تعز .. الفراغ الذي حول شبابها إلى طاقة مؤذية تتخاطفها فرق الجهاد من كل شق
يمنات
فكري قاسم
المذبح الأخير الذي تركه الإمام أحمد في تعز سُمّي، بفضل ثورة 26 سبتمبر العظيمة، “ميدان الشهداء”، وهو تلك المساحة المربعة التي شهدت قطع رؤوس المعارضين لحكمه البغيض آنذاك، حتى ذهب تاركاً خلفه ميداناً ترابياً مر منه خير سبتمبر، الذي استعاد لتعز مكانتها التاريخية، وجعل منها عصب اقتصاد اليمن الجمهوري كله، كما جعل منها أيضاً قبلة لكل اليمنيين التواقين للعلم وللتمدن وللثقافة، حتى استطاعت خلال خمسة عقود فقط من عمر الثورة المباركة أن تنفذ إلى كل زاوية من البلد، حاملة معها مشاعل التنوير والتمدن، ما جعل منها دلوعة المدائن وابنة الأكابر التي يخطب الجميع ودها، وإليها يحج الساسة والأدباء والمفكرون وعيال السوق كمان.
و كانت النسوة الصبريات القادمات من الجبل إلى أسواق المدينة، ينزلن إليها حاملات سلال الأجب، غير مكترثات وواثقات أيضًا من أن نظرات عيون المبتاعين الطويلة لن تكون أكثر من نزق عادي ينتهي بمجرد أن تزمجر إحداهن في وجههِ: “ياذا عيب عليك كل واحد معه عار”؛ فيما كان ميدان الشهداء المحاط بالأحياء الفقيرة بمثابة أم رؤوم لطاقات الشبان الذين يتدفقون اليه كما الجراد، فضلاً عما كانت عليه الملاعب الترابية من وفرة في حواري المدينة. وكان يوجد في المدينة لوحدها فقط 5 دور عروض سينما مفتوحة أبوابها للرجال وللنساء، وكانت فرقة المسرح الوطني لمكتب الثقافة تضم حتى عام 1986 قرابة 120عنصرًا نسائيًا لا يجرؤ أحد أن ينظر إليهن إلا بكونهن بنات ناس.
و كان شارع جمال أشبه بـ”وول ستريت” اليمن كلها، إذ كانت تزدحم فيه أرقى الوكالات العالمية، فيما كان فندق مأرب الذي يعتلي تبةً وسط المدينة يظهر من بعيد كما لو أنه فنار من حجر بني فاتح وأنيق، بينما كانت بيوت التجارة الموجودة فيها آنذاك تنظر إلى هونج كونج دون غبطة، وتتمتع في غالبية أدائها بحس مدني ومفعم بكثير من أخلاق العناية. لكن حرب اللئام الأخيرة سحبت دلوعة المدائن الفاتنة من شعر رأسها، وأعادتها مجدداً إلى المذبح الأول.
صحيح أن تعز أُجبرت على حمل السلاح، ولقد كان الأمر مستفزاً للغاية خصوصاً عندما تهرول إليها مجاميع من المبندقين المغرورين الذين هبطوها وفي ظنهم أن “المبنطلين” لقمة سائغة، دون أن يكون في معلومهم أن تعز، كسارة الرجال وجبارة الكسور، عصية على التطويع خارج منظومة القانون والدولة، ودون أن يكون في وعي رجالات تعز الكبار أن نعمة خمسة عقود من تلك المكانة والرفعة التي حظيت بها تعز الرائدة كانت لوحدها فقط كفيلة بأن تقي هذه المدينة الجميلة والمسالمة شر المآلات الصعبة والبشعة التي وصلت إليها مكرهة، بعد أن تم حشر طاقاتها الوفيرة والخلاقة في ميدان حرب لا أحد فيها بوسعه أن ينتصر على أحد.
على أن تعز في حقيقتها مش مجرد مدينة جميلة لأناس مسالمين يحبون الحياة فحسب. تعز مضخة بشرية هائلة لطاقات متنوعة ووفيرة، ولو أحسن استغلالها صح من قبل أي طرف كان، لكانت الآن مدينة السلام التي يلجأ إليها كل اليمنيين الهاربين من سعير الحرب، لكنها بفعل السفالات الكثيرة التي رافقت مسيرتها الحديثة تحولت مع الأسف الشديد إلى أرملة كسيرة تعيش بعورة مكشوفة، ويمكن لأي أحمق أن يختلي بها و يلهو بضفائرها كيفما يشاء، خصوصاً بعد أن تم تهشيم وتكسير غالبية مقوماتها كمدينة تعاضد عليها كل السفلة والطراطير، بما فيهم كبارات رؤوس المال فيها الذين لم يأخذوا من آبائهم الأوائل روح التمدن، فكانوا أول المباركين بإغلاق دور العروض السينمائية، وكانوا هم أنفسهم أكثر من دعم وبسخاء فرق الجهاد وخلطة العريس والحبة السوداء على حساب فرق الكورة وفرق المسرح وفرق الموسيقى، وتركوا طاقات الشبان الفقراء صيداً سهلاً للفراغ؛ الفراغ الذي تحول أثناء اندلاع الحرب إلى طاقة مؤذية تخاطفتها فرق الجهاد من كل شق. ولو كان مع كبارات رجال تعز ورؤوس المال فيها شوية ذمة وضمير على شويتين عقل، ما أصبح حال مدينتهم الوديعة اليوم على هذا النحو من الفلات والخراب اليومي المستتر تحت دواع بات أمرها مكشوفاً للجميع بما فيهم المتحاربون أنفسهم، وفي الأخير “جعل له مكسر ما كسر تعز”. قولوا آمين.
للاشتراك في قناة يمنات على التليجرام انقر هنا