ثورة 11 فبراير بعين جنوبية
يمنات
صلاح السقلدي
مثلت حالة اندلاع الثورات العربية الأخيرة التي عُـرفت بثورات “الربيع العربي” فرصة سانحة لكل القوى المناوئة لنظام الحكم في اليمن بقيادة الرئيس اليمني المنصرف، علي عبد الله صالح، لتحقيق أهدافها بالوصول إلى سدة الحكم والانقضاض على نظام حكم أضحى حينها خائر القوى موهون الحال مترنح الخطوات.
و انخرطت تلك القوى على اختلاف توجهاتها وتبايناتها السياسية والفكرية والأيديولوجية في تحالفات للضرورة، الغرض منها إسقاط ذلك النظام في ثورة مترابطة الصفوف والبنيان ولو شكلياً، على ما ظهرت في الأشهر الأولى لاندلاعها مطلع 2011م، وتحديداً يوم 11 فبراير. فلو نظرنا إلى كبرى القوى التي انخرطت في تلك الثورة، التي وئدت في مهدها، سنجد حزب “الإصلاح” في الطليعة، إلى جانب التيارات اليسارية وقوى الثورة الجنوبية التي كانت قد اندلعت قبل ذلك بسنوات، جنباً إلى جنب مع حركة “أنصار الله” التي خرجت لتوها في ذلك التاريخ من ست حروب ضروس مع قوات الجيش الذي يقوده علي عبد الله صالح.
ولأن الحيز لا يتسع لشرح كل أسباب تلك الثورة، ولا الأسباب التي أدت إلى إجهاضها، سنعرج بصورة عابرة على تلك العوامل؛ حيث ما يهمنا في هذه التناولة هو علاقة ثورة 11 فبراير بالثورة الجنوبية وقضيتها السياسية. فمركز ثقل ثورة التغيير، المتمثل بحزب “الإصلاح”، اتخذ من قضية الجنوب بوجه نظام صالح كلمة حق أريدت بها العودة إلى السلطة، ووسيلة ابتزاز سياسي لا غير. ثورة 11 فبراير اليمنية هي بلا شك ثورة شعبية بما للثورة الشعبية من معانٍ وتعاريف، وهذه حقيقة لا يختلف حولها اثنان. فيكفي أن نعلم أن أسباب الثورة في اليمن شمالاً متوافرة منذ عقود، وقد انتظر قطاع واسع من الشعب اليمني طويلاً تلك اللحظة، ووجد في انبلاج ثورة تونس، باكورة “الربيع العربي”، شعاع حرية قادم من الأفق أنار دربه – أو هكذا تبدت له الصورة في بداية الأمر – التقطته قوى وطنية يمنية مخلصة، قبل أن تلحق بقطارها قوى انتهازية المواقف، ديماغوجية الخطابات، بل والتحقت بها أيضاً قوى لطالما مثلت لعقود من الزمن رأس حربة للظلم والطغيان والفساد.
ولو افترضنا أن تلك الثورة فشلت كما يعتقد الكثيرون (أتفق مع القول إنها أخفقت في إحداث تغيير حقيقي بمنظومة الحكم، وعجزت عن عمل اختراق كبير بجدار سلطة الحكم الصلد)، إلا أنني أرى أن ثمة مكاسب قد حققتها، أهمها كسر حالة التهيب والخوف الذي استبد بالنخب السياسية والاجتماعية والقبلية الدينية لعقود طويلة، حيث أصبح الجميع تقريباً، منذ ذلك التاريخ، بمقدوره أن يقول لا، من دون أن يخشى البطش السياسي والديني القبلي المعتاد، وهذا في تقديري أهم مكاسب الثورات حين يصل تأثيرها الإيجابي إلى صميم النفوس وأعماق القلوب المرعوبة. ومع ذلك، سنعرج على أهم عوامل فشل تلك الثورة:
1 – الأدوات التي استُخدمت في عملية جراحية كبيرة كعملية ثورة اليمن الأخيرة كانت أدوات متسخة وملوثة، بل وأدوات من ذات العلة نفسها، فلا غرو إذاً إن كانت نهاية تلك الثورة على تلك الشاكلة التي انتهت اليها؛ فحين يتعمد المرء قطف الثمرة قبل نضجها لا يمكن أن تكون إلا مرّة الطعم، قميئة المذاق، وكذلك هي الثورات.
2 – نسبة كبيرة من القوى الملتحقة بالثورة، وخصوصاً تلك التي خرجت لتوها من كنف السلطة إلى الساحات، لم يكن لديها القناعة والإرادة الثورية الحقيقية لإجراء تغيير جذري في منظومة حكم فاسدة متهالكة، بل لعبت دور الثائر المنتحل لعمل تشويش في درب الثورة والانقضاض عليها في الوقت المناسب. وهذا ما حدث بالفعل في ما بعد؛ فقد كانت ترى أن العمر الإفتراضي لنظام حكم هي جزء منه قد انتهى، ولا بد من إعادة إنتاجه ليواكب المتغيرات المحيطة به، قبل العودة إلى الحكم لمشاركة الأخ العدو، مرة ثانية، في أمور السلطة والحكم.
3 – التدخل السعودي: فقد مثل العامل الحاسم في إجهاض تلك الثورة؛ فالهاجس الإخواني بالنسبة للحسابات السعودية كان له مفعول السحر في تغيير مجرى الثورة. إذ إن سقوط مصر لتوها بيد حركة “الإخوان”، الخصم اللدود للفكر الوهابي السعودي، والخوف من سقوط اليمن البوابة الجنوبية للمملكة بيد حزب “الإصلاح” المحسوب أيديولوجياً على هذه الحركة الدولية، جعل الرياض ترمي بكل ثقلها لكبح جماح ثورة وليدة.
وبالعودة إلى تأثير تلك الثورة وتأثرها بثورة الجنوب (الحراك الجنوبي) والعلاقة بينهما، فقد مثلت القضية الجنوبية بالنسبة لقوى ثورة التغيير في صنعاء ورقة ضغط فاعلة بوجه نظام الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، طيلة شهور الثورة (الأزمة ). وتماهى خطاب قوى ثورة التغيير، وحزب “الإصلاح” على وجه الخصوص، إلى درجة كبيرة مع الخطاب الجنوبي التحرري، ليس قناعة بمضمون ذلك الخطاب، فهذا مستحيل عقلاً ومنطقاً، ولا نصرة له، بل لابتزاز سلطة صالح وتركيعها إلى أقصى درجة ممكنة، وفي الوقت نفسه استمالة القوة الجنوبية إلى جانبها لإفراغ مشروعها وخطابها السياسيين من مضمونهما التحرري ناهيك عن الحقوقي المطلبي.
وما إن انقشع غبار الثورة في صنعاء، وانخرطت قوى الثورة هناك في تسوية سياسية تحت تأثير مفعول الريال السعودي، سرعان ما أدارت تلك القوى ظهرها للمطالب الجنوبية، وقلبت ظهر مجنها بوجه كل الوعود التي قطعتها للجنوبيين الذين انجرف جزء كبير منهم بنية صادقة في نصرة تلك الثورة، للوصول بالتالي إلى دعم ومساندة قوى صنعاء من منطق لعل وعسى، ولكن خابت الآمال الجنوبية من اليوم الأول لتقاسم مكاسب ومناصب الحكم والسلطة في تسوية سياسية شهيرة انبثقت من رحم المبادرة الخليجية، التي هي الأخرى تجاهلت القضية الجنوبية تماماً. ودارت عجلة أحداث السياسة في صنعاء، وشرعت أطراف الثورة والسلطة هناك في حواراتها، وتم استبعاد الجنوب منها مرة أخرى بصورة فجة. وجرت في النهر مياه كثيرة منذ ذلك التاريخ حتى الساعة، من خلال أحداث دراماتيكية متسارعة سقطت على إثرها صنعاء بيد جماعة الحوثيين (أنصار الله)، بعد أن تمكنت تلك الحركة بصورة غريبة من تفكيك مفاصل أعتى القبائل اليمنية تماسكاً وسطوة وغلبة (قبيلة حاشد)، لتجد الكثير من القوى اليمنية نفسها “شذر مذر” في الداخل والخارج، وتتدخل السعودية بقضها وقضيضها وبدعم أمريكي بحرب شاملة في اليمن، لقطع الطريق على ما يعتقد أنه نفوذ ايراني متعاظم في اليمن، ليجد الجنوب وحراكه الثوري نفسه مرة أخرى في تحالف جديد مع حزب “الإصلاح” المتحالف هو الآخر لتوه مع السعودية، التي من المفارقات السياسية قد صنفت حركة “الإخوان” حركة إرهابية، ولسان حال الجنوب يردد قول الشاعر:
مِن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بدُ.
وبنفس الخطاب الديماغوجي الإنتهازي، تعامل وما زال حزب “الإصلاح” مع الطرف الجنوبي حتى في غمرة سير المعارك. بيد أن الأمر هذه المرة لم يعد كما كان عام 2011م من السذاجة والضعف، فقد فطن الجنوبيون لمخادعة ومخاتلة حزب “الإصلاح”. وستبدي لنا الأيام ما كنا نجهله.
للاشتراك في قناة يمنات على التليجرام انقر هنا