كثيرون هم المبدعین في بلادنا لکن هناک الكثير من لا ندري عنهم لعوامل عدة منها إهمال الجهات المختصة لمثل هولاء الفنانين والشعراء، كما ان الکثیر لا یجدون الفرصة التي تسنح لهم بالظهور في الساحة الفنیة، وهناک الكثير من لا یعشقون الشهرة والأضواء فینحتون إبداعهم بصمت علی الورق حتى تقع بصدفة علی یدي فنان أخر فیظهرها للجمهور کما هو الحال مع روائع شاعرنا الكبير/أحمد الجابري من لحن وغنى له کبار الفنانین الیمنیین.
الشاعر/ أحمد غالب الجابري شاعر يمني من مواليد مدينة عدن عام 1936م، أنهى دراسته المتوسطة والابتدائية في مدينة عدن، سافر إلى القاهرة في العام 1953م و أكمل دراسته الثانوية فيها ومن ثم الجامعية في جامعة القاهرة/كلية التجارة شعبة إدارة أعمال، قراءة الكتب على صدارة قائمة أهم اهتماماته الأساسية.
بدأ الشعر في مرحلة مبكرة من حياته حيث بدأ الشاعر أحمد الجابري بتعلم أبجدية كتابة القصيدة ويحيك مفرداتها محافظاً على سلامة الوزن والقافية حينما كان في مدينة عدن وشعر بأن الكثير ممن حوله في هذه المدينة التي فتحت أبوابها واحتضنت كل عربي وأعجمي لا ينطقون لغة الضاد.
كان للأساتذة الكبار أمثال الأستاذ/عبدالله فاضل فارع، والشاعر الغنائي/لطفي جعفر أمان، والأستاذ المصري/علي طريح، تأثيرا كبيراً في اهتماماته الأدبية المبكرة. قال عنه الأديب الراحل عبدالله عبد الوهاب نعمان: “إنه شاعر كبير ورقيق المشاعر والأحاسيس”. له العديد من الأعمال الفنية، غنى له كبار الفنانين اليمنيين منهم الفنان/أيوب طارش، والفنان عبد الباسط عبسي، والفنان/محمد مرشد ناجي، والفنان/أحمد قاسم، والموسيقار/أحمد فتحي، والفنان/محمد سعد عبدالله.
منها قصيدة (هربوا جا الليل) وهي تعد أولى القصائد التي كتبها شاعرنا/الجابري حيث كتبها عام 1956م، وهي تسبق قصيدة(أخضر جهيش مليان)غير أن الثانية لُحنت وغناها المرشدي عام 1957 م أي قبل قصيدة (هربوا جا الليل) التي لحنها وغناها أحمد قاسم في نهاية الخمسينيات، ومن كلماته (ظما الغيد) ألحان وغناء الموسيقار/أحمد فتحي، و (جوال)ألحان وغناء الفنان/محمد سعد عبدالله، و(عاشق الليل)ألحان وغناء الفنان/أيوب طارش والعديد من الأعمال…
لامست قصائد شاعرنا الجابري وجداننا وسامرت العشاق لیالیهم المقمرة.. ومنها من شاركتنا همومنا الوطنیة،فقد شهد شاعرنا الفترة الحرجة لتحولات الحیاة الاجتماعية والسیاسیة في وطننا فكان له جل القصائد التي تحفل بهم الوطن منها:قصيدته المعروفة(ثورة شعب) التي يقول فيها:
من دم الحر اسقها واستمت يا وطني ثورتي تمضي بها عزةً لليمن كان أمساً من بقايا العفن وتبدى فجرنا شامخاً كالزمن إنه الشعب الذي عاش ليل الظلم سوف يمضي زخماً يرتوي فيض الدم
كتبها عقب ثورة ال26من سبتمبر وهي أول قصيدة يلحنها حينها الفنان فرسان خليفة الملقب بـ “فريد أطرش اليمن”,وأغنية (انتصرنا) التي غناها المرشدي في الفترة التي كان شاعرنا يقيم فيها بعدن بعد عودته من القاهرة 1966م كما له العديم من القصائد التي نلتمس بها مدى الهم الوطني والوحدوي الذي يراود شاعرنا خلال المراحل العصيبة للوطننا..
رغم كل الأعمال التي قدمها شاعرنا/ الجابري لم تمنحه الدولة حقه من الرعاية والمكانة التي تليق به وبشعره, ولم يمد له أحد يد العون خلال مشواره الذي بذل من أجله الكثير حتى أتت اللحظة التي تمكن فيها من جمع أعماله في مجلد واحد بعنوان(كرم على الدرب).
منذ خمسة عشر عاماً وشاعرنا الكبير يعيش وحيداً في مدينة الراهدة في شقة صغير أسماها صومعته كان يتولى دفع إيجارها بيت هائل سعيد أنعم وغيرهم ممن يهتمون ويقدرون الفن و المبدعين اليمنيين كالأستاذ/خالد الرويشان وزير الثقافة سابقاً والتي أضطر لمغادرتها بعدما طالبه صاحبها بإخلائها,أضطر شاعرنا الكبير لمغادرتها لكن دون أن يدري أين المستقر؟! مما أدى إلى تدهور حالته الصحية والنفسية.
وفي قصيدته للمكان ذاكرة قال الشاعر/أحمد الجابري
كان بالأمس لنا بيتُ ، وكانت مِئذَنه وعصافيرُ ، وأسرابُ حمام، آمِنه رحَلَت .. ما بَقِيت غير بقايا أدخِنه علِقَت بالدّار ،مُذ حلّت بها مُستوطِنه * لا تلمني،إن بكى مثلي ضيَاع الأمكنة فالذي أبكيهِ قلبُ ، رَوّعَتهُ الأزمنة وغَدَا مثلَ رمَاد ، كان لي، ما أوهَنه فلَكَم مات لنا وردٌ ،وضاعت سَوسَنَه * أنها لمأساة فبعد كل الأعمال التي قدمها شاعرنا الكبير من عاش زاهداً في حياته لا يجد مأوى خاص به سوى غرفة استضافه بها الأستاذ/محمد إبراهيم المسبح أحد مواطني مدينة الراهدة وهو يقيم بها في الوقت الحالي.
أخر ما كتبه الشاعر في صومعته قبل مغادرتها رباعيتان:
-1- -تكالب الأهل والأشرار من حسدِ عليّ حتى كرهت العيش في بلدي* -لولاه ربي وإيماني برحمته لمتُ من قبل قهراً آه من كمدِ -قضيت عمري بعيداً عنه مو وكذا أحسنت ظني وكان الحب معتقدي -وعدت من بعد بي شوقُ لرؤيتهم فما بَخلتُ ومثلي ما مددت يدي -2- -مذ خاب ظني بهم والله لو علموا كم ذقتُ في مكرهم آوّاه من حسدِ -غادرت صحبي ولم اظفر بمنتقدٍ يشد أزري إزاء الضيم أو سندِ -غادرتهم ودموعي قط مابرحت تبكي فراقي لصحبٍ راعهم جلدي -لكنه الله حسبي رغم من ظَلموا مثلي وحلّ سواهم دونما أحدِ.
کلمات تتجسد بها کل معاني القهر والألم والحنين لأماكن سكنها وسكنت فيه كمدينة عدن مسقط رأسه، وتعز من وهبها عمراً بأكمله أثناء ما كان يسكنها، ومنزله المتواضع في مدينة الراهدة الذي أسماه صومعته ولاسیما حینما وجد شاعرنا الكبير نفسه وحیداً في أوقات عصیبة هو بأمس الحاجة فیها لحبیب أو قریب یأخذ بیده بجانب أصدقائه وجیرانه المخلصین قبل مغادرته صومعته.
يبقى السؤال: متى سيجد فنانينا المبدعين حقهم بالاهتمام ليبقى الفن اليمني حاضراً بقوة في الساحة الفنية؟ من سينتشله من تحت براثين الإهمال ويخرج مبدعينا للنور ليبقى الفن ثروة للأجيال القادمة ومصدر إلهامهم؟.