عندما تتحوّل الحرب إلى تجارة رابحة، وباب استرزاق لدى البعض، يصبح المشهد أكثر تعقيداً وتداخلاً، وتضاف أسباب وعوامل لاستمرار الحرب وعدم توقّفها، مع نشوء طبقة من المنتفعين وأصحاب المصالح، خصوصاً عندما يكون المستفيدون هم من ضمن أطراف الحرب، والمتحكّمين بها ميدانياً وسياسياً، من داخل مطبخ القرار.
أصبح السلام، بحكم المصالح المتشكّلة، عدوّاً أوّل لهؤلاء التجّار. منذ بداية الحرب، التي منحتهم فرصة مثلى، طفت على السطح هذه الطبقة، العاجّة باللاهثين وراء تحقيق المكاسب الخاصّة، من خلال أعمال وممارسات سياسية أو عسكرية أو تجارية مجرّدة من الأخلاقية والشرعية، بل والإنسانية.
كثر هم تجّار الحروب في اليمن. قادة عسكريون وسياسيون، وإعلاميون ومثقّفون ومحلّلون سياسيون يتصدّرون واجهة الأحداث على مختلف القنوات الإعلامية. يعلّقون على الوقائع والمجريات، بما يخدم مصالحهم واستمرار حضورهم على الدوام.
في الحرب، غابت الإرادة الحقيقية للسلام عند كلّ الأطراف. حضرت لغة المصالح والصفقات السرّية والعلنية، على حساب الضمانات الحقيقية لسلام جدّي ومستدام.
الحرب، وبغضّ النظر عن المخطئ والمصيب فيها، وعن الحقّ والباطل لدى أطرافها، هي فعل مخسر. حقيقة يؤمن بها الجميع، حتّى من تقوم على سواعدهم خنادق الجبهات، ما عدا تجّار الحروب. وحدهم لهم نظرتهم المغايرة للحرب الفرصة، كما يعتبرونها.
يؤمن الناشط السياسي، وليد أحمد، أنه في الحروب تزدهر تجارة الموت والاستغلال، والتي يستفيد منها زعماء العصابات والمافيا. ويقول، في حديثه لـ”العربي”، إن “التجارة ورأس المال المحترم مع الحروب وغياب الدولة يتلاشى، لا يوجد شيء محترم في الحرب، سوى القتلى الأبرياء والأيتام”.
يؤيّد ذلك الناشط والكاتب الصحافي، هاشم الأبارة، إذ يرى أن “تجّار الحرب في اليمن، فئة منهم على الأرض، الحركة الحوثية، وبعض قيادات المعسكرات التي تبيع السلاح للمقاومة، ومنها مقاولو التباب التابعة للمقاومة، سواء في نهم أو مأرب أو شبوة، ومعك طاقم المحلّليين في القنوات التلفزيونية، يحشدون ليثبتوا أنهم محلّلون استراتيجيون، تعتمد لهم مبالغ مالية، ليصبحوا بذلك تجّار الأكفان الأكثر نشاطاً”.
منذ بداية الحرب طفت على السطح هذه الطبقة، العاجّة باللاهثين وراء تحقيق المكاسب.
ويعرّج الأبارة، في حديثه، على التجّار الآخرين الذين ينشطون في قطاع الاقتصاد، والتلاعب بأسعار العملات والمواد والسلع، من تجّار السوق السوداء “الذين لا يختلفون في تجارتهم عن أولئك الذين يقفون في الميدان وفي ساحات القتال”.
ويقول الأبارة، لـ”العربي”، “الصيارفة ومقاولو النفط وشلّة تصريحات العبور، هؤلاء من حصدوا المليارات خلال هذه السنة، فالصيارفة أصبحوا يتحكّمون في دورة النقد في البلد. كبار الصيارفة أصبحوا يقومون بمهامّ البنوك، وهذا هو سبب النقص في السيولة في البنوك، مع أنها متوفّرة في الشارع. أصبحت دورة النقد خارج الجهاز النقدي في البلد”.
ويقول الصحافي فتحي أبو النصر “طبعاً المستفيد الأبرز من انهيار مفاوضات وقف الحرب، هم وحدهم شلل الفساد والاستغلال والمصالح الصغيرة والأنانية والوقحة، من تجار وعصابات بزنس الحروب، والسوق السوداء، واللادولة والتفكّك العصبوي، الذين يتغلغلون بين الطرفين، كما يعرف الجميع للأسف. وإذا ما نجح هذا اللوبي في فرض خياراته اللئيمة والمهووسة التي يدأب عليها، فإنه لن يبقى هناك وطن أو مواطن على الإطلاق في اليمن”.
ويضيف أبو النصر، لـ”العربي”، أنه “يزيد الطين بلّة تعنّت الانقلابيين وحلفائهم، إضافة إلى تفاقم السلبيات في أداء الشرعية وحلفائها، خصوصاً بالمناطق المحرّرة منذ أشهر، وجرّاء ذلك تتكرّس مصالح تجّار الحروب، باعتبارهم مراكز قوى جديدة غير منضبطة وأنانية، تؤثّر في موازين ومتطلّبات المرحلة والمستقبل. والحقيقة الأكثر من واضحة، والتي يتجاهلها الجميع، هو أنه لا سلطات الشرعية قد وجدها المواطن في حياته اليومية، ولا سلطات الانقلاب قد اعترف بها الداخل والإقليم والعالم. وبينما الانقلاب لم يكتمل؛ فإن الشرعية لم تتحقّق. يعني بلد بأكمله معلّق إلى هاوية، وشعب ينتظر استعادة حقّه في الحياة. وأمّا أوغاد أو أغبياء الحروب، وبمختلف أمنياتهم المفصّلة على أمزجتهم الضيقة والاستغلالية، فهم وحدهم الذين لم ييأسوا بعد”.
ويقول المحلّل السياسي، محمد سعيد الشرعبي، لـ”العربي”، أنه في “معسكري الشرعية والحوثيين” يتكاثر تجاّر الحروب ومستثمرو دماء الأبرياء، ويعملون على هدف واحد، وهو إطالة مأساة الحرب. لدى “الحوثيين تجّار حرب ولصوص الخزينة العامّة، ونهب الشعب في السوق السوداء، وفي جبهة الشرعية هناك من يطيل معارك التحرير من أجل حصد مزيد من دعم التحالف، والشعب يدفع فاتورة مثل الإتّجار القذر بحياتهم”.
ويشير الشرعبي إلى أن تجّار الحروب في البلد يتّفقون “على تمديد وإذكاء نيران الحرب وعرقلة كافّة جهود السلام، وإفشال مشاورات الكويت يؤكّد خسّتهم، وعظيم جرمهم بحقّ الوطن والمواطن. ولا يهمّ هؤلاء الآثمين انهيار الاقتصاد وتزايد نسبة الفقر، واتّساع المأساة الإنسانية، وانعكاسات ذلك على السلم الأهلي في الحاضر والمستقبل”.
ببقاء تجّار الأزمة، تزداد مشكلة اليمن تعقيداً، وتتكاثر أطرافها. فأطراف الحرب الحقيقيين ليسوا طرفين فقط، وليسوا أيضاً هم وحدهم المعرقلين للسلام. هناك تجّار على الأرض يلاقون تجّار السياسة لعرقلة السلام. هؤلاء يعتبرون انتهاء الحرب وتوقّفها توقّفاً لأرزاقهم ومصالحهم، ولهذا سيظلّون بارتزاقهم وتلاعبهم معادين لأي استقرار أو هدنة على طريق الاتّفاق والحل الذي ينهي هذا العبث.