أمريكا وأنظمة الإستبداد والتآمر العربية
يمنات
صلاح السقلدي
المخطط الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ودولة إسرائيل وبعض الدول العربية الثرية منذ مطلع القرن الحالي، وبالتحديد منذ احتلال العراق مطلع عام 2003م، لإعادة تقسيم الوطن العربي والشرق الأوسط كله وفقاً للمشروع الأمريكي الصهيوني المعروف بالشرق الأوسط الجديد على أسس عرقية وطائفية، والذي تستهدف من ورائه الهيمنة على المنطقة ونهب ثرواتها وإخضاع قرارها السياسي، يبدو أنه يمضي قُدماً بخطواته، دون الحاجة إلى مبررات وأغطية سياسية وأخلاقية، وإن كانت سطحية وساذجة ومتناقضة مع ذاتها، تتقمص من خلالها هذه الدول بعض الأحيان مسوح التقاة والوعاظ فيما أيادي وأنياب حكامها تقطر دماً ونفطاً، وتتخذ في أحيان أخرى من استبداد بعض الحكام العرب كلمة حق يراد بها باطل، وذلك حين ترى أن هؤلاء الحكام أصبحوا عبئاً ثقيلاً عليها وجب التخلص منهم.
ففي حين كان نظام صدام حسين يضرب بغاز الخردل في حرب الخليج الأولى، ويفعل الشيء ذاته وأشد ضد الأكراد، وفي منطقة حلبجة وغيرها من المناطق العراقية بالأسلحة الكيماوية نهاية سبعينات ومطلع ثمانينات القرن الماضي، كانت علاقات الولايات المتحدة (وبالذات في فترة وزير دفاعها دونالد رامسفيلد) ودول الخليج بذلك النظام في أحسن حالتها، ولم يرف لها جفنٌ ولم تهتز لها قصبة من أعماله الفظيعة في ذلك الوقت، كما تحاول اليوم أن تظهر به في سوريا. ولم تتحدث مجرد الحديث عن إسقاطه – أي الرئيس الراحل صدام – من الحكم، ولكن حين اقترب من منابع النفط ونفوذ واشنطن في الخليج، وشكّل تهديداً مباشراً لعروش أنظمة الحكم التابعة لها في 2 أغسطس 1990م، وأعلن قبل ذلك جهاراً في القمة العربية التي عُقدت في بغداد مطلع ذلك العام عن استعداده لإحراق نصف إسرائيل بالأسلحة الكيماوية. حينها، قررت هذه الدول انطلاق بداية إسقاط صدام وحزب البعث، بدءاً من استدراجه إلى احتلال الكويت، وصولاً إلى إسقاط تمثاله في وسط بغداد عبر اجتياح عسكري انطلق من أراضي السعودية والكويت، ولم يتوقف حتى بعد أن اطمأنت واشنطن وحلفاؤها في المنطقة إلى أن دولة العراق قد سقطت كدولة ومؤسسات، وليس فقط حزب البعث وسلطة الحكم والحرس الجمهوري.
أمريكا التي ارتكبت أكبر جريمة في التاريخ بالأسلحة النووية في هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، تنصّب اليوم نفسها قاضياً ومحققاً على الساحة الدولية. أمريكا التي اعترفت لتوها في شهر مارس الماضي بقتلها 400 شخص جُلّهم من الأطفال والنساء – وإن كان المرصد العراقي قال إنه خلال عدة أيام فقط انتشلت فرق الدفاع المدني ومعها الأهالي أكثر من 500 جثة – ومثلهم المئات في أفغانستان وباكستان وسورية، كما جرى في قرية الجينة قرب بلدة الأتارب في الجزء الغربي من محافظة حلب السورية، حيث أسفر القصف عن مقتل 49 شخصاً على الأقل وإصابة عشرات أغلبهم مدنيون كانوا يحضرون درساً دينياً، هذا فضلاً عن ما قتلته الطائرات التركية من مدنيين في الدولة نفسها، أمريكا التي لم تتورع عن قصف أهداف في سوريا بذريعة الكيماوي، واستبقت أي تحقيق دولي بجريمة استخدام الكيماوي بحق الضحايا الأبرياء في خان شيخون بسوريا .. هي ذاتها أمريكا التي اعترف بعض مسؤوليها بخطأ إدارتها بعد ساعات من قصفها للسودان بذريعة مصنع كيماوي.
هي اليوم لا تريد أن تنصف مظلوماً أو تقتص من ظالم، بل تخشى أن تظهر النتيجة مغايرة لما تخطط له، لذا سابقت إلى إسقاط أي تحقيق دولي محايد، وضربت ضربتها في مطار الشعيرات السوري بـ60 صاروخ «توماهوك»، مستهدفة من ذلك القصف، إلى جانب إضعاف الجيش السوري، أكثر من هدف ومغزى، منها أولاً: إنعاش المعنويات المنهارة للجماعات الإرهابية التي دخلت في حالة يأس بعد سلسلة الهزائم في المعارك الأخيرة، خصوصاً معركة حلب. ثانياً: الرد على الضغوطات التي تتعرض لها إدارة ترامب من قبل أصوات متشددة داخلها تطالبها بعدم التقارب مع موسكو، وتلبية مطالب شركائها، إسرائيل والعرب خصوم دمشق، وقد كان ذلك واضحاً من خلال ردود الفعل المبتهجة بالضربة في الخليج وتل أبيب. وثالثاً: بعث رسالة قوية لكل من كوريا الشمالية والصين مفادها بأن واشنطن تنوي التعامل بحزم وقوة مع من يقف في طريقها.
إذن، فمخطط أمريكا وإسرائيل وحلفائهما في المنطقة في تقسيم الشرق الأوسط ينفذ في جزء كبير منه بأيادٍ عربية شرق أوسطية. فالمملكة العربية السعودية التي تتخذ منها أمريكا رأس حربة لتمرير هذا المشروع تختلق المبررات بحسب الزمان والمكان الملائمين، عند كل خطوة يتم فيها إسقاط دولة عربية في هوة الضياع والتمزيق والفتن. فهي اليوم تعزف على الوتر الطائفي وتؤجج نيرانه في سوريا وغير سوريا. تقول إن تدخلها وتأييدها لضرب سوريا نابع من «طائفية» نظام بشار وموالاته لـ«إيران الشيعية» وقطعاً للتدخل الايراني في المنطقة، وهي التي فتحت أراضيها وأجواءها لضرب العراق وإسقاط النظام العراقي هناك، مع أن النظام في بغداد كان حينها في أشد حالات الخصومة مع إيران، وكان خارجاً لتوه من حرب ضروس مع طهران. فلما لم تكن حينها ذريعة الطائفية تجدي نفعاً، ولم تكن قد تخمّرت بعد كما هي اليوم، فقد كان من الضرورة بمكان البحث عن ذريعة ملائمة لضرب بغداد وإسقاط العراق، ليس فقط كنظام وسلطة، بل كدولة ومؤسسات، وقد كان من بين تلك الذرائع، بالإضافة إلى الكيماوي، كون النظام العراقي «كافراً بالإجماع يريد استهدف بلاد الحرمين»، كما صدر عن المؤسسة الدينية في الرياض، تماماً كما تعاملت مع الرئيس الراحل عبد الناصر حين اعتبرته «كافراً بالإجماع»، بحسب بيان صدر بالبنط العريض في صحيفة «عكاظ» في ذروة خلافها معه على خلفية الصراع في اليمن في ستينات القرن العشرين.
في ذلك الوقت، أي وقت الخلاف الخليجي العراقي، كان النظام السوري بقيادة حافظ الأسد يمثل حليفاً مقرباً من الرياض، ولم يكن قد أصبح ذلك «النظام الموالي للروافض والمجوس»، حين طلبت منه المملكة المشاركة بجيشه في عملية تحرير الكويت وقد فعل ذلك وشارك في التحرير، بل وبلغ التحالف الخليجي السوري مبلغه في الإطار السياسي والعسكري بينهما، والمسمى بــ«إعلان دمشق للتعاون والتنسيق»، الذي تأسس في 15 فبراير 1991م، لتكون فيه القوات المسلحة المصرية والسورية نواة لقوة حفظ سلام عربية، بعد انتهاء تحرير الكويت وخروج القوات الدولية من المنطقة على افتراض أن ثمة انسحاباً غربياً سيتم من الخليج.
في حالة إسقاط ليبيا الدولة وليس فقط نظام القذافي وأركان حكمه، فقد تم تنفيذ المخطط هناك كنسخة متطابقة تقريباً من نسخة إسقاط العراق كدولة، واستخدم القذافي كصدام جديد. بل وحتى موضوع الكيماوي كان حاضراً في الحالة الليبية أيضاً، وقد استُخدم لتركيع هذه الدولة التي ابتليت كما ابتليت كل الشعوب العربية بحاكم غبي فاسد اسمه، معمر القذافي، الذي كان قد أعلن للعالم في ديسمبر 2003م عن انتهائه من تدمير أسلحته الكيماوية وبشهادة أمريكا والوكالة الدولية للطاقة الذرية نفسها، ومع ذلك لم يشفع له ولشعبه أن يبقى موحد النسيج بعيداً عن دائرة الفتنة والتشظي، ومحتفظاً بثرواته، لأن المطلوب ليس الكيماوي ولا رأس القذافي نفسه ولا حتى النظام فقط، بل المطلوب هو رأس ليبيا حياً أو ميتاً، قد كان لهم ما أرادوا.
لا مجال للجدال بأن هذه الأنظمة في سوريا والعراق والسودان واليمن وليبيا وغيرها من أنظمة الحكم العربية التي سقطت والتي ما يزال بعضها قائماً هي أنظمة مستبدة فاسدة، تستحق أن تثور الشعوب بوجهها وترميها في قرارة النسيان من قبل عام 2011م بعقود، ولا اعتراض على ذلك لدى كل ذي عقل سوي منصف، ولكن يبقى الإعتراض وبقوة هو على أن تتخذ أمريكا وحلفاؤها من العرب والعجم من هذه الأنظمة ذريعة كحصان طروادة للنفاد من خلاله إلى الداخل العربي لتدميره وتمزيقه، ولإسقاط الدول كدول ومؤسسات، وإدخال شعوبها في دوامات الضياع والتمزق والفتن الطائفية والعرقية والمذهبية والجهوية، ليتسنى بالتالي نهب مقدراتها والسيطرة على منافذها وإخضاعها بسهولة وبأقل التكاليف.
لماذا نقول إن أمريكا وحلفاءها لم ولن يسقطوا هؤلاء الحكام المستبدين انتصاراً وإنصافاً لهذه الشعوب المقهورة؟ لأن أمريكا وحلفاءها هم بالأساس من صنع ويصنع ويحمي هذه الأنظمة المستبدة الفاسدة، ليتاح لها ولحلفائها أن تعمل ما تريده بمقدرات هذه الشعوب. وحتى حين تتخلى عنهم فهي لا تفعل ذلك إلا لتأتي بمن هم أسوأ منهم، وتستغل إسقاطهم لمآرب استعمارية تسلطية. وإن لم تجد في ذلك سبيلاً، فهي تسقط الدولة كاملة اعتقاداً منها أن ذلك سيمكنها في ما بعد من تطويع العجينة العربية بقالب شرق أوسطي جديد.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا