حين يصبح الصمت تخاذلاً وخيانة
يمنات
صلاح السقلدي
ما يجري في محافظة عدن وباقي محافظات الجنوب من مشاحنات وتباينات حادة بين الحين والآخر بين المكونات العسكرية والأمنية، بما فيها تلك المليشيات وكتائب الإسلام السياسي (بشقيه الإخواني والسلفي الجهادي) المتطرفة، كانعكاس لتباينات المشاريع السياسية التي تعصف بالجنوب، هو أمر متوقع حدوثه منذ بداية الحرب الأخيرة في مارس آذار 2015م، على الأقل عند كثير من المراقبين الذين يرصدون الطرق والوسائل والأدوات التي تمت وتتم بها عملية تشكيل هذه المسميات الأمنية والعسكرية والفكرية، فضلاً عن الأهداف الغامضة التي شكّلت من أجلها.
و بالتالي يمكن القول إنه ليس من الغريب أن تؤول الأمور إلى هذا الوضع الضبابي المقلق الذي ظللنا وما زلنا نحذر منه منذ عامين، بل كان سيكون الغريب هو إن لم يحدث هذا الوضع كما كنا نأمل.
فطرق ووسائل إنشاء هذه المكونات الأمنية والعسكرية التي تأخذ لها لوحة فسيفساء متداخلة داكنة المعالم، تكفي لتجعل المرء، الحريص على مستقبل هذا الوطن وأمنه، أن يشعر بالتوجّس والريبة حيالها وحيال مآرب من صنعها منذ الوهلة الأولى وحتى هذه اللحظة. فألوية الحراسة الرئاسية يغلب عليها عناصر من محافظة بعينها، وكثير من عناصر قوات «الحزام الأمني» من منطقة واحدة تقريباً. وعناصر وأفراد وضباط الأمن العام ينتمي معظمهم لمحافظة محددة. وقوات «نُخبة» أمنية عسكرية تأخذ لها تسمية جهوية خالصة، و«كتائب فلان» تنمّ بطريقة صريحة عن تسمية عقائدية وغرض طائفي لا لبس فيه. و«لواء علّان» توحي هيئة لباس أفراده وتصريحات قادته ومفردات أحاديثه عن نزعة طائفية بحسب رغبات جهات خارجية لا علاقة لها بالجنوب ولا بالقضية الجنوبية، ولا حتى باليمن الذي قالت دول «التحالف» الخليجي إنها أتت بقضها وقضيضها لتحمي وحدته وأرضه وعرضه ودينه وسنّة نبيه من الخطر «المجوسي الرافضي»!
فمعيار وشروط اختيار كثير من عناصر هذه المكونات اعتمد على الإنتماءات الجهوية والقبلية والنزوع الأيديولوجي الديني والفكري الطائفي، ليسهل بالتالي التحكّم عن بُعد مالياً وفكرياً بها كأفراد وجماعات، إنفاذاً لمخططات سياسية وطائفية ومطامع اقتصادية وجغرافية، بالوقت المناسب وعند كل أزمة تأزم وملمّة تلمّ، وعند كل صراع وتصفية حسابات يمنية وإقليمية قد تنشأ مستقبلاً من خلال إحياء الخلافات الجنوبية الجنوبية القديمة، وإذكاء نيرانها من جديد لتمرير مشاريع هذه الجهات الداخلية والخارجية، والجنوب وأمنه ومستقبله السياسي هو الضحية، وهو في الوقت الذي هو فيه المجني عليه، فهو جانٍ، كون الأدوات والوسائل جنوبية المنشأ والهوية وإن كانت تُدار من خلف الحجب من جهات غير جنوبية، إقليمية ويمنية، بل ودولية.
يأتي كل هذا التعاطي المدمّر مع الوضع الأمني في الجنوب متسقاً تماماً مع استمرار تجاهل ومحاربة المؤسستين الأمنية والعسكرية الجنوبيتين وكوادرهما، أو قل ما تبقى منهما منذ عام 94م وهو عام الحرب على الوحدة والجنوب، وبالذات الكوادر الأمنية، وتغييب متعمّد لدور مراكز الشُرط التي كانت حجر الزاوية في مدماك أمن الجنوب حتى عام 90م، وتغييب الدوائر الأمنية المختلفة الأخرى من قبل تلك الجهات الواقعة تحت تأثير «فوبيا شيوعية دولة جمهورية اليمن الديمقراطية»، علاوة على استمرار تغييب دور الجهاز القضائي بعد أكثر من عامين بشكل يثير معه أكثر من علامة استفهام، ويعمل على عرقلة أي نجاحات أمنية، كون الأمن مؤسسة ضبطية قضائية لها عمل تكاملي مع باقي مؤسسات القضاء الأخرى، وبالذات النيابات العامة، خشية من تفعيل دوره ولو بالحد الأدنى لعملها، حتى لا ينكشف المستور على الفضائح والبلاوي التي تقوم بها جهات محلية، سياسية وحزبية، وبالذات الدور المريب لحكومة الرئيس هادي ومسؤوليها المتورط كثير منهم بتهم الإرهاب والفساد المالي وتثبيط أي نجاحات أمنية، علاوة على ما قد يتم من كشف المستور للدور السلبي لدول الجوار، وبالذات فيما يتعلق بعلاقة بعض دوائرها ورموزها الدينية المتطرفة بدعم وتستر على كثير من أنشطة وعمليات الجماعات المتطرفة بالجنوب، وفي عدن تحديداً.
فما زال يتذكر الناس في هذه المدينة إعلان السلطات الأمنية وإعلام دول «التحالف»، وبالذات الإماراتي والسعودي، عن القبض على العناصر الإرهابية الضالعة بقتل العديد من الرموز في المحافظة، مدنيين وعسكريين وأمنيين، ومنهم على سبيل المثال محافظ عدن السابق، المرحوم اللواء جعفر محمد سعد، حين قيل إن بعض هذه العناصر الإرهابية تم ترحيلها إلى إحدى دول «التحالف»، ومن حينها ما زال هذا الملف (مقتل المحافظ جعفر سعد) كغيره من الملفات يلفه الغموض ويكتنفه التوجس والغرابة!
خلاصة: لا شك أن هذه التناولة لهذا الموضوع لم تكن هي الأولى لكاتب هذه السطور، وقد سبقتها الكثير من المقالات والمنشورات والكتابات – على بساطتها وتواضعها – ومع ذلك سنظل نكررها باستمرار ما بقيت أسبابه قائمة وضرره قائماً ومتوقع الحدوث. فالصمت حيال أمور خطيرة، كخطر العبث بأمن الناس وأرواحهم وقضاياهم الوطنية المصيرية، ضربٌ من ضروب التخاذل بل والخيانة والارتزاق. فالمرء حيث يضع نفسه.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا