عبد العزيز المقالح: أعداؤنا يدقون الطبول … ونحن نرقص ونتآكل
يمنات – صنعاء
منذ ستينيات القرن الماضي وشاعر اليمن الكبير، عبد العزيز المقالح، ما يزال يثري الساحة الأدبية العربية والمحلية بنتاجات أدبية ونقدية وفكرية ثرية، وما يزال يمثل بوابة اليمن ويافطتها الثقافية الأبرز.
وبرغم نتاجاته الكثيرة، ما يزال يرى أنه لم يحقق ما يصبو إليه، وما يزال يحلم بكثير من الرؤى والنتاجات التي قد يعانقها ويخرجها إلى حيز الوجود. نالت نصوصه الشعرية حظاً وافراً من الدرس والتحليل والشهرة في الوطن العربي، وتُرْجِمَ بعضها إلى لغات متعددة. كتب للحب والإنسان والثورة والوطن، كما كتب للأم والأصدقاء والمدن والقرية… إلخ.
لقد تحدثنا معه في حوارنا هذا عن الإبداع والفكر والنقد وعن شجونه وحنينه إلى المكان والهرب من قسوة الواقع. لم يسعفنا الوقت للرحيل معه صوب البعيد ومناقشة الظواهر الأدبية كلها في نصوصه، غير أننا نتمنى أن تتوفر الفرصة مرة أخرى للقيام بذلك.
بعد رحلة الإبداع الطويلة هذه… هل تشعر أنك قد حققت ما كنت تصبو إليه؟
لا أعتقد ذلك، فما كنت أصبو إليه أكبر بكثير مما تحقق حتى الآن، لكن بحسب الظروف والمعوقات التي لا حدود لها يمكن القول بأن شيئاً مما كنت أحلم بالوصول إليه قد تحقق، وما يزال هناك الكثير والكثير مما أرقبه للكتابة والبوح به.
أين يجد المقالح نفسه… في الفكر أم الشعر أم النقد؟
في الشعر أولاً وأخيراً، فهو هويتي وهوايتي، به بدأت وما زلت أعانقه حتى هذه اللحظة. لم تكن الكتابة الفكرية – إذا صح أنها كذلك – ولا الكتابة النقدية سوى استراحة مفروضة من قبل الواقع وواقعنا اليمني الخاص، حيث تجاهل أشقاؤنا النقاد العرب الكتابات الشعرية والروائية والقصصية التي تصدر تباعاً في بلادنا، فكان لا بد من أخذ إجازة من الغواية الشعرية والاقتراب بحذر من عوالم النقد الأدبي، لاسيما بعد أن تورطت في الالتحاق بالدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة عين شمس، وكان أساتذتي فيها مجموعة من الرواد في مجال تحديث النقد الأدبي في ذلك الحين، وقبل أن تتجاوزهم المناهج الأحدث وتجعل بعضهم يلتحقون بها كما هو الشأن مع أستاذي الراحل عز الدين إسماعيل، الذي أثرى المكتبة العربية بدراساته التي وصلت في آخرها إلى منهج التلقي ومنهج التأويل. إذن مكرهٌ أنا في دخول عالم النقد الأدبي وكم تمنيت أن أتفرغ للشعر وللشعر فقط.
يجد القارئ لنصوصك الشعرية احتشاد الرموز والأساطير والأقنعة بشكل لافت، منها ما هو محلي ومنها ما هو عالمي، فأي منها ترى أنه أثير لديك؟
الرموز المحلية بالذات وأساطيرنا المطمورة، فمنذ بداياتي الأولى المنشورة في ديوان «لا بد من صنعاء»، يجد الدارس هذا المنحى واضحاً في بعض القصائد، لاسيما القصيدة المسماة بعمر بن مزيقيا، الذي قطع لسان الكاهنة طريفة بعد أن قالت له إن سد مأرب سوف ينهار، ومنعها عن الحديث حتى يستكمل بيع كل ممتلكاته ويهاجر مع أسرته خارج اليمن قبل حدوث الكارثة بأيام أو أسابيع كما تحكي الأسطورة، وكما تحاول القصيدة أن تعبر عنه استلهاماً وإسقاطاً لأوضاع معاصرة مماثلة. وقد رحلت في صحبة القناع كثيراً، لاسيما في ديوان «سيف بن ذي يزن»، وفيها تشبث بهذه الشخصية وتمثل لحياتها الجامعة بين الأسطورة والوقع، وفي القصائد المشار إليها ما لا يخفى من الإسقاط والتمثل. مكرهٌ أنا في دخول عالم النقد الأدبي وكم تمنيت أن أتفرغ للشعر وللشعر فقط
حضر سيف بن ذي يزن في نصوصك الشعرية رمزاً للخلاص والوطنية… كيف تنظر إليه داخل الإبداع وخارج حلقة الإبداع؟
سيف، كما تذكر أنت، شخصية تاريخية جمعت بين الحقيقة والأسطورة، وذلك أعطاها قدراً من الغنى الفني والموضوعي، وقد تناولتها من جوانب عديدة، وفوجئت عندما زرت الريف المصري في أوائل الستينيات بأن اسم سيف حاضر في وجدان هذا الشعب العربي، وبعضهم يسمونه «سيف اليزن» ويسمون أبناءه على اسمه، وسيرته تتردد في كل مساء في الكرة الكبيرة المصرية، حيث يتحلق الناس لسماع الراوي أو القارئ الذي استوعب السيرة وصار يقرأها من ذاكرته. وأتذكر أن السيرة تحكي أن سيف بن ذي يزن هو الذي أطلق النيل من أسر الأحباش، وأنهى الطلاسم السحرية التي كانت تقيده عن الجريان، وكان لسيف ثلاثة أولاد أحدهم كان يسمى «مصر» وتولى حكم مصر، والآخر كان اسمه «دُمر» حَكَم الشام، وهو أسطورة وحدوية تسبق زمن الدعوة إلى الوحدة والاتحاد العربي، من هنا يأتي اهتمامي بهده الشخصية وتركيزي على دورها المحوري في حياة العرب في الماضي والحاضر.
في ديوانك «أبجدية الروح» ظهرت تيمة التصوف باعتبارها معادلاً موضوعياً لتيمة الواقع المادي… كيف تنظر إلى هذه التيمة بعد إنجازك للديوان؟
هكذا يفهم عدد من النقاد وأنت منهم الملح الجديد في هذا العمل الشعري، الذي أعتبره نقلة جديدة من حيث الرؤية والموضوع، وأعترف بأن البعد الصوفي جاء عفوياً غير مرتب له، وهذا ما يخفي أن حنيناً ينتابني منذ وقت طويل تجاه هذا المنحى الروحي، ومن يتتبع قصائدي الأولى سيجد أن هناك لحظات مغمورة لهذا التوجه الذي وجدت فيه أخيراً نوعاً من الملاذ في البعد عن قسوة الواقع ومرارته، واللافت أنني بعد «أبجدية الروح» انتقلت إلى مناطق أخرى عبرت عنها كتبي المتلاحقة التي تكاد تسجل أو بالأحرى تعكس ملمحاً من سيرتي الذاتية، مثل كتاب «صنعاء» وكتاب «الأصدقاء» وكتاب «القرية» وكتاب «المدن»… إلخ، وهي مرحلة لا تمت إلى أبجدية الروح إلا بصلة لا تكاد تبين.
في تقديمك لشعر البردوني ترى أنه بدأ كلاسيكياً، بينما يرى الدكتور نجيب الورافي في بحث له أنه بدأ رومانسياً، كيف تفسر ذلك؟
يحتاج شعر الصديق الكبير الراحل إلى إعادة نظر شاملة ودراسة كل قصيدة من قصائده في مناخها الزمني والفني، ومن وجهة نظري أن المرحلة الرومانسية تأتي بعد بداياته الكلاسيكية التي عادت مجدداً في نفحة تحديثية تصل أحياناً إلى درجة من السريالية. والدكتور نجيب من الدارسين المتميزين المتابعين، وله الحق في أن يرى البردوني رومانسياً في بداياته، ومن حقي في المقابل أن أرى في تلك البدايات كلاسيكية رصينة وتقليدية. والبردوني على كل حال شاعر إشكالي وتلك أهمية الشاعر.
صنعاء، هذه المدينة القصيدة… ترى كيف تشكلت في وعيك؟ كيف كنت تراها؟ وكيف تراها الآن؟ وكيف تتمنى أن ترها؟
كنت في السادسة من عمري عندما دخلتها ذات نهار مشمس ومضيء، كانت بيوتها البيضاء تلمع ومآذنها تحلق في السماء، ومن تلك اللقطات الطفلية الأولى تكونت علاقتي بهذه المدينة وسكنت صورتها القديمة وجداني. ولم تعد صنعاء الآن ومن قبل سنوات أيضاً هي صنعاء التي رآها الطفل في السادسة، فقد تغيرت وترهلت، لم يعد فيها ما يشد النظر سوى تلك البقعة المتبقية المسماة بصنعاء القديمة بمعمارها ومآذنها وقبابها، وقد تغيرت رؤيتي إلى صنعاء بتغير أوضاعها، وتطورها غير المنظم أو المحكوم بقانون تنظيمي أو جمالي، كم أنا حزين على ما وصلت إليه هذه المدينة القصيدة.
حضرت القرية في ديوان «أبجدية الروح» معادلاً موضوعياً للمدينة… كانت الأولى قاضمة للروح، والثانية مبعثاً لطمأنينتها، كيف تنظر إليهما في الواقع؟
حتى القرية للأسف الشديد فقدت طهرها الجمالي وجماليتها، بعد أن وصلت إليها هدايا المدينة من أوراق البلاستيك وأعمدة الكهرباء وأريل التلفزيون، ومع ذلك تظل القرية أقرب إلى الروح والمدينة التي تزداد ضجيجاً وصخباً، ومع ذلك فنحن بحاجة إليها ونضطر إلى مواصلة العيش فيها حتى لا ننقطع عن الواقع بكل بشاعته وتقلباته. وفي ديوان كتاب «القرية» رؤية رومانسية بديعة، وقد وجد هذا الكتاب اهتماماً من عدد من النقاد العرب، وكان واحداً من الأعمال الإبداعية التي قيل لي إنها رشحتني لجائزة العويس.
التحولات العاصفة بالواقع العربي، هل تلاحظ أن لها انعكاساً على الحركة الإبداعية؟ وهل الإنعكاس سلبي أم إيجابي؟
في بعض الشعوب يكون للأحداث العاصفة ردود فعل إيجابية، أما بالنسبة إلينا نحن العرب ردود الأفعال تكاد تكون من السلبية بمكان… خمول دهني وفكري وإبداعي وقلق متعدد، والأسباب: شعب يأكل نفسه ويرقص على طبول يدق عليها أعداؤه، ولهذا لا تنتظر أن تكون ردود الأفعال إيجابية بأي حال من الأحوال، فهناك نفحات شعرية تحاول المقاومة في هذا البلد أو ذاك، وأعمال روائية ناقدة وباكية، ولكن الركود هو الطابع العام، ويبقى الأمل في جيل جديد لا تصل إليه المؤثرات السلبية ويكون هو البداية لمرحلة أفضل وأجمل.
المصدر: العربي