العسكرة وتوظيف المناهج التربوية في المعارك خطران يتهددان التعليم .. التاريخ اليمني لوحة يقطر من أطرافها الدم
يمنات
عبد الباري طاهر
وهم القوة وإغراء العسكرة وباء دمغ الاجتماع البشري منذ القدم، ومثَّل جوهر نهج وسياسات القوى الاستعمارية في العالم. بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية جمعت بين “الحسنيين”؛ بين إرث الاستبداد الشرقي وخبرة وزاد الدولة القطرية الآتية من التركة الاستعمارية.
في اليمن يتخذ نهج القوة صوراً بشعة وفاجعة؛ فاليمني مهووس بامتلاك السلاح، مسكون بدعوات الفتن والصراعات، منذور للحرب .. التاريخ اليمني لوحة يقطر من أطرافها الدم، ولكن هذه الجريرة ليست كل الحقيقة أو كل التاريخ، ففي اليمن أيضاً حضارة العمران والسدود والمدرجات الزراعية في قمم الجبال، والنحت في الصخور، والتماثيل، وخط المسند الحميري، وشق وتعبيد الطرقات، ونظم الري الممتدة لآلاف السنوات وارتياد البحار وخبرة الإتجار.
الصراع بين العمل المنتج والحروب المستدامة قديم، وكانت الصراعات والحروب هي أحد أهم أسباب تدهور وانهيار الحضارة والتمدن و قسوة الحياة في اليمن.
تخلف اليمن وتأخرها عن ركب الحضارة وعن تيارات الأنوار وانهيار كيانها المتكرر آتٍ من تفشي الصراعات، والحروب المستدامة والمتناسلة.
خاضت اليمن حروباً مريرة ضد الأتراك استمرت عشرات السنين، فكان نظام ما بعد الاستقلال أقل كفاءة وحضارة وتمدناً من الاحتلال التركي.
كان “الفتح” بكل ما تعنيه الكلمة من مفهوم إسلامي هو السبيل الوحيد لحكم المتوكلية اليمنية. في العام 61 تمرد بعض مشايخ خولان واتجهوا إلى “الجنوب” وتحديداً بيحان، وجرى خلاف بين قادة الأحرار: الزبيري والنعمان ومحمد عبد الله الفسيل وسنان أبو لحوم ومحسن العيني؛ ففي حين رأى الزبيري والعيني وسنان والفسيل ضرورة دعم تمرد خولان، وقف النعمان وشباب الأحرار إلى جانب إنشاء كلية بلقيس، والاتجاه للتعليم الحديث، وبناء الكادر الوطني المتعلم المؤهل والمدرب بدلاً من الانسياق وراء التمردات القبلية، وتشجيع الصراعات الدموية.
تغلب حينها رأي النعمان، ولعب طلاب وخريجو هذه الكلية دوراً في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر، وكان كادرها ضمن تيار بناء جهاز الدولة.
الحرب بين الجمهوريين و الملكيين عام 62 أعاقت برامج التنمية، وحدّت من انتشار وتوسع التعليم الحديث، بل أعاقت بناء الدولة العصرية والحديثة، وتحت ضغط الحرب وانخراط زعماء القبائل المجمهرة والقوى التقليدية، بما فيها “الإسلام السياسي”، جرى الحد من التعليم الحديث، والحفاظ على المواد الدينية السلفية ومنافستها للمواد العلمية والرياضية.
بعد استقلال الجنوب عام 67 جرى تحديث التعليم، ومحاولة توسيع نطاقه، ولكن شح الإمكانيات، والصراع على السلطة داخل الحكم، والقتال المتكرر بين الشمال والجنوب، والتركيز على العسكرة، عطل استقرار الحكم، وبناء تنمية حقيقية وتعليم حديث، وأودى بالتجربة برمتها إلى النهاية، إلا أنه تبقى تجربة التعليم في الجنوب، ومحاولات القضاء على الأمية، من أهم التجارب العربية.
قبل أسبوع، كتبت وزيرة الثقافة السابقة، أروى عثمان، مقالاً عن الحسم المعرفي، وبديهي أن الصراع دائر منذ منتصف القرن الماضي بين نهجي خيارين: الحسم العسكري، أو الحسم المعرفي، وللأسف فإن مسلسل الحسم العسكري متناسل ومستدام كشكل من أشكال الثأر القبلي والجهوي المرتدي لبوس الوطنية والجهوية والطائفية، وكلها في العمق ثأر قبلي.
بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967، سُلمت التربية والتعليم للاتجاه الإسلامي، تحت ضغط العربية السعودية، وقد حُذفت المواد العلمية والرياضية، وكُثفت المواد الدينية السلفية والتقليدية. وتشير دراسة مستفيضة للباحث حسن شكري عن المناهج التربوية والمعاهد “العلمية ” في الجمهورية العربية اليمنية، إلى مدى ارتباطها بنظام “الفتوة” في مصر الخاص بـ”الإخوان المسلمين” هناك، والذي طبق حرفياً في الجمهورية العربية اليمنية بموجب قانون آت من النظام المشار إليه. ولم تتوحد المناهج التربوية في اليمن إلا بعد الوحدة في الـ22 من مايو 90، وإن ظلت جامعة الإيمان التي تضم الآلاف من العديد من البلدان الإسلامية مركزاً للتعليم السلفي التقليدي، وقد بسط الإسلام السياسي هيمنته على التعليم في مختلف المستويات حتى بعد قيام الوحدة.
سلطة الأمر الواقع الآن تحاول أن تفرض سياسة ومنهجاً وأدلجة مغايرة للمنهج الإخواني، لن تكون أفضل من التعليم الإخونجي الذي ساد خلال العقود الماضية. الخطر الذي يتهدد التعليم الآن خطران: العسكرة، واحتراب البلاد، والرهان على الحسم العسكري لدى الأطراف المتصارعة، وخطر توظيف التعليم والمناهج التربوية في معارك القبائل والمذاهب والأحزاب والمليشيات.
التعليم السلفي التقليدي زيدياً كان أو وهابياً موظف سياسياً وأيديولوجياً لهيمنة تيار “الإسلام السياسي” المتحالف مع القوى المشيخية القبلية التي أعاقت بناء الدولة، وحاربت التعليم الحديث، وغيبت المواد العلمية، ومنعت التمثيل والإختلاط، وحافظت على أمية البنية القبلية، لتظل مرتهنة للداعي القبلي، ولحكم القوة والحسم العسكري، وكلها تمتح من بئر واحدة، وتجتر الصراعات الميتة في التاريخ الإسلامي.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا