محمد العبسي .. مدوّن مشهور وشاعر مغمور
يمنات
عبد الباري طاهر
قبل رحيله ببضعة أشهر أصدر محمد عبده العبسي ديوانه الشعري. لا أدري متى بدأ العبسي قرض القصيدة، وقصائد الديوان كلها، وإن تفاوتت في الجودة والأناقة، إلا أنها تُومي لنبوغ مبكر، وتحتاج قراءة تجربته الشعرية اللافتة، لكن الأهم مهارته في التحقيق الصحفي الاستقصائي، فخلال أعوام قليلة استطاع العبسي أن يكشف – أو فلنقل يفضح – مغارات وكهوف النهب والفساد في بلد في آخر سلم بلدان العالم قاطبة فقراً، بينما حكامه في طليعة ملاك المليارات والملايين، وينافس حكامه حكام البلدان الأكثر غنى.
سبق الصحفيان: عبد الله سعد الحميدي، وعبد الكريم الخيواني، رئيسا تحرير صحيفة “الشورى”، المدون البارع محمد عبده العبسي، اللافت أن الثلاثة اخترمت حياتهم في شرخ الشباب.
الأول: سعد رافق صالح في رحلة إلى حضرموت، وهو صحفي شجاع، و ناقد عنيد للفساد، والتغول، فقيل: إنه تردى من عمارة (قضاءً وقدراً).
أما الثاني: الخيواني من أشجع فاتحي الملفات الأشد خطورة (ملف التوريث)، وملف حروب صعدة الستة، وملف الفساد، وقد اُغتيل جهاراً نهاراً وسط العاصمة.
أما الصحفي المدون محمد عبده العبسي فباحث إعلامي، ومحقق استقصائي من طراز رفيع يستقصي منابع الفساد، وحصاد النهب، والسطو على المال العام، وتدمير الثروات الوطنية، وصفقات بيعها.
ترصد بتحر ودقة ثروات النافذين ومصادر الثراء، دقق في صفقات الغاز، والديزل والبترول، وما وراءها؟ ومن وراءها؟ ووثق بأمانة ودقة التلاعب في وضع الموازنات العامة بأرقام كاشفة، كما تتبع صفقات السلاح، والعبث في وزارة الدفاع والأمن.
تعرض المدون النشط والذكي للمضايقة والإغراء والتهديد؛ لكنه ظل يواصل مشواره الخطر بدأب ومثابرة ومهنية قلّ نظيرها.
الصحفي المكافح وهب وقته وحياته لتتبع الحالة العامة في اليمن. تعرض للتهديد بالقتل أكثر من مرة، فهو يتحدى “غِيلان الفساد” في أوكارهم.
النهب في اليمن متوحش؛ لأنه ينتزع اللقمة الكفاف من فم شعب فقير وجائع، وهو فساد عريان مدجج بالبداوة والسلاح، محكوم بقانون الغاب، ولا رقيب عليه ولا حسيب.
في عهود صالح ذي الثلاثة والثلاثين عاماً: كانت السمة الأغلب الطابع القبلي للسلطة، مما أكسب السلطات حصانة ضد المساءلة أو الالتزام بالنظام والقانون العدوان اللّدودان لهما.
يشير ماركس إلى الطبيعة المتوحشة للرأسمال، فعندما تتجاوز الأرباح الـ100% أو الـ200% أو الـ300% فإنه يصبح سهلاً وميسوراً على هؤلاء “اللصوص” القتل، نحن هنا لسنا إزاء نظرية فائض القيمة، وإنما إزاء نهب وسيلته الوحيدة القتل.
تسيدت مليشيات “أنصار الله” الموقف، واختبأ صالح وفريقه بفسادهما واستبدادهما وراء “أنصار الله”، تلاقح فساد النظام القديم بروح المليشيات العصبوية لـ”الأنصار”.
يشير صاحب كتاب “قراءة في تاريخ العنف في الشرق الأوسط”، حميد بوزارسلان، إلى أن المليشياوي ليس محارباً فحسب، وإنما هو فاعل مركزي في اقتصاد افتراسي، فكلفة الحرب باهظة بالفعل، كان على القوات وحدها أن تكرس 40 مليون دولار سنوياً رواتب مقاتليها وسلاحهم، وحتى ولو كان اقتصاد البلاد ينهار بسرعة، أو ربما لهذا السبب صارت الحرب منتجة للمداخيل، فقد كان نهب مرفأ بيروت يقدم ما بين مليار وملياري دولار، تضاف إليها مداخيل التهريب، وتجارة المخدرات والمضاربات المالية. تقول إليزابيث بيكار التي جاءت بهذه التقديرات: إن لبنان قد أصبح مختبراً مثيراً بسبب تنوع الردود التي ابتكرتها مختلف التنظيمات الميليشيوية، سواء في نمط سيطرتها على المجتمع واستخراج موارده، أو في اتصالها بأقطاب داعمة خارجية من دول أو أطراف عابرة للدول، وبالأخص في علاقاتها مع الدولة، ونمط وصولها إلى الموارد المادية والرمزية المتصلة بمؤسساتها.
يضيف: “على الرغم من استمرار المواجهات بين أفراد المليشيات إلا أنهم يكونون في كثير من الأحيان كارتيلاً متى وجب تأمين استمرارية موارد تمويلهم، وحسب فواز طرابلسي انقسم لبنان خلال الحرب إلى ما لا يقل عن عشرة مساحات معزولة ومعسكرة، بَيد أن قادة المليشيات كانوا يلتقون حول بعض الأهداف الاقتصادية، ويدلل باقتسام مجلس إدارة شركة طيران الشرق الأوسط، فقد التقت مليشيات جنبلاط وأمل، والقوات اللبنانية، والأحرار الوطنيين”.
في اليمن يتلاقح فساد الأطراف: الشرعية وصالح و”أنصار الله” يتقاتلون في كل شيء، وعلى كل شيء؛ ولكنهم يتفقون ويتوافقون على اقتسام الغنائم والفيد، وتكون الحرب مصدر رزق لا ينضب لكل هذه الأطراف، فالحرب تجارة لن تبور، وتصبح مصلحة الأطراف المليشاوية وكلها مليشيا استمرار الحرب، وإطالة أمدها؛ لاستمرار النهب والإثراء.
مقتل العبسي المدون الماهر ومئات وعشرات الآلاف يطرح سؤال: من المستفيد من إخماد أنفاس فاضحي الفساد والنهب وإسكات أصوات الاحتجاج المدني السلمي؟!
فالحرب أُمُّ الكبائر والجرائم كلها، لن تستمر وتطول إلا بالمزيد من التقتيل والتدمير والاغتيال وحتى التسميم؛ فالذين يتشاركون في قتل شعب لن يتورعوا عن أي شيء… أواه!
للاشتراك في قناة يمنات على التليجرام انقر هنا