السعودية وتكرار الخطأ التاريخي في اليمن
يمنات
صلاح السقلدي
تعهدتْ المملكة العربية السعودية قبل أيام في مدينة جنيف السويسرية بتقديم 150مليون دولار أمريكي ضمن مؤتمر دولي عُــقدَ هناك لجلب التبرعات المالية لتدارك الحالة الإنسانية الكارثية باليمن جــرّاء الحرب المدمرة الدائرة منذ 25شهرا, إلى جانب عدة دولة عربية وأجنبية ومنظمات دولية متبرعة.
بلغ إجمالي ما تم تحصيله في ذلك المؤتمر- الذي بدأ أشبه بأكبر عملية تسول برباطة عنق أنيقة في التاريخ المعاصر- مليار ومائة مليون دولار أمريكي.
المبلغ السعودي الــــ 150مليون دولار ليس الأول الذي تخصصه لليمن, فقد أرسلت الرياض لليمن الشمالي منذ عشرات السنين وبالتحديد منذ المصالحة اليمنية بين التيارين الجمهوري والملكي مطلع سبعينيات القرن الماضي مليارات الريالات السعودية, واستمر – ولو بشكل أقل – حتى بعد عام 90م, ولكن تلك الأموال – على ضخامتها – لم تذهب منها ولو نسبة ضئيلة لعملية بناء مؤسسات دولة حقيقية والنهوض بعملية تنموية وتعلمية واقتصادية, بل كانت تذهب عبر مسارب وقنوات عديدة الى خارج إطار مؤسسات الدولة (الافتراضية) ولجهات ورؤوس قبَـلية ومؤسسات دينية وعسكرية وقوى وشخصيات سياسية وحزبية تدين بولاء وطاعة سياسية مطلقة للمملكة سواءً (عملية ارتزاق مغلفة), كانت تلك المبالغ تصل لهذه القوى عن طريق ما بات يُـعرف منذ بداية السبعينيات بــ(اللجنة الخاصة) أو عبر صرفات متفرقة بكشوفات لشيوخ قبائل وكشوفات لرموز حزبية ودينية وعسكرية واعلامية كُلاً على حدة, بلغ عددها اكثر من 7000 شخصية ومكونات سياسية وحزبية وإعلامية وقبيلة ومؤسسات دينية ورجال دين من ذات الفكر السلفي الجهادي, بحسب آخر كشف نُــشر قبل أربع سنوات تقريبا, أو على شكل هِـبات مالية ومادية موسمية مرسلة الى الداخل اليمني, أو يتم تسليمها يد بيد بالمملكة وبالذات بالمواسم الدينية, وفي المحافل العربية والاسلامية, وعند كل أزمة سياسية تنشب بالمنطقة العربية, بالداخل الشمالي منذ 62م, أو مع الطرف الجنوبي منذ 67م حتى عام 90م.
و برغم ضخامة المبالغ الواصلة إلا ان أثر الدعم السعودي لليمن في أرض الواقع يبدو شبه معدوما, على الأقل مقارنة مع ما تقدمه دول أخرى أجنبية كالصين وهولندا خصوصا في مجالات التعليم والطرقات والصحة.
و طالما ما تزال ذات الآلية وذات الأساليب السعودية القديمة في تصريف مثل هذه المساعدات هي المتّــبعة كما يبدو واضحا اليوم, وطالما بقيت ذات القوى هي المتلقية لهذه المساعدات فحتما سيكون مصير الـــ 150مليون دولار هو مصير المبالغ السابقة, بل ومصير المليار والمائة مليون دولار الذي قيل أن مؤتمر جنيف تعهد بدفعها للمساعدة الإنسانية بهذا البلد المنكوب بناسه وجيرانه. هذا علاوة على مصير المبالغ التي قيل أنها ستخصص لعلمية إعادة الإعمار, كل هذا ستلتهمه حيتان الفساد وهواميره.!
انتهاج السعودية لهذا الطريقة بدعمها المالي والمادي لليمن كان – وما زال- نابعاً من خشيتها من أن تُـصب تلك المبالغ في خانة بناء مؤسسات دولة يمنية حقيقة قد تعمل على نهضة تعليمية وفكرية توعوية من الممكن أن تشكل بالمستقبل تهديدها لوجودها ولبوابتها الجنوبية تحديدا, خصوصاً أن لها – أي المملكة – مسألة عالقة وشائكة مع الجار اليمني تتمثل بمسألة ترسيم الحدود واشكالية مِـلكيّــة الأراضي المتنازع عليها الى قبل عام 2000م (جيزان –عسير ونجران), فضلاً عن الرهاب السعودي المزمن من المد اليساري والقومي التحرري, وبالتالي كانت السياسة الاستراتيجية السعودية ترى أن الحل الأمثل في التعامل مع هذا الجار الذي يمتلك كل أسباب وطاقات مقومات الدولة القوية من بشر وثروة وتاريخ وجغرافيا إن خرج من شرنقة الفقر وامتلك ناصية قراره السياسي يرتكز على دعامتين اساسيتين هما:
أولاً, السيطرة على كل القوى الفاعلة والمؤثرة فيه بمختلف مشاربها من خلال المال والمادة للوصول بالتالي الى الإمساك بمفاصل دوائر صنع القرار ووضعه تحت ذبذبات الريموت من خلف الحدود, بالتوازي مع إبقائها داخل دائرة الجهل, بكل أنواع ومعاني الجهل.
ثانياً: إبقاء اليمن من خلال منع وصول أية موارد خارجية أو حتى داخلية الى القوى الوطنية التي تسعى لإقامة دولة يمنية قوية تمتلك قرارها واردتها السياسية بنفسها وتسعى لاستعادة مالها من حقوق عند الغير, وتوجيه هذه الموارد الوجهة التي لا يكون لهذه الموارد اثرا ايجابيا بالمدى البعيد.
هذا الأسلوب السعودي في التعامل مع الشأن اليمني وقواه المختلفة أثبتت وقائع اليوم مدى فشله وعقمه بل وأضحى الوضع اليمني بسببه ولأسباب داخلية أخرى وبالاً كارثياً ليس على اليمن فقط بل على المنطقة وعلى دول الخليج العربية جميعاً, والسعودية بشكل خاص ومباشر.!
فمِــن حيث قــدّرتْ دوائر صنع القرار السعودية أن يمناً ضعيفا, خائر القوى, يفترسه الجهل, وينهش جسده الفقر, وينخر عظامه التطرف هو الضمانة المُـثلى والسياج القوي للحفاظ على أمنها وحدودها الجنوبية والجنوبية الغربية انطلاقاً من منطق قولٌ تاريخياً فاسد يقوم على فكرة رخاء المملكة من شقاء اليمن, ورخاء اليمن شقاء المملكة, فأنها في ذات الوقت كانت تعمل على تفخيخ اليمن- بل قل تفخيخ نفسها – من حيث لا تحتسب بأحزمة الفقر وعبوات الجهل وقنابل التطرف وبارود الهيمنة, والتي انفجرت كلها تباعاً بوجه الكل وطار شررها في كل الأصقاع.
ما نراه اليوم من تعامل سعودي مع القوى اليمنية المختلفة قبلية وحزبية وسياسية ودينية مقربة ومدعمة منها هو ذات الوسيلة الطرق التي كانت منذ عشرات السنين, والتي أوصلت الجميع بمن فيهم السعودية الى هذا الوضع المأساوي, وأصبحت مشكلة اليمن هي مشكلة وورطة سعودية تاريخية بدرجة اساسية, ولم يكن تدخلها بهذه الحرب إلا إشهارا لهذه الورطة وإعلاما رسميا لنتيجة تراكمات أخطاء تاريخية فادحة تعيد نفسها اليوم بصورة تراجيدية أليمة.
ذات القوى الدينية التي تتعامل معها الرياض اليوم هي تقريباً ذاتها التي كانت تتعامل معها قبل عشرات السنين (الأخوانية والسلفية الجهادية) والقوى القبلية اليوم هي نفسها التي اتخذت منها السعودية رأس حربها بوجودها باليمن طيلة عشرات السنين (قبيلة حاشد نموذجاً). والقوى والرموز العسكرية هي تقريبا ذاتها او نسخة معدلة منها (اللواء علي محسن مثالاً). والادوات السعودية العتيقة (شراء الولاءات وإهمال السواد الأعظم من الشعب) ما تزال سارية المفعول بقوة. والوسيلة (المال) ما زال لها مفعول السحر.
يقال: (إذا فشلت في التخطيط فأنت تخطط للفشل).فطالما بقيت السياسية السعودية باليمن تعمل بذات الطرق وتنتهج نفس الوسائل وتستخدم نفس الأدوات فإن النتيجة قطعاً ستكون هي ذات النتيجة السابقة والضرر سيكون مضاعفاً. فزرع الغد متواجداً في بذور اليوم, ونتائج الغد متواجدة في افكار اليوم.
* خاتمة: (الغباء هو فعل الشيء ذاته مرتين بذات الأسلوب وبنفس الخطوات وتنتظر نتيجة مختلفة).!
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا