عدن: إرهاب… وصحوة إعلامية
يمنات
صلاح السقلدي
عدد الجثث التي شاهدتُها في ثلاجة الموتى في مستشفى الجمهورية بعدن ظهر يوم الإثنين، وقائمة استلام وتسليم الجثث في تلك الثلاجة المكتظة بكمية كبيرة من جثث القتلى والأموات المكومة على بعضها، يشير كل ذلك إلى أن ضحايا الجريمة الإرهابية التي حدثت يوم الأحد الماضي في مقر إدارة البحث الجنائي في عدن من قبل عناصر إرهابية يقدر عددها بالعشرات، أكثر بكثير من العدد المعلن عنه رسمياً، والذي قُدر بـ24 قتيلاً.
إذ إن ثمة جثثاً ما تزال ملقاة على ساحة المواجهة بعد إعلان ذلك الرقم. كما أن هناك عدداً كبيراً من الجرحى المصابين بإصابات خطيرة، في ظل وضع صحي سيء، يفاقمه قرار إغلاق المنافذ الجوية والبحرية من قبل السعودية، والذي سيحول دون تسفيرهم إلى الخارج، فضلاً عن مصير مجهول يتهدد المسجونين الذين قام الإرهابيون بعمليتهم هذه من أجل تهريبهم، حيث تحدثت أخبار غير مؤكدة، حتى مساء الثلاثاء، عن أن عدداً منهم قد قضوا.
هذه الجريمة الإرهابية ليست الأولى في عدن، وربما لن تكون الأخيرة نظراً لبقاء الأسباب قائمة، ومراوحة الوضع السياسي مكانه من غياب الحل وانسداد أفق التسوية، وبقاء جهود محاربة الإرهاب يكتنفها الغموض ويشوبها الشك والريبة، بعد أن تداخلت شباك الجماعات المتطرفة بحبائل القوى السياسية، واختلط حابل جهود من يحارب الإرهاب محاربة حقيقة بنابل الجهات التي تقوضها. فتلك القوى السياسية والفئة النفعية المتكسبة هي بكل تأكيد امتداد وجزء أصيل للقوى السياسية والنفعية التي أسست تلك الجماعات المتطرفة ورعتها وجلبت عدداً منها من جبال تورا بورا منذ 94م ضد الطرف الجنوبي، وما زالت تمارس هواياتها بذات الوسائل ولذات الغايات.
وعطفاً على ما تقدم، يكون منطقياً عدم انتظار أي نجاح لأي جهد يُبذل للقضاء على هذه الظاهرة وهذه الجماعات، برغم ما يُبذل من قبل جهات أمنية من جهود في الآونة الأخيرة، حققت نجاحات لا بأس بها في محافظات عدن وأبين وشبوة، ربما كانت العملية الإرهابية التي وقعت يوم الأحد في عدن واحدة من ردود الفعل عليها.
الأمر اللافت والجيد لدى النخب السياسية والإعلامية والأمنية الجنوبية أنها بدأت تخرج من دائرة الهروب من مواجهة الحقائق التي ظلت رهينتها لقرابة عامين، وشرعت لتوها اليوم في الابتعاد عن سياسة الكنس تحت السجاد، وثقافة البحث عن شماعات لتعليق الفشل والتستر على الجهات الحقيقية التي تمول الارهاب وتسانده وتستخدمه. فمنذ شهور تقريباً، غابت عن الإعلام الجنوبي مفردات «قاعدة عفاش»، «قاعدة الحوثي»، «قاعدة إيران»، التي كانت تُستخدم بعد كل جريمة إرهابية تحدث، وكان استخدامها يتم بصورة روتينية ساذجة، إلى درجة أن تلك المفردات وغيرها من مفردات ومصطلحات التضليل كانت تُطلق بعد وقوع كل جريمة بدقائق، لتظهر معها سذاجة الخطاب الإعلامي الذي من المفترض أن يكون عيناً ثاقبة في تتبع الجهات الحقيقية التي تعبث بالجنوب وتضربه في الصميم. وكانت خطورة ذلك التوجه تتمثل في أنه كان – بقصد أو بدون قصد – يوفر غطاءً مجانياً للعناصر الإرهابية الضالعة في هذه الجرائم، ويعمل كستار للقوى التي تقف خلفها لتكمن وراءه إلى حين، حتى إذا ما هدأت الأمور مؤقتاً تعيد كرتها ثانية وثالثة ورابعة.
هذه الصحوة الجنوبية شاهدناها بوضوح بعد جريمة مقر البحث الجنائي يوم الأحد الماضي. صحوة حقيقية بدأت تتشكل اليوم بعد أن تبدت لهذه النخب كثير من الحقائق، وانجابت عنها غيوم البلاهة والتبعية العمياء. فقد بات العقل الجنوبي اليوم أكثر وعياً وأكثر تحصيناً من إعلام التضليل الذي باتت تنتهجه قوى سياسية يُفترض أنها شريكة وحليفة للقوى الجنوبية، ومنها قوى «الشرعية» التي أضحى قطاع كبير من الجنوبيين ينظر إليها على أنها مصدر الإرهاب وحاضنته والمتحكمة به ضد المشروع الجنوبي التحرري.
وما التصريحات المتناقضة والمرتبكة والوثائق المريبة المسربة من قبلها عند كل جريمة، وبالذات آخر هذه الجرائم (جريمة البحث الجنائي)، إلا دليل في وجهها أكثر منه إدانة لخصومها كما توخت أن تكون.
خلاصة القول إن الصحوة الجنوبية المتمثلة بالنظرة الواقعية المتجردة، والمتحررة من صناعة العدو الوهمي وعقلية التغطية على الخصوم الحقيقيين المتخفين برداء الشريك وجلباب الحليف، يمكن الرهان عليها مستقبلاً. فهي التي ستكبح جماح ظاهرة الإرهاب، وستعمل على تبصير العوام من الناس بخطورة ما يحاك ضدهم من الأعداء، وبالذات الأعداء الكامنين في الجسد الجنوبي ذاته باسم الشراكة والخندق الواحد. وستعمل على نشر الوعي بضرورة بناء مؤسسات رسمية لا عصابات وميليشيات وتشكيلات أمنية مجهولة الولاء والهدف، وهذا كله في المحصلة النهائية من شأنه أن يكون سراجاً ينير الدرب الجنوبي المظلم، وشمعة تضيء الطريق الموحش، أو هكذا نعول عليه ونتوخاه.
المصدر: العربي
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا