كان يوم امس الاحد يوم التفجيرات الإرهابية في اكثر من عاصمة ومدينة شرق اوسطية، ابتداء من القاهرة، مرورا بعدن، وانتهاء باسطنبول، والهدف هو الانتقام، وزعزعة الاستقرار، وخلق حالة من الفوضى الدموية.
من الصعب التوقف عند تفجير واحد، فكلها خطيرة، وأوقعت خسائر مادية وبشرية ضخمة، لكن تفجير إسطنبول الانتحاري المزدوج الذي أوقع اكثر من 44 قتيلا واصابة ما يقرب من المئتين، معظمهم من شرطة مكافحة الشغب قرب بوابات نادي كرة القدم الأكثر شعبية في العاصمة التاريخية (بشيكتاش)، وبعد ساعة من انتهاء مباراة أقيمت على ارضه، هذا التفجير يختلف عن كل التفجيرات الأخرى، ليس بسبب ضخامة الخسائر، وانما لما ينطوي عليه من دلالات، ولما يمكن ان يؤشر اليه من نتائج متوقعة لتركيا وامنها واقتصادها، وربما المنطقة بأسرها.
تركيا تشهد حاليا بدايات السيناريو نفسه الذي واجهته سورية قبل ست سنوات، ان لم يكن اكثر كلفة، ومن المفارقة ان هذا التفجير وقع في وقت تقترب فيه معركة حلب من نهايتها، بعد انسحاب فصائل المعارضة السورية المسلحة المدعومة تركيا من معظم الاحياء التي كانوا يسيطرون عليها شرق المدينة، وبدأت أصابع الاتهام بالقصور والخذلان توجه الى الرئيس رجب طيب اردوغان الذي لم يتحرك مطلقا لإنقاذ حلفائه.
***
الرئيس التركي توعد بالانتقام ومطاردة الإرهابيين في كل مكان والقضاء عليهم، واجرى حملة اعتقالات شملت اكثر من 235 من أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، بعد اعلان منظمة مجهولة تدعى صقور “حرية كردستان” المسؤولية عن تفجير الامس.
تفجيرات إرهابية عديدة وقعت في الماضي في مدن تركية، وجرى توجيه أصابع الاتهام الى “الدولة الإسلامية” تارة، والى حزب العمال الكردستاني تارة اخرى، لكن الجديد في هذا التفجير الأخير انه الأول الذي يقع بعد تدخل قوات “درع الفرات” التركية التي توغلت في الأراضي السورية، واوشكت على الاستيلاء على مدينة الباب بعد ان احكمت سيطرتها على مدينة جرابلس.
الرئيس اردوغان بدأ يتبع العقيدة نفسها التي اتبعها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، أي الذهاب الى “الإرهابيين” وقتالهم في معاقلهم خارج الأراضي التركية حتى لا يصلوا الى عمقها، وهذا ما يفسر اقامته قاعدة عسكرية في بعشوقة قرب الموصل، تضم الفي ضابط وجندي ومعدات عسكرية، وأخرى في جرابلس والباب وثالثة في الصومال، ورابعة في قطر.
عملية التفجير الأخيرة في إسطنبول وما سبقها من عمليات مماثلة، تؤكد عدم نجاح هذه العقيدة في منع وصول التفجيرات الى قلب إسطنبول، وقبلها انقرة، وضرب صناعة السياحة، وتطفيش الاستثمارات الخارجية، ومنع وصول الجديد منها.
الاقتصاد التركي الذي يعتبر ازدهاره من اكبر إنجازات حزب العدالة والتنمية ورئيسه اردوغان على مدى الـ 13 عاما الماضية، بدأ يواجه ازمة مماثلة لازمة النظام المصري، عدوه اللدود، فنسبة النمو التي وصلت الى حوالي 10 بالمئة عام 2010 بدأت تتراجع الى اقل من ثلاثة في المئة حاليا، وفقدت الليرة التركية حوالي نصف قيمتها، ان لم يكن اكثر، وزاد الرئيس اردوغان من انخفاضها عندما طالب الاتراك بشراء الذهب كملاذ آمن في مواجهة هذا التدهور، ولكنه ادرك خطأه، وتراجع عن هذا الاقتراح، عندما طالب مواطنيه استبدال الليره التركية بما لديهم من عملات اجنبية مثل الدولار واليورو، وبادر بهذه الخطوة ليكون قدوة، واتفق مع روسيا ودول أخرى على اعتماد العملات المحلية كوسيلة للتبادل التجاري، وكبديل عن العملات الغربية.
الرئيس اردوغان الذي كان يطالب الرئيس السوري بالاستماع الى مطالب المعارضة في بلاده في بداية الازمة، ويحمله مسوؤلية الصدامات الدموية بسبب عدم الاستماع الى نصيحته، واللجوء الى الحلول الأمنية لمواجهة “الثورة” في بلاده، يكرر “الخطأ نفسه”، بطريقة او باخرى مع اعترافنا بالفوارق، ويستخدم القبضة الحديدية ضد المعارضة، حيث يواصل قصف قواعدها بالطائرات والصواريخ، ويعتقل قيادات احزابها، ويقمع الحريات، ويزج بعشرات الآلاف في السجون، وسيعزز قبضته الحديدية هذه بتعديل الدستور لتكريس النظام الجمهوري، وحصر كل الصلاحيات بيديه، وتكريس هيمنة الحزب الواحد والزعيم الأوحد.
***
عندما يرسل الرئيس التركي قوات للتغلغل في دول الجوار، ويقيم مناطق “آمنة” فيها، ويدعم المعارضة المسلحة، ويقصف قطاعا عريضا من أبنائها (الاكراد)، ويستخدم ورقة اللاجئين الاجانب كورقة ابتزاز لاوروبا، فإن عليه ان يتوقع مقاومة، واعمال انتقامية، وتفجيرات إرهابية، واحتمال انتقال “فيروس″ التقسيمات العرقية والطائفية الى العمق التركي عاجلا ام آجلا.
جميع التفجيرات الإرهابية التي تستهدف العمق التركي، تحصد أرواح الأبرياء، وتزعزع استقرار البلاد مدانة، دون أي نقاش، وغير المسموح مطلقا تبريرها، ولكن يجب انتقاد السياسات التي توفر لها الذرائع والأسباب دون أي تحفظ، وابرزها التوغل في دول ذات سيادة، واللجوء للحلول الأمنية وليس الحوار.
تركيا تخسر، وبشكل متسارع، اهم أعمدة استقرارها ورخائها الاقتصادي، ووحدتها الترابية، والديمغرافية، مثلما تخسر الكثير من الأصدقاء والحلفاء، وتكسب القليل من الأصدقاء ومن تبقى لها منهم لا يحظون بأي وزن سياسي او عسكري ويحتاجونها اكثر مما تحتاجهم، وصمتها عن ما جرى، ويجري في حلب من تصفية سياسية وجسدية لفصائل اسستها او دعمتها، ربما تكون الضربة، وليس الشعرة، التي قصمت ظهر البعير التركي، الذي كان يعتقد الكثيرون انه صلب وغير قابل للكسر.
كنا من ابرز المعجبين بالنموذج التركي في صيغته الأولى، أي “صفر مشاكل”، وطالبنا بالاقتداء به، ولكننا اكتشفنا، ونكتشف، كم ينهار هذا النموذج بسرعة قياسية، نقولها وفي الحلق مرارة.