سلام مفروض أو مجاعة قادمة من جهة الميناء الوحيد الذي يأتي منه الطعام
يمنات
لطف الصراري
“القناعة كنز لا يفنى”. هل تتذكرون آخر مرة فكرتم فيها بهذه الحكمة الثمينة..؟ إنها حكمة ذكية أيضاً وتقول الكثير، لكن هذا العالم غشاش، وها أنتم ترون أي زمن تستعيده الذاكرة منذ آخر مرة كانت النفوس فيها قانعة بالفعل، ومقتنعة بصواب هذا المثل. لكنها حكمة لا تجد مكاناً في الذاكرة ولا قبولاً في النفس إلا في ظروف الوفرة. أما عندما يلوح شبح المجاعة من جهة الميناء الوحيد الذي يأتي منه الطعام، فالخوف من الجوع هو حكمة العصر.
منذ ما قبل شهرين فقط، بدأ الحديث عن مجاعة بدأت تفتك بأهالي محافظة الحديدة. تألمنا لمشاهدة الصور التي نُشرت لتلك الأجساد الضامرة حدّ الجفاف، لكننا لم نفكر كم قضى أولئك الضحايا من الوقت وهم يتضورون جوعاً؟ كم من الوقت تستغرقه رحلة الجلد نحو الالتصاق على العظم؟ وكم بإمكان تبرعات الميسورين أن تحل مشكلة مجاعة تفاقمها الحرب كل يوم؟
لقد أخذوا منا كل شيء يساعدنا في البقاء على قيد الحياة، وجلبوا لنا الحرب. ثم اعتنوا بصياغة التقارير التحذيرية من مجاعة تبدأ من مكان دخول الغذاء المستورد، من سواحل الحديدة، من تهامة، ذات الأراضي الشاسعة والخصبة لزراعة القمح والذرة، ومحاصيل غذائية أخرى لم تعد موجودة سوى في الكتب المدرسية.
و لأن الجياع لا يفكرون بغير الخبز، يصير هذا الأخير مادة جيدة للمساومات السياسية، بما في ذلك السلام الإجباري في زمن انعدام الخيارات.
ليس ذلك وحسب، فهناك منظمات دولية على رأسها الأمم المتحدة تطرح المجاعة كخيار بديل لعدم القبول بمبادرة سلام غامضة، وهكذا وصلنا إلى مرحلة من هذه الحرب بلا خيارات أخرى؛ إما أن تقبلوا بسلام تجريبي غير مضمون النتائج، أو الاستعداد لمجاعة تؤجج فرص الحرب وأسبابها.
ذلك أمر مخيف بالفعل، لا سيما حين يأخذ طابع تهديد أممي صريح: السلام أو المجاعة. والخيار الأخير لن يكون، بالطبع، الطريقة الوحيدة للموت.
لماذا يتواطأ العالم ضد الجياع..؟ هناك مثل شعبي يقول: “يدهنوا المدهون والأغبر يزيدوه رماد”. ما الذي سيجلبه لنا سلام كهذا..؟ هل علينا أن نثق وثوق المضطر بخطة سلام تبتزنا بالجوع إلى جانب الحرب..؟ ما الذي يمنعنا من التفكير باحتمال أن تكون إحدى الانعطافات الخطيرة لمسار الحرب..؟ الإجابة التي تزودنا بها التقارير التحذيرية واضحة؛ الجوع لا يتيح الكثير من فرص التفكير. و الصراع الذي تورطت فيه القوى اليمنية فيما بينها، وصولاً إلى هذه المرحلة، يخبرنا بأنه لو كنا نفكر بطريقة صحيحة من البداية، لما سمحنا بتحويل البلاد إلى ميدان صراع دولي.
بعبارة أدق، لو كانوا يفكرون بطريقة صحيحة لما وجدنا أنفسنا أمام سلام مفروض بقوة المجاعة والسلاح المغرور بحداثة عهد في الطمع. القناعة كنز مفقود، والخارطة المؤدية إليه مليئة بالألغاز، واحتمالات الحلول الصائبة والخاطئة متداخلة كأسلاك قنبلة موقوتة. أما بالنسبة لنا، نحن الذين نمضي في طريق واضح باتجاه المجاعة والحرب مجتمعيَن، لم تعد القناعة حكمة ثمينة؛ الطعام أغلى منها، ومن السلام التجريبي.