هل تزول دولة المخابرات ؟
يمنات
حسن عبد الوارث
كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يُسرف في الانفاق على “العيون” والبصّاصين (أي رجال المخابرات). وذلك ما دعا أحد حكماء دولته إلى نصحه: انك يا أمير المؤمنين تُذكّرني بالراعي الذي خاف على غنمه من الذئاب، فأصطحب كثيراً من الكلاب، ولكنه أضطر بعد ذلك إلى ذبح نصف قطيعه لاطعامها!
معظم حكومات العالم تُنفق على الأجهزة الاستخبارية والاجراءات الأمنية أموالاً طائلة. ويكاد بعض حكومات الدول الفقيرة -وبضمنها دول عربية عديدة- ينفق على هذه الأجهزة وتلك الاجراءات أكثر مما ينفق على سلة الخبز وقنينة الدواء والكتاب المدرسي! .. وبرغم ذلك يتضح يومياً أن تلك الأجهزة واجراءاتها أوهن من بيت العنكبوت، والأمثلة على ذلك كثيرة، حتى أن بعضها يغدو “كعب أخيل” بالنسبة لأنظمتها، فاذا بتلك الأنظمة تُصاب في مقتل لأن أجهزتها الاستخبارية -بسبب تخمة الفساد- وقعت ضحية سهلة لذبابة التسي تسي!
وتُعد الولايات المتحدة الأمريكية أكثر دول العالم انفاقاً على الأجهزة والاجراءات الأمنية.. غير أن أحداث 11 سبتمبر 2001 أثبتت بالدليل القاطع والفاجع أن مليارات الدولارات لم تستطع حماية الدولة الأعظم في العالم من جرثومة الارهاب، فالترسانة التي أطلقت رجالها وحبالها وعيونها وأنوفها وآذانها إلى كل شبر في الكوكب، غفلت عن حماية بيتها الداخلي، فكانت الفاجعة التاريخية التي لن تنساها الذاكرة الأمريكية الجمعية بل والذاكرة الانسانية ولو بعد مئات السنين.
والحال ذاتها تنطبق على دولة أخرى تُعد من أكثر دول العالم انفاقاً على ترسانتها الأمنية -هي اسرائيل- فالعمليات الفدائية التي زلزلت الشارع السياسي والأمني والشعبي الاسرائيلي أطاحت بورقة التوت الأمنية عن العورة الاسرائيلية، بالرغم من أن هوية الكيان الاسرائيلي قائمة أساساً على النظرية الأمنية مائة بالمائة!
قرأتُ عشرات الكتب والدراسات الاستراتيجية التي تؤكد فولاذية الترسانة الأمنية الأمريكية.. وهذا ما تُنوِّه به -على سبيل المثال- مؤلفات جان مينو ومايلز كوبلاند وشيريب سبيريدوفيتش ووليام غاي كار وغيرهم كثيرون، عدا مذكرات آلن دالاس وشقيقه جون فوستر، بالاضافة إلى كتب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون وأخطبوط الديبلوماسية والأمن القومي هنري كيسنجر.
كلما أقتضت المصالح الأمريكية خوض الحرب في أية بقعة في البر أو البحر أو الجو، جنَّد البيت الأبيض قدرات ومَلَكات الـ CIA لتسوية أرض المعركة وتجهيز أحداثياتها وتوفير متطلباتها.
وليس مهماً البتة -قبل هذا وبعده وخلاله- اِنْ كان الهدف عظيماً أو كان السلاح مشروعاً أو كانت الوسيلة نبيلة أو كانت النتائج وخيمة بضحاياها وأنقاضها، فذلك كله مجرد شعارات قابلة للاستهلاك بحسب ما تقتضيه الضرورة الميكافيللية المعاصرة في ميزان المصلحة الأمريكية المقدسة.
فحين قرَّرت الادارة الأمريكية -ذات يوم بعيد- مجابهة عدوّها الأول (الاتحاد السوفياتي) أستخدمت “مجاهدين” مسلمين وتجار سلاح يهود وأباطرة اعلام ملاحدة وقساوسة صليبيين.. وكان “الجهاد في سبيل الله” مشروعاً أمريكياً في أفغانستان يوحي للعالم بأن الخلافة الاسلامية قادمة على يد الخليفة الراشد رونالد بن ريجان وبقيادة سيف واشنطن المسلول زيبجينيو بن بريجينسكي.
ولم تتورّع الادارة الأمريكية وأجهزتها الاستخبارية يوماً عن استخدام جميع الوسائل القذرة في سبيل “الله” أو الشيطان -لا فرق!- من أسلحة مُحرَّمة دولياً ومخدرات ودعارة وتجارة رق ومال زائف واعلام كاذب، وقبل هذا وبعده وخلاله: الارهاب بكل تجلّياته.
وليست أنتن الفضائح وأحقر الفظائع في هذا السياق محصورة في المخابرات الامريكية، فجميع أجهزة المخابرات في العالم مشتركة في هذه الجرائم بمقدار، بما فيها المخابرات العربية، اِذْ لم يكن عالم المخابرات يوماً نظيفاً البتة ، حتى لو تبدَّى القائمون عليها بمسوح الرهبان أو عمائم الأئمَّة!. وقد ظلت هذه الأجهزة أحد أبرز عوائق السلام والأمن والطمأنينة في حياة الشعوب والدول والمجتمعات. غير أن العديد من الرؤى القائمة على دراسات تحليلية مستمدة من حقائق علمية وقائمة على أسانيد واقعية باتت تؤكد بقوة البرهان أن العقود القليلة القادمة ستشهد زوال كلمة “سرِّي” من القاموس الدولي بالضرورة، في ظل التنامي المهول لجبروت الثورة الاتصالية والاعلامية التي لم نَرَ منها حتى اليوم غير آذان الناقة، عدا التطور الهائل الذي سيحدث حتماً في مضمار العلاقات الدولية جراء ولادة وتنامي تحديات جديدة وعنيدة تفرضها البيئة وثوراتها والطبيعة وثرواتها، وليست للنزعة البشرية الذاتية المريضة حينها سوى خيار الاستجابة القسرية في مقابل خيار الفناء الحتمي.
منقول من موقع يمن مونيتور