من واقع الحال في زمن الحرب (1)
يمنات
أحمد سيف حاشد
(1)
حصار على حصار
– كم أشعر بالتردد والحرج عندما أريد سرد بعض من قصتي للناس، ولاسيما تلك التي لها علاقة باللحظة ومتعلقة في بعض جوانبها بخصوصياتي الدقيقة في مجتمع لازال غير متصالح مع نفسه .. مجتمع مثقل بالعيب ومخلفات القبيلة، ومنقوص في الصدق والشجاعة والشفافية والتعافي..
– لا أريد أن أشعر أنني استعطف الناس فيما أكتب أو أستجلب شفقة؛ فذلك يؤلمني جدا .. ذبحي بمنشار الخشب أو سمل عيناي بالمسامير أهون عندي ألف مرة من أن أرى نظرة إشفاق نحوي من أحدهم .. ولكني أريد أن أعبر عن نفسي كإنسان متعافي ومتصالح مع نفسه لا يداري الواقع بالأكاذيب .. إنسان لا يحب أن يرتدي الزيف والأقنعة، ويخفي الحقيقة بحجر تحت حزام؛ فالواقع بات ساحقا وقاهر..
– آمالنا تلاشت، ومستقبلنا غارب يذوي كشمعة لم يبق منه إلا وداعا، وختاما دون مسك، بل ختام بطعم الموت .. وضاع مستقبل أولادنا، وضاع الوطن .. وصار المجهول متحكما وفارسا له كلمة الفصل، بعد أن رحلت كل الأحلام وتبخرت كل الوعود..
– لدي مطبعة أكل الدهر ثلثين من عمرها و يزيد .. وتوقفت صحيفتي التي كانت تقوم بطباعتها .. وأدرك العجز الجميع .. المطبعة مُطبقة ومهجورة منذ عامين لا استفيد منها في شيء، بل تأكلني إيجار وديون تزداد، وهموما تراكمت لا مهرب منها ولا مفر..
– أتسع الرقع على الراقع .. لا مشتري لها ولم تعد تنفع أن تعرض في مزاد .. صارت خردة تشبهني في واقع معاكس وعاثر الحظ .. واقع حاضره سيء والمستقبل يبدو أنه أكثر سوءا ورداءة..
– صحيفتي أكلت الحرب أسواقها والمحبين، وصارت عاجزة عن سداد نفقاتها بعد أن كانت في الشهر أو دونه تدر ربح المليون وأكثر .. ذنبي إن كان هناك من ذنب أنني انسان .. والحقيقة أنها مزية لا نقص فيها ولا عيب .. لكني لم أحتاط لعثرة ولم أحتاط لنفسي، ولم احتفظ بالقرش الأبيض لليالي المعتمات .. اليوم تحطمت كل الأمنيات وورثها وورثنا الخراب واليباب .. توقفت لدينا ولديها الحياة، وصار الموت هو من يحكم ويسود..
– إيجارات متراكمة، وصحيفة أوقفتها ظروف الحرب مرغمة، ورواتب موقوفة، ومنافس الرزق تضيق، وديون للبقالة، وأخرى لبائع القات، وثالثة للمطعم، وموظفين يستحقون الاهتمام، والتزامات متكاثرة لا عد لها ولا حصر .. التزامات متراكمة، وعفش لا نُحسد عليه، ومستقبل في وجهنا يبدو أنه أسود ومسدود، ومرحلة أكثر حلكة وظلام لم ندخر لها عيش ولا ماء ولا ضوء، مرحلة لم نحسب يوما إنها ستأتي وزدنا اكتظاظها باكتظاظنا حتى كدنا نموت اختناقا .. مرحلة لم تكن على البال والحسبان .. مرحلة لا يبدو إننا من سيعبرها وننجو من طوفانها .. لا سفينة نوح ولا بطن حوت .. حصار على حصار، ولا منفذ أمل أو نجاة..
(2)
مكرها أخاك لا بطل
– الجرادي صاحب البقالة المجاورة رجل طيب وخجول .. صرت زبونه منذ سنين .. الديون في الحرب ثقيلة على الكاهل .. كانت بقالته عامرة وممتلئة بالبضائع، واليوم وبعد الدين صارت كمريض أنحله السل أو طفل أنهكته المجاعة .. يخجلك الجرادي وهو يتردد في طلب تسديد الدين الذي عليك .. خجله يحملك على تقليل الاستدانة ومحاولة الامتناع عن تراكم الديون .. حياء الجرادي يزيدنا إحراجا وحرصا مضاعفا على الوفاء بالدين الذي له علينا .. طلبنا مهلة منه؛ فمنحنا ما نريد .. وفي الحرب مهل الديون معلقة بظهر الغيب، ومفتوحة على كل الاحتمالات .. صارت الأيام تخون وعودها، وصرنا نحن في الوعود كاذبين ومكرهين..
– المطعم الذي يملكه قريبنا يتوعك بالدين .. القائم عليه يداري عنا وجعه وحالته بصمت وصبر .. المطعم لازال حديث عهد، ولا يحتمل تراكم الديون .. حياء القائم عليه بدلا من أن يطالبنا بدفع الدين أغلقه فجأة .. ومتى..؟! يوم لا أملك قيمة الغداء للموظفين ولمن أعيل..
– ابني يسري يحاول المساعدة، ولكنه يعجز ولا يعترف بالاستحالة .. يحاول مدارة العجز ويبعث تطميناته على نحو أشعرني أنه صار هو الأب الكبير الذي عليه أن يتصدى لهكذا شأن، فيما صرت أنا الأبن الذي ينتظر الحل ناجزا من أبيه .. كم هذا الشعور يبقا خالدا في الوجدان والذاكرة .. يحاول تدبير أربعة عشر ألف ريال هي استحقاقا لغيره، وسأكون ملزما بسداده خلال وقت قصير ولا فرج يبدو قريب .. بدت لي يوم “الحراف” بألف سنة مما تعدون .. لم أحاول أن أضعه بموقف حرج أو أعلقه بموعد استحقاق كذوب .. فيما ابني فادي هو الآخر يحاول أن يبيع تلفونه ولكن بيعة المحتاج يلحقه الغبن فاحشا ولا يحل المشكلة .. وفي كل حال تظل محاولات الشعور بالمسؤولية تستحق التقدير أكثر من شعور حكومة تدعي ولا تملك أدنى إحساس أو شعور حيال من أوقعتهم أقدارهم التعسة تحت سلطتها الجائرة..
– أخي كريم لخبطت له حياته ومشاريعه، وأطحت بأحلامه أن يكون له في العمر مشروع صغير، وهو الذي لم يفلح بحياته الطويلة بمشروع .. عرض علي أن يستلف من المحاسبة التي تعمل لدينا، فيما نحن ما لبثنا أن سددنا لها قسط مستحق عندنا، فرفضت عرضه وآثرت الهيام..
– زوجتي قبل أن أخرج من المنزل في الصباح سألتها إن كان بإمكانها تدبير قيمة الغداء، فترد بضجر أنه غير ممكن بل وتضيف أنه لا يوجد في مطبخنا حتى رأس بصل..
– أيقظت أمي من نومها الصباحي وداهمتها بسؤال إن كان لديها ما تقرضه لي، ولكن شهدت على وجهها غضب محتج وتمرد معدم يتلبسني مثله بعض الأحايين ..
– بدت لي كل الأبواب موصدة وما رحب أمامي صار يضيق حتى سد في وجهي الطريق .. ذهبت إلى المجلس بنية الاعتصام والاضراب عن الطعام .. وفي الطريق كنت أشاهد الناس وأسأل نفسي: كيف كل هؤلاء الناس يعيشون..؟! كيف بمقدورهم أن يبلغون بالصبر هذا الحد..؟ ومن يعينهم عليه..؟! كيف يديرون حياتهم وكيف يستمرون على الحياة والعيش..؟! إن كنت أنا وبمداخيل متعددة أعيش بصعوبة .. فكيف من أنقطع راتبة منذ ستة شهور..؟! كيف من لم يوجد له وظيفة أو راتب أو مصدر رزق كريم..؟! لماذا كل هؤلاء صامتون..؟! إن كان الجوع كافر لماذا لا يثورون عليه..؟! إن الأمر بالنسبة لي لم يعد محتمل .. أحسست بكثافة معنى وصولي إلى الحد الذي تصير فيه الحياة والموت سيان..؟
(3)
خيارات محدودة
– عندما أكتب عن أحوالي ومعيشتي المادية المسحوقة بالحرب والحصار؛ إنما أريد أن أكشف انحطاط الساسة والحكومات وتواطؤ ضمير العالم حيال شعب يعاني الجوع والمجاعة، ومحاولة لأيقاظ ضمير هذا العالم حيال معاناة شعبنا، واستحثاث هذا الضمير إلى أن يركل مال النفط الذي يفقده الإحساس والشعور والوجود..
– عندما أكتب عن أدق خصوصيات معيشتي ودافعي للاحتجاج حتى الموت؛ إنما أريد أن أكشف ما هو أهم .. أريد أن يبلغ سؤالي النازف والمحتج أقصى مداه .. أريد أن أسأل: إن كان هذا هو واقع الحال، وهذا الحد من الصراع الوجودي الذي يعيشه من أزعم أنه ممثل للشعب؛ فكيف هي ظروف هذا الشعب وحال معيشته..؟؟! كيف تعيش أسر مليون ومئتين ألف موظف انقطعت عن معيليها رواتبهم والأمل في البقاء بعد صراع وجودي دام أكثر من ستة أشهر..؟!! أريد أن أسأل كيف تتخلى حكومتان عنه وتتواطأن في قتله وتدعيان أنهما تمثلانه فيما هما تفتقدان لأدنى شعور بالمسؤولية حياله، بل وبلغت حد الانحطاط في التعامل معه..؟؟! ثلاثين مليون نسمة صاروا مهددين بالموت والمجاعة، في ظل حكومتان تجرمان بحقه وعالم أدرك مال النفط ضميره وأفقده وجوده..
– إن ما يرتكب ضد هذا الشعب هي جريمة غير مسبوقة من البشاعة والانحطاط والقذارة .. لقد نفذ صبرنا، وبلغت قلوبنا الحناجر .. ولم يعد أمامنا من خيار إلا الموت جوعا أو الاحتجاج حتى الموت أو كسر هذا الموت الذي صار يهدد وجودنا..
(4)
اصرفوا الرواتب .. الوطن في أول معناه كرامة
– أعيل بحدود عشرون نسمة لا مصدر لهم غير مداخيلي وراتبي .. بالإضافة إلى خمسة موظفين يعملون لدي، وهو ما يعني أن خمس أسر أيضا بقاءها على الحياة يعتمد على مرتبات ملتزم لهم بدفعها..
– متأخرات وتراكم إيجار شقتين وهنجر مطبعة، بالإضافة إلى متأخرات استضافة موقع يمنات الإخباري بواقع أكثر من سبعين ألف ريال في الشهر الواحد.
– متأخرات سداد فواتير الماء، ولن أتحدث عن سد المجاري بالإسمنت من قبل الجهات المعنية بالتحصيل وأكثر من مرة بسبب عدم سداد تلك المتأخرات .. يريدون ما لهم ولا يلتزمون بما عليهم أقلها دفع الراتب.
– متأخرات سداد فواتير الكهرباء، ولن أتحدث عن عدد مرات فصل التيار الكهربائي والمتكرر من قبل الجهات المناط بها التحصيل، ولن أتحدث عن رفض الجهات القائمة على الكهرباء تحويل شريحة شقة الصحيفة من شريحة تجارية إلى شريحة عادية، رغم توقف اصدارها أكثر من سنتين وعدة شهور ـ باستثناء اصدار ثلاثة أو أربعة أعداد..
– التزامات أقساط وتسديد ديون شهرية لتجار ومستحقين وديزل واتصالات وضرائب وغيرها..
– لي ابنتان تدرسان بمدرسة ابتدائية خصوصي، وقد أرسلت إدارة المدرسة أكثر من ثلاثة إشعارات مطالبة بتسديد الرسوم والمتخلفات التي بعضها يرجع إلى العام الماضي .. فيما ابنتي التي في الثانوية أخرجتها من الخاص إلى مدرسة عمومية .. والتي في الجامعة التزامات مصاريف يومية واحتياجات لوازم جامعية .. أما الأولاد فلم أستطع تدريسهم الجامعة ولعل أول سبب يرجع للرسوم الدراسية الباهظة..
– أشياء أخرى وتفاصيل والتزامات كثيرة لا أود الوقوف عليها، وكل ما أريد أن أقوله إن جل شعبنا يعاني ويجوع ويموت .. كل عشر دقائق يموت طفل في اليمن بسبب الجوع وسوء التغذية..
– لا أريد أي مساعدة ولن أقبل ـ مع تقديري البالغ لكل من تواصل أو أتصل ـ ولكن فقط أريد أن أقول لسلطات الأمر الواقع ثلاثين مليون يستحقون قليل من الشعور بالمسؤولية .. اصرفوا رواتب الموظفين ولا تمنعوا الناس من نيل حقوقها؛ فالوطن في أول معناه كرامة..
– ثلاثين مليون إنسان معذب ومحتاج وجائع يستحقون أكثر من الاعتصام والاضراب عن الطعام في مجلس النواب.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا