اعتقد أهل صنعاء أن الطائرات السعودية قد تعبت من قصفهم بعد توقف دام نحو ثلاثة أشهر، خلال فترة الهدنة التي فرضتها مفاوضات الكويت، لكن اعتقادهم لم يكن صائباً، إذ عادوا إلى ليالي القصف من جديد بعد ساعات قليلة من انسحاب وفد الرياض من تلك المفاوضات وعودة أعضائه إلى مساكنهم في المملكة.
ويبدو أن البرقية التي أرسلها «مركز عمليات الدفاع الوطني» في وزارة الدفاع السعودية إلى مكاتب الأمم المتحدة المعنيّة بالمعونات الإنسانية في اليمن، وتضمنت تأكيد نية تعليق العمل في مطار صنعاء الدولي لمدة 72 ساعة قابلة للتمديد باعتباره «منطقة غير آمنة»، كانت إنذاراً حاسماً بعودة عمليات العدوان على صنعاء من نقطتها الأولى.
حصل ذلك في وقتٍ كان فيه أهل صنعاء قد بدأوا بتطبيع علاقتهم على نحو عملي مع الأوضاع التي هيمنت على حياتهم منذ آذار 2015. وكانت بعض إجراءات «أمانة العاصمة» قد بعثت الأمل في نفوس أبناء صنعاء خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
بعدما توقفت «الأمانة» مع بداية العدوان عن مهماتها في إصلاح الجسور والأنفاق في شوارع العاصمة، كان لمجرد استئنافها أعمال الصيانة أن ترك شعوراً إيجابياً في نفوس الأهالي الذين رأوا الحياة تعود لسابق عهدها على الرغم من رمزية المسألة بالنظر إلى حجم الدمار الذي لحق بكل أشكال البنى التحتية في المدينة.
إلا أن كل شيء عاد إلى سابق عهده، مع عودة العدوان السعودي الجوّي بشكل أكثر هجمية من ذي قبل، حيث بدا الطيران الحربي وكأنه لم ينتهِ من أعمال التدمير التي قام بها منذ عام ونصف عام، في وقت لم يعد لديهم ما يقصفونه بعدما استهدفوا كل شيء قبل الهدنة الماضية. ولعل قصف مصنع الأغذية الخفيفة شمالي صنعاء قبل ثلاثة أيام إشارة واضحة إلى شكل الأيام المقبلة حيث من المتوقع أن يكون القصف أكثر ضراوة. وكانت طائرة سعودية قد قصفت ذلك المصنع الواقع في منطقة آهلة بالسكان وبعيدة عن أي موقع عسكري، ما أوقع نحو 14 قتيلاً، من ضمنهم نساء وأطفال أظهرت الصور احتراقهم بنحو كامل.
هذه الجريمة دفعت كثيرين من الموالين للسعودية أو من المتخذين موقف «المراقب» بحكم عملهم في المجال الحقوقي إلى اعتبار ذلك القصف من جرائم الحرب التي تُضاف إلى سجل الجرائم الكثيرة التي ارتكبها العدوان. وكتب الناشط الحقوقي اليمني المقيم في لندن براء شيبان على موقع «فايسبوك» أن الضربات الجوية داخل صنعاء والمناطق المأهولة بالسكان «هي عملياً خارج نطاق الاشتباك وليس لها مبرر عسكري أو قانوني وإن نتيجتها الحتمية هو سقوط مزيد من الأبرياء». وأضاف شيبان أن الحرب لها نطاقها وضوابطها ومناطق اشتباكها «ولا يمكن تبرير قصف المدن المأهولة بالقول إن البلد في حرب».
مع ذلك كان لافتاً بقاء حركة الناس على حالها واستمرار المحالّ التجارية لفتح أبوابها حتى وقت قريب من منتصف الليل على العكس من السنة الأولى للعدوان، ويبدو أن السبب عائد إلى ابتكار مشاريع المولدات الكهربائية التجارية الخاصة التي رُكِّبَت في مناطق عدة من مراكز التسوق في العاصمة وما حولها، وتبيع الطاقة الكهربائية لأصحاب المحال من طريق عدّادات خاصة. أما المنازل، فقد صارت ألواح الطاقة الشمسية تهيمن على غالبيتها، فلم يعد معظم السكان ينتظرون التيّار الكهربائي حتى يعود.
لكن هناك علامة لافتة في سلوكيات غالبية الناس. فعلى الرغم من مرور كل هذا الوقت وهم يعيشون تحت نيران العدوان، لا يزال حسّ السخرية عالياً، خصوصاً تجاه التصريحات الصادرة عن إعلاميين سعوديين ويمنيين مقيمين في الرياض ويعمل غالبيتهم في «قناة اليمن» التي تبث من هناك، وجميعهم «يغرفون» من المطبخ الإعلامي السعودي الرسمي ذاته.
واحد من تلك التعليقات الساخرة تخص ما قاله المتحدث الرسمي باسم العدوان أحمد عسيري حول «استئناف عمليات عاصفة الحزم». قال أحدهم رداً عليه: «مسكين هذا العسيري وسادته يحرجونه، هل نسي أن عاصفة الحزم قد انتهت وأصبحت إعادة الأمل؟!». أمّا أحد الإعلاميين اليمنيين في الرياض، فكان ممتلكاً لقدر كبير من الجرأة ليطلب من أهالي صنعاء مغادرة منازلهم «فساعة الحسم العسكري اقتربت»، وقال: «كل واحد معاه بيت في القرية فليذهب إليه»، لكن الطريف في قوله، بحسب تعليق أحد الصحافيين في صنعاء، أن ذلك الإعلامي على علم تام بأحوال غالبية الناس في العاصمة حين كان مقيماً بينهم «في بيت إيجار» قبل أن يتحوّل دخله الشهري إلى الريال السعودي.