العرب… الخطر الحاضر واحتمالات الآتي
يمنات
عبد الباري طاهر
الثورة العربية ضد الاستعمار القديم والجديد السمة الرائسة لحالة الأمة العربية.
قبيل الحربين الكونيتين: 1914- 1918 و 1939- 1945؛ كانت شعوب الأمة العربية تطلع للتحرر والاستقلال. فالعثمانيون كانوا يسيطرون على المشرق العربي عدا مصر والسودان وجنوب اليمن الخاضعة للاستعمار البريطاني، والمغرب العربي تحت الاحتلال الفرنسي.
تقاسم البريطانيون والفرنسيون العراق وسوريا والأردن وفلسطين بموجب اتفاقية «سايكس – بيكو»، وسلمت فلسطين لإسرائيل حسب وعد بلفور.
في الجزيرة العربية استقلت المتوكلية اليمنية 1918، وقامت المملكة العربية السعودية 1926.
كانت الخمسينات البداية الحقيقية للاستقلال، ولطرد الاستعمار من مصر والسودان، وقامت الثورات القومية في العراق وسوريا، واليمن 1962، وتحررت الجزائر 1961، ونالت المغرب وتونس الاستقلال، كما استقل السودان أيضاً، وجنوب اليمن 67.
كان التفكك والانشطار السمة الأساسية للنظام كله: مشرقه، ومغربه، ولم تكن الحالة الواقعية – طبعاً – صناعة استعمارية فقط، بل كانت جذورها القبلية والطوائفية، وحتى البدوية، حاضرة بقوة؛ مما مكن الاستعمار، وسهل تشكيل عجينة الكيانات القطرية المهيأة والقابلة للصراع واستمراره.
غَرْس إسرائيل في قلب المنطقة العربية كعازل بين المشرق والمغرب، وكبؤرة توتر وصراع مستمرين، هي الكارثة المتسلسلة والمتناسلة الفصول حتى اليوم.
إتخذ الصراع المسلح السمة الأساس لطبيعة التكوينات القطرية الملغومة بمورثات ما قبل عصر الدولة.
الصراع العربي الإسرائيلي، ودعوات تحرير فلسطين كانت قضية رائسة ومحورية، ومثلت هماً قومياً حقيقياً كإرادة أمة، لعب العسكر والسياسيون بها وعليها.
الأنظمة القومية «الثورية» التي حققت الاستقلال بالسلاح، أو حتى بالتلويح به، والتي بواسطته استولت على الحكم، أغريت بالسلاح؛ فهو الوسيلة الأساس للوصول إلى الحكم والتأبيد فيه، وهو أيضاً وحده الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين؛ لإقناع الجماهير المتعطشة للحرية والاستقلال، وصون الكرامة القومية. أصبح السلاح والجيش والأمن الأداة الوحيدة للتنمية، وبناء الوطن، وتحرير فلسطين.
في الخمسينات والستينات وشطر من السبعينات ساد الاعتقاد أن الصراع العربي الإسرائيلي هو الأساس وما عداه ثانوي، وكان الذريعة لقمع الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.
زُيِّفَ الصراع الاجتماعي، أو بالأحرى قمع داخل كل قطر، وموه الصراع بين الأنظمة ذات التركيبة والتوجهات الأيديولوجية والسياسية المختلفة، ولكنه – أي الصراع – كثيراً ما كان يعلن عن نفسه بصور وأشكال مباغتة وراعبة.
لم يكن الاستعمار بعيداً عن تأجيج هذه الصراعات؛ فغرس إسرائيل كان البؤرة الكبرى في هذا الصراع، نجمت عنه، وترتبت عليه حروب: 56 و67 و73، وانقلابات عسكرية تشدد في «البيان رقم1» على تحرير فلسطين، ومقاومة فلسطينية منذ الثلاثينات، وتجددت منتصف الستينات بعد إعلان حركة فتح، واتخذت أبعاداً أكثر جذرية وأوسع نطاقاً بعد هزيمة 67.
الحروب والصراعات المستدامة قوت عسكرة الحياة العامة، وغيبت الحريات العامة والديمقراطية، وقمعت حرية الرأي والتعبير (الحريات الصحافية)، وأعاقت برامج التنمية والبناء والتحديث.
جزء كبير من الدخل القومي وُظِّفَ لبناء جيش وأمن وظيفتهما الأساس حماية السلطة، وقمع المعارضة، وتطويع الإرادة الشعبية، وفرض الإذعان. تكديس السلاح استنزف الجزء الأكبر من الدخل القومي، وكان أكبر نافذة للفساد والاستبداد.
الشعور بامتلاك القوة يخلق أوهاماً كبيرة. وفي تجارب الثورات العربية كان بناء القوات المسلحة هدفاً رائساً؛ (لحماية السيادة والاستقلال وتحرير فلسطين)، وكل ذلك جرى على حساب برامج التنمية والتعليم والتحديث وبناء الإنسان.
بعد أكثر من نصف قرن من الزمان، لا يمكن المقارنة بين أكبر البلدان العربية تمدناً وتحضراً وتطوراً وبين إسرائيل، كما لا يمكن المقارنة بين أكثر هذه البلدان ثراء وبين إسرائيل أيضاً. إهتمت إسرائيل ببناء الجيش الإسرائيلي والإنسان الإسرائيلي في آن. إهتمت بالحرب، وهي دولة حرب بالأساس أسسها الجيش، ولم يكن ذلك على حساب الحريات والسياسة في مجتمعها اليهودي ذي الطبيعة العنصرية.
تجارب الثورة العربية أثبتت أن جيش وأمن هذه الثورات موجه بالأساس ضد شعوبها وضد بعضها البعض. تدخل المنطقة العربية، ومنذ ثورة الربيع العربي، طوراً آخر مغايراً ومختلفاً؛ فقد غرقت بلدان هذه الثورات في الحروب الأهلية والصراعات الداخلية الطاحنة: العراق، سوريا، ليبيا، السودان، وتغرق مصر في الصراعات الداخلية خصوصاً في سيناء.
وإذا كانت هذه البلدان هي الأكثر شراء للسلاح واهتماماً ببناء القوات المسلحة، وإطلاق يدها في مجالات الحياة المختلفة، فإن الأنظمة الملكية الوارثة تتصدر الآن شراء وتكديس السلاح، وتتبوأ العربية السعودية المرتبة الثانية عالمياً في التسلح، وتجري وراءها الإمارات وقطر وحتى دولة الكويت ومملكة البحرين.
الأعداء المُوتَوَهمون
لم تعد إسرائيل الخطر؛ فقد حلت إيران الدولة الاثنا عشرية محل إسرائيل. وإيران تمثل خطورة حقيقية على هذه الأنظمة بسبب البعد الطائفي للكيان الاثناعشري، والطبيعة الطائفية «السنية» للدول الخليجية، وتنافس هذه الكيانات مع بعضها أيضاً، وتتورط السعودية والإمارات بالأخص في الحرب على اليمن.
العدو الخارجي «القضاء والقدر» دائماً هو الأساس، وهو المشجب الذي يعلق عليه العجز وعدم الرغبة أو رفض بناء الدولة: حالة اليمن والسودان كمثال. الأعداء المُوتَوَهمون هم العائق أمام بناء دول ديمقراطية وحديثة، وأمام تجديد البنية التحتية، أو إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية، وتحديث التعليم، وقهر الفقر الواصل حد المجاعة لغالبية السكان، وتفشي الأوبئة الفتاكة ومنها الكوليرا الواصلة إلى المليون مصاب نهاية هذا العام، كما هو حال اليمن.
اختزل الشعب كله في السلطة، واختزلت السلطة في أداة القمع الأمنية؛ فالسلطة القامعة لا تحتكر العنف، وإنما تشيعه في الحياة العامة برمتها.
في ثورة الربيع العربي انفلت العنف المخزون في تونس. رفض الجيش التدخل في معركة ضد المحتجين، ورفضت قيادة الجيش المصري المواجهة مع سيل الاحتجاجات المدنية. في سوريا أطلق الأسد الجيش والشبيحة، وفتح أبواب السجون أمام مرتكبي الجرائم وتيارات الإسلام السياسي، وتطوعت السعودية ودول الخليج وتركيا بحشد قواعد «القاعدة» و«الدولة الإسلامية» ومختلف التيارات المتطرفة؛ لإغراق سوريا في حمامات الدم المتواصلة حتى اليوم، نفس ما حدث في ليبيا.
في اليمن انقسم الجيش الخارج من رحم القبيلة، وانقسمت معه السلطة السياسية ذات الجذور القبلية والإسلاموية؛ لاحتواء الاحتجاجات المدنية، وتدخل مجلس التعاون الخليجي بمبادرة منحت صالح الحصانة، وأعادت إنتاج النظام بين أقطاب حكم الثلاثة والثلاثين؛ فتم تلجيم الثورة الشعبية، وإقصاء الشباب والمحتجين المدنيين.
شكلت لجنة حوار وطني شامل ضمت مختلف ألوان الطيف السياسي، وإلى حد ما المجتمعي، وخرجت بمقررات مهمة جرى الانقلاب عليها وعلى مشروع الدستور من قبل صالح و«أنصار الله»، ودخلت اليمن كلها في حرب أهلية جَرَّت إليها الإقليم وتحديداً إيران والتحالف العشري بقيادة السعودية.
تدخل الحرب عامها الثالث واحتمالات التفكك والتمزق تتزايد بين شمال وجنوب، وجنوب وجنوب، وشمال وشمال، ويتصدع الكيان اليمني كله، ويتمزق نسيجه الاجتماعي، وإذا ما طال أمد الحرب فاحتمالات مجيء الأبشع وارد، وحرب الكل ضد الكل احتمال راجح أيضاً.
الدولة العربية القطرية – ملكية أو جمهورية – شرعيتها الوحيدة الغلبة والقوة، وسندها الأساس الجيش والأمن، والصراع المستدام نهجها؛ لتدويخ الأمة، وسلب إرادتها، وقمع ومصادرة الحريات بحجة مواجهة العدو، والتصدي للمؤامرات الخارجية.
تشكل إسرائيل خطراً على الأمن القومي، وتحتل أرض فلسطين، ولكن المواجهة معها لم تكن جدية بنفس مستوى الخطورة، واستخدمت ذريعة ومبرراً للوصول إلى الحكم والقمع والاستنقاع في السلطة.
تدخل أمتنا القرن الواحد والعشرين بالمهادنة مع إسرائيل التي تمثل الآن القوة العلمية والعسكرية والنووية لمواجهة خطر إيران القوة الإقليمية، وخطر إيران كبير؛ لأنه له امتداد مذهبي في دول المنطقة يُعمل به وعليه. خطر إيران الشيعية أن الدول العربية الخليجية قائمة على الأساس المذهبي؛ ومن هنا يكون لتدخلها الأثر الفعال؛ لأن المواطنة هنا مختزلة في المذهبي، شأن إيران نفسها.
عندما طلب الرئيس الأمريكي أوباما لدعم الدول الحليفة في الجزيرة العربية لمواجهة الخطر الإيراني، قال لهم: «إن الخطر الحقيقي آت من داخل بلدانهم». وكان صادقاً، ولم تكن نصيحة مقبولة.
مجيء الرئيس الأمريكي الجديد ترامب قوبل بابتهاج كبير في السعودية، وفي اللقاء مع خمسين من زعماء الدول العربية والإسلامية، اتخذ اللقاء طابع الحلف السني في مواجهة الشيعي؛ مما يعطي للصراع في المنطقة البعد المذهبي، وهو صراع ينتشر الآن كالحريق، وتدخل المنطقة الآن سباق تسلح بالمليارات، وهو ما يدفع إلى تغذية الصراع وتصعيده، وإذا ما سارت الأمة العربية في الصراع الديني؛ فإن ذلك سيقضي على البقية الباقية من إرث المنطقة وثرواتها.
المصدر: العربي
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا