الطغيان يضعف روح المقاومة الوطنية للغزاة
يمنات
عبد الباري طاهر
حسناً فعل الأستاذ الباحث، حسين الوادعي، في نقده لمقولة «الطغاة يجلبون الغزاة»، والاحتراس في نسبتها لابن خلدون. يبقى الأمر المهم مناقشة المقولة بغض النظر عن قائلها، وهو مبدأ نقدي أخذت به الإتجاهات الأكثر حداثة حتى وصلت به تخوم «موت المؤلف». تناول الأستاذ حسين «المقولة» ناقداً، فنَقد المفاهيم والمصطلحات وحتى التعابير الجاهزة والمتداولة والألفاظ صائب وصحي. يرى أن التاريخ على عكس المقولة؛ «فالقوى العظمى دعمت المستبدين، وكانت ولا تزال ترى أن الدكتاتور القوي أقدر على حماية مصالحهم، وضمان استقرار بلده»، و«الغزاة يهاجمون الأنظمة التحررية لا أنظمة الطغيان»، ويضرب لذلك أمثال: الليندي في تشيلي، ومصدق في إيران، ودبتشك في يوغسلافيا.
في البدء أود الإشارة إلى أن الزميل حسين الوادعي باحث دقيق وعميق، وناقد مسلح بوعي علمي. وفي نقده كأي باحث ما يُتفق ويُختلف معه فيه. لفتتني إشارته إلى أن القوى العظمى دعمت المستبدين والطغيان. ففي العبارة تعميم يرد على تعميم، فضلاً عن أن عبارته تحصر مهاجمة المستعمرين للأنظمة التحررية، وذلك بإضافة «لا النافية»، مع أن في حوادث التاريخ ما ينفي هذا التعميم وهو ما حصل في العراق. إذن فالأمر في الحالين ليس على إطلاقه.
العبارة المنسوبة لابن خلدون ترتكز على من يجلبون الغزاة. وبالرجوع إلى لسان العرب فإن «جلب» تتضمن معنى الطلب، أي أن الطغاة الصغار في التاريخ، وبالأخص العربي وتحديداً اليمني، ومنذ فجر التاريخ مروراً بالعصر الوسيط وحتى اللحظة الراهنة، يستدعون الغزاة طالبين نجدتهم. قصة الغزو الروماني، الفارسي، الحبشي، الأيوبي التركي المتكرر… كلها طلب تدخل، والتاريخ زاخر بالأمثلة والشواهد.
يذكر الجندي في تاريخه «السلوك» سبب دفع توران شاه الأيوبي لغزو اليمن، وهو: أن رجلاً من أهل اليمن، يقال له ابن النساخ، وكان فقيهاً فاضلاً، كتب رسالة بليغة إلى الخليفة ببغداد يشكو فيها من ابن مهدي، ويذكر قبح سيرته، وسوء عقيدته، وكتب مع الرسالة قصيدة طويلة… فلما بلغت الرسالة إلى الخليفة كتب إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأمره أن يجهز عسكراً إلى اليمن فوجه أخاه.
وكارثة اجتياح المغول عاصمة دولة الخلافة الإسلامية في بغداد ليست بعيدة عن الجلب، سواء فهمناه بمعنى الطلب أو بمعنى الصراعات الداخلية الناخرة في الجسد والمهيأة لقابلية الغزو، وقراءة غزو عاصمة الخلافة الإسلامية عام 656 هـ / 1258م تؤكد ذلك.
وفي التاريخ اليمني، نماذج كثيرة. ففي العهد الحميري، ذهب إلى قيصر الروم زعيم يمني يدعى «أبا مرة الفياض»، يطلب نجدته لمواجهة الأحباش. وتبعه البطل الأسطوري سيف بن ذي يزن، والقصة سيرة شعبية.
والصراع العربي العربي من أهم أسباب انتصار إسرائيل في غزواتها المتكررة والقائمة حتى اليوم. جَلَب بمعنى طَلَب واستدعى هي معنى أساسي في المعاجم وفي اللسان العربي حتى اليوم. والجلب بمعنى وجود مناخات خلق قابلية التدخل أيضاً قائمة قديماً وحديثاً. حالة العراق وسوريا وليبيا شواهد مفجعة، وهو ما يطلق عليه مالك بن نبي «قابلية الإستعمار». ثم علينا التمييز ما بين المراحل التاريخية المختلفة ونشأة ظاهرة الإستعمار: القديم والحديث والعولمة حالياً، كقابلية الجسم الضعيف للداء.
ثم إن هذه الجملة الخبرية التي تضمنتها العبارة لم تركب على صيغة الحصر والقصر، فهي تفيد بمنطوقها أن الطغاة يجلبون الغزاة لكنها لا تنفي بمفهومها أن غيرهم قد يجلب الغزاة. وفي الأساليب العربية قد يطلق العام ويقصد به الخاص، والشافعي يقول ما من عام إلا وقد خصص. ثم إن الأصوليين القائلين بالعموم اختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام، فقال قوم هو للاستغراق، وقال قوم هو لأقل الجمع (اثنين أو ثلاثة)، ولا يحمل على الإستغراق إلا بدليل.
يقول الآمدي في كتابه «الأحكام» أثناء كلامه عن القائلين بالعموم وتخصيصه، في الغاية التي يقع إليها انتهاء التخصيص: «إحتج من جوز الإنتهاء في التخصيص إلى الواحد بالنص، والاطلاق، والمعنى. أما النص فقوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون» وأراد به نفسه وحده. وأما الإطلاق فقول عمر بن الخطاب، لسعد بن أبي وقاص، وقد أنفذ إليه القعقاع مع ألف فارس: قد أنفذت إليك ألفي رجل. أطلق اسم الألف الأخرى، وأراد بها القعقاع».
وقال الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» على قوله تعالى: «ثم أفيضوا» أمر عام لكل الناس، وقوله: «من حيث أفاض الناس» المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات… وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدي به، وهو كقوله تعالى: «الذين قال لهم الناس» [ آل عمران: 173 ] يعني نعيم بن مسعود، «إن الناس قد جمعوا لكم» [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور.
إذن، فعندما يقال: الطغاة يجلبون الغزاة، فهذه الجملة الإسمية تكون صادقة لو توفرت لها حالة واحدة في التاريخ، فكيف والحالة تتناول العشرات – إن لم نقل المئات – من الحالات، وهي لا تنفي أيضاً أن الغزاة قد يأتون بدون جلب الطغاة أو حتى وجودهم؛ فبريطانيا لم تغز الهند بإذن أبنائها أو طلب موافقتهم، واحتلالها عدن لم يكن برضا أو طلب من أحد، وكل الإستعمار القديم والحديث ليس برضاها أو اختيارها – كما أشرتم – ولكن ذلك ليس متضمناً في القول «الطغاة يجلبون الغزاة». ولكن التاريخ والوقائع تؤكد وجود غزو منذ القرن السادس عشر عمّ القارات الخمس. وهناك أيضاً حالات كثيرة أدى فيها الصراع الداخلي وتنافس الزعامات إلى جذب التدخل الأجنبي وإغرائه. وصراعات الوطن العربي بعامة واليمن بخاصة حاضرة. وهناك أيضاً حالات أقل يتم فيها طلب التدخل، والعدوان الثلاثيني في العراق كان باستدعاء وتمويل ومشاركة العديد من البلاد العربية، ولكنه أيضاً كان بسبب اجتياح العراق للكويت عام 1990، وأيضاً وفر طغيان صدام بحربه ضد الأكراد وضد كل شعبه الأسباب لهذا الغزو. وهذا لا يتصادم مع الباحث في حديثه عن المصالح الإستعمارية التي هي الأساس.
يقول الأستاذ حسين الوادعي إن طغيان صدام ليس هو السبب الحقيقي، وإنما ثروة العراق، ولكن ذلك لا يلغي أن جرائم المذابح في العراق واحتلال الكويت خلقت المبررات الدولية للغزو. وما يجري اليوم في سوريا وليبيا واليمن ليس بالبعيد.
إن الطغيان يعطي المبررات القانونية، ويضعف روح المقاومة الوطنية للغزو، كما أن حالات الطلب واردة أيضاً. القوى العظمى دعمت المستبدين والطغيان. الدكتاتور القوي أقدر على حماية مصالحهم وضمان استقرار بلده. الكلام صائب وصحيح في ما يتعلق بحماية المصالح، ولكنه ليس على إطلاقه، فالاستعمار دعم دكتاتوريات وطغاة أقوياء، ولكنه أيضاً نصب طغاة صغاراً وهشين حد الإنكسار حسبما تقتضيه مصالحه؛ فالمصالح كما تفضلتم هي الأساس، وهي النهج الأعم والأغلب. وإذا تتبعنا الحكام التابعين في القارات الثلاث نجد غالبيتهم دمى، ولا يحتاج الأمر إلى جهد لإثبات ما إذا كان ذلك يخدم مصالحه الإستعمار. والمستبدون العرب كلهم من هذا القبيل. وإن كانوا أقوياء على شعوبهم فهم ضعفاء حد المذلة أمام الغزو الأجنبي، فالمسألة نسبية وموقوتة.
حكامنا إن تصدوا للحمى اقتحموا… وإن تصدى له المستعمر انسحبوا
هم يفرشون لجيش الغزو أعينهم… ويدعون وثوبا قبل أن يثبوا
كإبداع الشاعر الرائي، عبد الله البردوني. الإمبريالية دعمت كل رؤساء جمهوريات الموز، وكلهم ضعفاء حد السخرية، وكمثال: ساموزا نيكاراجوا، ودوفاليه هاييتي، وبونشيت الشيلي، وساندت الرؤساء الأفارقة الأقوياء على شعوبهم ليس غير: زياد بري في الصومال، ودعمت فرنسا عميد رؤساء العالم، عمر بينجو، الذي حكم قريب أربعين عاماً في الجابون، وبوكاسا (الفضيحة) في أفريقيا الوسطى، وفي آسيا كرزاي أفغانستان، ونماذج الحكام العرب خير شاهد.
ولكن ما علاقة أن القوى العظمى دعمت المستبدين والطغيان بالمقولة المنقودة، فالمقولة تقول ما تقوله أنت، ولكن لأنك تعيش عصراً غير عصرها وأوضاعاً جد مختلفة، فأنت تميز ما بين أبطال حركات التحرر الوطني وأتباع الإستعمار. وهل ندرك أن جل زعماء وأبطال حركات التحرر الوطني تحولوا إلى طغاة صغار أو كبار؟ لا يهم، وتعاون الكثيرين منهم مع مستعمري شعوبهم، والأمثلة فاجعة. أما كون الغزاة يهاجمون الأنظمة التحررية فالكلام لا يعني المقولة التي كتبت قبل عهود الإستعمار، وإن كان المقصود نقد التوظيف السياسي فذلكم شأن آخر.
التمثيل موفق في الإشارة إلى سلفادور اللندي، ودبشك يوغسلافيا، ومصدق إيران. أما صدام والقذافي فبحاجة إلى نقاش. والقول إن الهدف ثروات بلدانهم صحيح، وهذا لا ينفي رعونة سياساتهم التي خلقت المبررات، والأسباب لضعف إرادة أوطانهم، وتفكك قوتهم، وخلق تحالف دولي ضد صدام، وتخل عن القذافي الذي وضع نفسه في مواجهة مع شعبه.
في لقاء مع الزعيم الراحل، فيدل كاسترو، استمر عدة ساعات عام 1990، تحدث الزعيم الماركسي عن صدام حسين والقذافي وهيلا ماريام، واتهمهم بالتهور والغباء؛ لأنهم يعطون المبررات للامبريالية الأمريكية للحرب ضد بلدانهم. وقال: إننا على بعد عشرات الأميال من أمريكا، وهي تحاصرنا، ولو أعطينا أدنى مبرر لغزتنا. فالسياسات المتطرفة كارثة. أما قولك بأن الطغيان لا يجعل البلد ضعيفاً من الناحية العسكرية، والتمثيل بألمانيا هتلر وإيران الخميني وكوريا الشمالية فقراءة بالغة الخطأ ليس في هذا العصر، وإنما في كل العصور؛ فالقوة في أي بلد، في أي شعب، في أي أمة هي طبيعة نظامها، مدى توفر الحرية والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، وتوافق إرادات الأمم والشعوب، والرضا العام، وليس في السلاح.
ألمانيا هزمت شر هزيمة؛ لأن كارثتها الدكتاتورية المستبدة عولت على السلاح. إيران الخميني أضعف من الناحية العسكرية طبعاً من نظام الشاه الذي هزم بصدور المحتجين السلميين، وقوتها ليس في امتلاك النووي الذي قد يكون مصدر ضعفها. تمتلك باكستان قنبلة نووية، وأكبر جيش من الناحية العددية في العالم، فهل هي قوية؟ وكان الإتحاد السوفييتي ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، وسقط كورقة الخريف؛ لأن القوة العسكرية أساس نفوذه دولياً. قوة الدولة في عصرنا الراهن لا تقاس بالقوة العسكرية أو بناء الجيوش الجرارة أو القنابل النووية. قوة إيران الحقيقية في الخلاص من ولاية الفقيه، والعودة إلى ولاية الأمة التي طرحها الميرزا محمد حسين النائيني منذ منتصف القرن الماضي في رسالته الشهيرة «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». وكيف يمكن الرهان على قوة عسكرية بعيداً عن الإقتصاد والسياسة الراشدة والبنيان المجتمعي المتين؟ أما كوريا فحدث ولا عجب، والأمثلة الثلاثة غير موفقة، وقوة كوريا مصدر كارثية لها ولجوارها وللعالم، وهي كل الضعف الواصل حد موت شعبها من الجوع. أما إن الدكتاتور يحقق الإستقرار لبلاده فحديث خرافة.
يضيف: «العبارة تحول الغزو الخارجي كقدر إلهي سلطه الله أو التاريخ على الطاغية وبلده، ويجري تبرير الغزو وما يحدثه من دمار كسبب وحيد». يضيف هنا: “يتحول الغازي إلى محرر، وإلى قوة جبارة همها إسقاط أنظمة الطغيان”. وهذه الصورة للقارئ معكوسة رأساً على عقب، ومتعارضة حتى مع أبسط مشاعر الوطنية السياسية التي ترى في كل غزو شراً مستطيراً.
الزميل حسين يمتلك خيالاً روائياً غير واقعي في سرد سياسي يحتاج واقعية. كيف لقارئ – أي قارئ – أن يحمل عبارة مجردة: «الطغاة يجلبون الغزاة» كل هذه الدلالات الخطيرة وفي ذلك تأويل وإلزام يحتاج لمراجعة. كما لو أن قائلها قبل مئات السنين يعمل لصالح الطابور الخامس، أو الـ«سي آي إيه»، مع أن العبارة ذم للطغاة والغزاة على حد سواء. وكتسمية شاهدة على الترابط والتلازم بينهما، فكل منهما يخدم الآخر، لكأنهما متوافقان في عدائهما للحرية وللشعوب. الترابط بين الغزاة والطغاة عميق وجدلي. الاستعماريون والغزاة محتاجون للدمى واللعب السياسية وحتى الطغاة الصغار. حكامنا، جل حكامنا، أقوياء إزاء شعوبهم، قامعون وجلاوزة، ولكنهم إزاء الإستعمار ضعفاء وطيعون حد التلاشي. كل الطغاة دمى كإبداع سميح القاسم.
في كتابه «تاريخ العربية السعودية»، يذكر فاسيليف أثناء مفاوضات العقير، وفي لقاء خاص اقتصر على بيرس كوكس (المعتمد البريطاني في العراق والمسؤول البريطاني عن ترسيم الحدود) والمترجم ديكسون، لم يطق كوكس صبراً على ما سماه «موقف ابن سعود الصبياني من فكرة الحدود القبلية». و«لم يكن السير بيرس كوكس يجيد العربية كما ينبغي فتوليت الترجمة. كان أمراً غريباً أن يلاحظ المرء كيف يوبخ المندوب السامي صاحب الجلالة سلطان نجد وكأنه تلميذ مشاكس. قال كوكس لابن سعود بصرامة: أنه هو كوكس الذي يقرر شكل الحدود وامتدادها العام. كاد عبد العزيز ينهار تماماً، وقال بتأثر إن السير كوكس بمثابة أبيه وأمه اللذين أنجباه، ورفعاه من الحضيض إلى مقامه الحالي، وإنه مستعد للتنازل عن نصف مملكته بل عن المملكة كلها إذا أمر السير كوكس.
إثر ذلك أخذ كوكس قلماً أحمر ورسم بحذر على خارطة الجزيرة الحدود من الخليج العربي إلى شرقي الأردن. وفي مساء ذلك اليوم ذاته كما يقول ديكسون جاءت التتمة المدهشة، فقد طلب ابن سعود مقابلة السير بيرس على انفراد، إصطحبني السير بيرس، وكان ابن سعود يقف بمفرده وسط سرادقه الكبير الذي كان مضيفاً، بدا معتماً للغاية، وقال متوجعاً: يا صديقي لقد حرمتموني نصف مملكتي. الأفضل أن تأخذوها كلها، وتسمحوا لي بالاستقالة. وظل هذا الرجل القوي الضخم البنيان المتسامي بأساه واقفاً، ثم انحدرت من مآقيه الدموع على حين غرة. تأثر السير بيرس غاية الأثر، وأخذ بيده، وأخذ ينتحب هو الآخر. تحدرت الدموع على خديه. لم يحضر أحد سوانا نحن الثلاثة. في هذا المشهد – وأنا أنقل بدقة ما رأيت – لم تستمر الزوبعة العاطفية أمداً طويلاً. قال السير بيرس، وهو ما يزال يمسك بيد ابن سعود: يا طويل العمر أنا أعرف بدقة حقيقية مشاعرك، لذا فإنني أعطيك ثلثي أراضي الكويت. لا أعرف كيف سيكون وقع هذه الضربة على ابن الصباح». راجع «تاريخ العربية السعودية» – ص 306 و307.
ونعرف جميعاً أن ابن سعود عقب الحرب الكونية الأولى كان أقوى حاكم في الجزيرة العربية كلها. وحقيقة الغزاة شر مستطير. والطغيان أيضاً شر مستطير. وقد جرى في مراحل حروب التحرير تغليب الصراع القومي ضد المستعمرين، أو تغليب التناقض الرئيسي على التناقضات الثانوية؛ فالتناقضات في صفوف الشعب ثانوية – كما يرى الزعيم الصيني ماوتسي تونج – بينما التناقض مع المستعمر هو التناقض الرئيسي. ولهذا تحالف الحزب الشيوعي الصيني مع كاي تشيك أكثر من مرة في مواجهة الغزو الياباني. والمأساة أن هذه الرؤية الصائبة والصحيحة في مرحلة ما ومكان ما وظفت فيما بعد الإستقلال لقمع المعارضة السياسية تحت ذريعة مواجهة التحديات والمخاطر والمؤامرات الإستعمارية. وقام المستبدون الوطنيون والطغاة المحليون بتخوين الشعب، وتخويفه من الأعداء الوهميين، ومن المستعمرين الذين خلفهم قادة وطنيون تحولوا في زمن قياسي إلى طغاة فاسدين. تعطلت برامج التنمية والتحديث، وغيبت الحريات العامة والديمقراطية، وقمعت حرية الرأي والتعبير، ونكل بالمعارض والمختلف حد الإعدام، وفرضت حالات طوارئ تبدأ ولا تنتهي، وكلها بحجة مواجهة المطامع الإستعمارية وحماية الوطن والوحدة الوطنية.
الحالة القائمة اليوم والمعاشة حتى الإعتقالات والاختفاء القسري وأحكام الإعدام الجزاف في منطقتنا العربية كلها وبالأخص في اليمن السعيد سابقاً، حالة مروعة. فأنظمة فاسدة ومستبدة آتية إما من صناعة الإستعمار، أو بقايا حركات التحرر الوطني، أو عبر انقلابات عسكرية، كلها تعاونت وتتعاون مع الإستعمار والإمبريالية، تجلبه بأساليب وأشكال مختلفة حتى بافتعال معارك زائفة تحاربه، وهو كل شيء داخل البلد، في السياسة، والثقافة، والاقتصاد، وتعتمد عليه من الإبرة إلى الصاروخ، ثم تدعي التحارب معه في كل شيء، وتدعو إلى مقاطعته وموته!
مراعاة التزمين للمقولة، ونسبية حدود العبارة، ورفض عموميتها وإطلاقيتها مهم. ماركس يقول: كل تعميم خطأ، حتى قولي هذا. أما الأصوليون فيقولون: ما من عام إلا وقد خصص، وما من مطلق إلا وقيد. التمييز بين مرحلة مقولة «الطغاة يجلبون الغزاة»، ومراحل عصور النهضة والاستعمار القديم والحديث، ثم مرحلة العولمة مفيد؛ ففي المرحلتين الأخريين تغير جذرياً مفهوم الإستعمار، وأصبحت سيطرته الإقتصادية، وهيمنته السياسية والثقافية والإعلامية كلية وشمولية، وترزح تحت ظلال هذه السيطرة والهيمنة جل بلاد العالم بما فيها حركات التحرر الوطني.
يرى أن هذا التفكير سطحي. يتناسى أن التدخل الخارجي لا يتم إلا لضمان مصالح القوي، وأن الطغيان سيسقط ليس لطغيانه وإنما لخروجه عن النص. تصبح العبارة جاهزة لتبرير التأييد المطلق للغزو الخارجي، لكن أقرب لمنطق المعجزة الغيبي، والكلام لا يزال له: يأتي منه الخلاص عبر تدخل خارجي مفاجئ. والكلام الصائب كله لا علاقة له بالعبارة المنقولة حقاً وباطلاً أكثر.
يضيف – لا كُسر قلمه -: لكن أخطر ما فيه أنه يربط التحرر بالغزو لا بالنضال السياسي المدني ضد الإستبداد. يتابع: ولأن الغزو الخارجي لا يمكن تبريره بوضوح خوفاً من تهمة العمالة وخيانة الوطن. هكذا تتحول القضية إلى ميتافيزيقيا سياسية ترسل الغازين لتأديب الطاغي بتوفيق إلهي غامض، وما علينا إلا التصفيق للغازي لأنه قدر الله كدعوة منسوبة للمقولة البريئة.
كيف ربطت هذه المقولة التحرر بالغزو؟ وكيف تخلت عن النضال السياسي المدني وخافت تهم العمالة السياسية وخيانة الوطن؟ وكيف أرسلت الغازي لتأديب الطاغي؟ لاحظوا بتوفيق إلهي (أيضاً)، ثم يطلب منا العزيز حسين الوادعي أن نصفق للغازي لأنه قدر الله. الأكثر من ذلك كما يقول الزميل: أن الغزو قد يثبت حكم الطغيان، ويكسبه شرعية غير مسبوقة باسم الدفاع عن الوطن ومواجهة العدوان. والتحليل عميق وفي غاية الأهمية. وليسمح العزيز حسين أن أقول: إن هذه الرؤية تنطبق على حالات كاثرة في عالمنا الثالث، وبالأخص في المنطقة العربية وأكثر خصوصية في حالتنا اليمنية القائمة اليوم. وما أعاق التحول إلى الديمقراطية والحياة المدنية والتحديث والتنمية والبناء هو مواجهة الإمبريالية والصهيونية، وهي مواجهات كاذبة واصطناعية لتثبيث الطغيان كرؤية الباحث.
يمضي في التحليل الصائب الذي لا يعيبه إلا توهم الرد على مقولة من جملة واحدة لا تتحمل كل صواب تحليله، وقراءته الدقيقة التي لا علاقة لها بالمقولة. وبعد نقده ما قالت وما لم تقل، يتناول الناقد ما سكتت عنه المقولة: إن الغازي عندما يسقط الطاغية لا يترك الشعب ليؤسس نظامه المدني، بل يفرض عليه طغياناً خارجياً، وهو طغيان يتم على إيقاع الدمار الشامل الذي أحدثه الغزو. ورأيه لا خلاف عليه. يضيف: الطغاة يجلبون الغزاة إذا تضررت مصالحهم. أتفق معك. والغزاة لا يجلبون الحرية؛ لأن التحرير لا يتم بالتدمير. ولا أظن أن ذا عقل سليم يقول غير ما تقول أخي العزيز.
يختتم الأستاذ حسين الوادعي مقالته الناقدة برأي سديد وحصيف: ولا يمكن مجابهة الإستبداد إلا بالنضال السياسي المدني، وبمشروع وطني من الداخل. وأرى أهمية عدم تحميل المقولة ما لم تقله وإعادة قراءة العلاقة بين الغزوين الداخلي والخارجي أو الإستعمارين الأجنبي والداخلي، فهما يترافدان ويعطي كل منهما المبررات والذرائع للآخر. الداخلي يفرض حالة الطوارئ، ويدمر البلد، وينهب كل شيء، يصادر الحريات، ويعتدي على الحقوق بما فيها المرتبات، ويقتل الإنسان بل الحياة. أما الإستعمار الخارجي الثلاثيني أو العشري فهو الأقدر على الخراب والتدمير من مليشيات الطغاة الصغار… لذا فإن جرائمه أقدر وأفتك وأقوى.
لا علاقة للأمر بعقدة يزنية أو غير يزنية، وإنما هو التفكك والصراعات التي دونها المؤرخون وتعمق في قراءتها ابن خلدون، الذي رأى أن قوة العصبيات القبلية وكثرتها أحد عوائق بناء الدول. والدولة اليمنية قديماً وحديثاً ضحية هذه الصراعات ذات العصبيات المتخلفة التي ترتدي لبوس الدين اليهودي، المسيحي، السني، الشيعي، وكلها عوائق قيام دولة قوية اتحادية وديمقراطية، وكانت عبر التاريخ كله مبرر استدعاء للقوى الأجنبية، وهي أيضاً وراء الثورات المضادة منذ 48 و 62 وحتى استقلال الجنوب 67، ثم الثورة المضادة ضد ثورة الربيع العربي، وضد مخرجات الحوار، ومشروع الدستور.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا