مواسم الثلج والنار
يمنات
أمين غانم
عندما إنتشل التلميذ يوري بونداريف من المدرسة ،ليضم إلى جبهة القتال في ستاليننغراد ،لم يكن يعلم الفتى ذي الثمانية عشر ربيعا بأن عليه أن يتفحص كل ماتبثه مقل المقاتلين من حب للحياة،و ممايعتلج في ارواحهم من خوف وثبات ،وسيغدو عليه أن يصف أطنانا من القنابل وهي تحرق كل معالم المدينة بوحشية غير مسبوقة ،فبعد عقدين من إنقضاء الحرب ،أصدر روايته ( الثلج والنار ) ليسبر نفوس المقاتلين مجددا ،ويدون وقائع حرب وضعت اوزارها منذ زمن ،ليضعه النقاد في روسيا كواحدا من رواد الإنتلجنسيا الوطنية وأبرز كتاب ادب الحرب.
تذكرت يوري فاسيليفيتش، وانا اقرأ رواية مواسم الثلج والنار لكاظم الشويلي، عن معركة ماوت في مدينة السليمانية بين الجيشين العراقي والإيراني، كان كاظم يحكي بؤس المفارقة بين صعود الإيديولوجيا وهوانها، فمن ذاكرتي تلميذين (كاظم وبونداريف) إخذا إلى الجبهة قسرا، تتفاوت معاني الكتابة لإسترجاع كل مايغفله المقاتل في المعركة أشبه بإستغلال الفن للوخزات الكليمة لوقائع الامس لاسيما حين تؤآزر اوجاعها بخلجات الإستئثار المتأخر للحق عقب إنقضاء ضرب من يقينيات القومية، تبقى الحقيقة بالكيفية التي يتحول معها الخارجين من معركة ما، لشخوص رمزية إينما ولوا لن يجدوا من يدير لهم الظهر كلما يشرعوا بسرد حكايتهم ، ليبق الأثر بالقدر الذي نحتاجه من الزمن للذود عن نقائص الإنسان بغية إذكاء مداركه بمكامن الكمال.
كان كاظم الشويلي يكتب سيرة مبسطة لنتف من اللحظات الخاطفة قبل وقوعه ضمن ثلة من الجنود والضباط العراقيين كأسرى في أيدي الجيش الإيراني ،هكذا تسير الحكاية على إيقاع المهندسة وداد ،كحديث يومي مقتضب ،يغيب الزمن الداخلي للسرد وتحضر وداد بمواعيد تتداخل كالمواقيت بحركة النص وبنائه،سيرة مزدوجة لنعت الماضي والحاضر برجل اربعيني لايكترث للمآلات حين تجيء كمقارنة بائسة تضيع بينهما المحاولة ،ليبدو الأمل إيغالا عاطفيا بحب وجودي لأفراد الأسرة لرجل بات عليه أن يكتف بدفء عالمه الصغير، مقايضة تشي بإختزال تبدو رؤيته الجديدة مجرد صور باهتة للقتال في الجبهة، فثمة مايفقد الخارجين من الحرب التوق مجددا للمغامرة، فالآتي لايعدو عن خدع جديدة للقومية تهمد أفكارها بتعدد ازمنة الدفاع عنها.
حماية تعكس إرتدادات الحرب بفتور الرغبة للفعل والكلام عند البعض، هكذا يستدرج كاظم في لامبالاة لحظية يبدو معها نبش خيبات الحرب أشجانا مسلية بحضرة فتاة جميلة تقابل كل المتناقضات والاحداث بتحريك العلكة أكثر في فمها.
كان فتح المذياع لسماع اغنية ما، وطلب وداد لإكمال واقعة الأسر، جزءا أساسيا من مشهد سردي حدد فضائه اليومي بذهاب وداد ومجيئها، لتتوزع فصول الحكاية كمتواليات صباحيات بمعية ذاكرة مثقلة بتفاصيل لم تجد سبيلا لمن يرهف لها اويتعلم، وكأن التعويل على عظات الحروب العبثية ليس أحسن حالا من التضحية بالنفس إيمانا بقدسيتها.
هكذا تقاس العلاقة داخل العالم السردي بخارجه، كشمعة تحترق بين مرآتين متقابلتين، مولدة مصفوفات لانهائية من الشموع المضيئة، وكأن خلود الفعل يبدو مسألة مصاحبة لحرق افكاره بالنار، اما جماله يظل في مدى إحساسنا بذلك الفيض من الحب الذي يولده ذلك الإحتراق.
هكذا بدت لي روايتين من العراق، مواسم الثلج والنار لكاظم الشويلي، والباب الخلفي للجنة لهيثم الشويلي، كمرآتين متوازيتين وضعتا بساحة عدن الشهيرة ببغداد عام 2006 كان محورا زمنيا للسرد وللعراق على السواء، يتحرك الناس ويعايشوا تشظى الزمن والدولة والتاريخ ضمن مصفوفتين متعاكستين الوجهة والمغزى، في تشتت وإنقسام لانهائي في الحكم على الأشياء، بحيث لن تطو الإ كمحض حسرات تالية ولاحقة، فما بعد 2006 تعكسه مرآة هيثم كشباب تائه يبكي ماضيه التليد، يجمح للقفز فوق الاسوار طلبا للحياة والعيش خارج جغرافيا جريحة، وماقبله يبدو كجيل مثقل بتجربة قاسية تعوزه الرغبة للخروج من دوائر محيقة بالمكان، هكذا تضافرت الصدفة بالجمع بين الخيال والواقع في كتابين منفصلين، بظاهرة فريدة في عالم السرد، تتشارك احداثها بنفس المكان، ومن نقطة زمنية واحدة تتحرك المخيلتين لسرد الماضي والمستقبل، في نمطين سرديين كان جمالهما يتجمع في بؤبؤ الصورة المقلوبة، كأن يرمقا الإنسان منظور واحد، كخطي ضوء متباعدين في المبدأ، متوحدين ومندمجين كمحصلة لرؤية ألوان شتى من العذاب الجماعي..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا