية.. أشتاق لموادها الدراسية شوق المحب الغارق فيها من أخمس قدميه حتى مترا أعلى من شحمة أذنيه .. أشعر بذاتي وأنا أحضر دروسها مع زملائي.. معارف جديدة شيقة أكتسبها وأضيفها إلى معارفي، وأشعر بنهم لمعرفة المزيد، فيما المزيد يجعلك تستمرؤوا الغرق وتتطلع إلى الإكثار من المعرفة، وتشعر في الآن نفسه كم أنت أمام عالم المعرفة ضئيل ومعدوم .. معارف أحس بفائدتها وأستمتع بها، وأشعر برغبة تتوق إلى تحقيق المزيد، حتى بديت أحيانا أمام نفسي أشبه بتاجر جشع لا يرضى بالقليل، مقارنة مع فارق اختلاف صنف البضاعة.. كنت أقرأ ما هو مقرر وأقرأ خارجه، وأحرز في اختبارات موادها أعلى الدرجات والمراتب، وخسائري في درجات موادها محدودة جداً في معظم الأحيان.

• كانت تعجبني معرفة قوانين الفلسفة الماركسية ومقولاتها، ويسعدني أن أقارن ما هو نطري بما يُعتمل في الواقع.. كنت أرقب تطبيقاتها على الطبيعة والمجتمع والوعي.. قانون وحدة وصراع الأضداد، وقانون تحول التراكمات الكمية إلى تغيرات نوعية، وقانون نفي النفي ومقولات العام والخاص والصدفة والضرورة وغيرها.. كنت أشعر أن تلك القوانين والمقولات تعمل عملها في كل شيء وبنفس القدر أشعر إن الفلسفة علم حكيم وعجيب وممتع.

• كنت متعصبا إلى حد ما، وربما أدّعي أن أيدولوجية الاشتراكية العلمية هي الأيديولوجيا الصحيحة بين كل أيديولوجيات العالم، وأنها تملك الحقيقة وحدها، وأنها تجيب على كل الأسئلة، ولكن كنت أيضا أعتقد وبحسب الأيديولوجيا نفسها التي أعتنقها إن معيار الحقيقة هو الواقع، وكنت أشعر أن ثمة خلل في النظرية، وأن هناك ما هو نظري يتعسف الواقع ويتعارض مع الوقائع..

• كنت وبدافع أيديولوجي أمارس القمع على بعض الشكوك التي تنتابني في بعض الأحيان، ولاسيما فيما له صلة بالجانب السياسي، وكان تكرار بعض الوقائع على نحو ما واستقراءها، ومقارنة وقائع سابقة بأخرى لاحقة، وإسقاط ما هو نطري عليها تجعلني أشعر بحجم التناقض والتنافر، وأحيانا أشعر وأنا أتعسف الواقع بالنظرية التي أريد أن يكون بمقاسها، أشعر أن هناك مطرقة كبيرة من حديد تضرب في رأسي وتهشم النظرية المستقرة فيه.

• كنت أقرأ عن الصراع الطبقي ودكتاتورية البروليتاريا، والبرجوازية الصغيرة، واليسار الطفولي، ويراودني الشك وتأتي الوقائع لتنسف ما أعتقد.

• كنت أسأل وأنا أرى الصراع السياسي المحتدم على أشده في الجنوب لا يسير على قوالب الصراع الطبقي الذي في النظرية.. كان الرفاق يقتلون بعض بتهمة اليمين الانتهازي وتارة بتهمة اليسار الانتهازي، واليسار الطفولي، واليمين الرجعي، والبرجوازية الصغيرة، فيما جلهم إن لم يكن كلّهم مناضلين وفقراء، وأغلبهم جاء من ريف لطالما شهد الفاقة والجوع والعوز..

• كنت أشعر إن الصراع السياسي الذي يشهده الجنوب ليس له علاقة بدكتاتورية البروليتاريا ولا بالصراع بين الطبقات، وأن أي تيار يصف خصومه بالبرجوازية الصغيرة وبالطفولية والانتهازية والفوضوية وغيرها من تلك الوصفات الجاهزة في الكتب إنما هو غطاء سياسي لتصفية خصومه فحسب.

• كنت أحب عبد الفتاح اسماعيل ولكن أتذكر أن سالمين أيضا فيه من المزايا ما يجعلني أحبه.. فهو رجل شعبي بسيط وكرازمي وحيوي ومنحاز للبسطاء ويعيش بساطتهم..

• كنت أتذكر القاص محمد عبد الولي وأسأل لماذا قتلوه وعشرات من رفاقه المناضلين الأفذاذ في الطائرة التي تم تفجيرها في الجو.. كان الرفاق يقتلون بعضهم.

• كنت أحزن وأنا أسمع قصة سجن قحطان وإعدام عبد اللطيف الشعبي.. وكثيرون غيرهم..

• كنت أشعر إن الثورة تأكل عيالها كلما جاعت، وكانت شرهة ونهمة، وأن مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية كانت دامية وقاسية..

• صرت اليوم أظن أنه من أجل يكون المرء حرا يلزمه ضمن ما يلزمه أن يتحرر أيضاً من الأيديولوجيا أو يتخفف من ثقلها وكوابحها وقوالبها الجامدة..

• صرت اليوم أظن أن الأيديولوجيا تعيق أو تكبح أيضا المعرفة والعلم والتطور ولا سيما عندما تكف عن الحراك والتطور أو تستعيض عن حركتها وتطورها بالتصلب والجمود والرتابة..

• وبين الأمس واليوم دم وندم .. صار اليوم أثقل من الأمس.. صار اليوم ثقيلاً ومثقلاً بالأيديولوجيا الدينية والإسلام السياسي ورجال الدين.. صار اليوم أكثر تعاسة من الأمس.. صار القتل لله وباسم الله باذخا وعبثيا ولا طائل منه..

زر الذهاب إلى الأعلى