العرض في الرئيسةفضاء حر

رحيل صالح.. مفارقات اللحظة الفارقة

يمنات

صادق القاضي

“الاثنين” الأسود، 4 ديسمبر.2017م، يوم استثنائي في الزمن اليمني. تم اغتيال “صالح” بعد يومين من انتفاضته المفاجئة التي عصفت بكل المواقف والعواطف اليمنية تجاهه إلى النقيض، وأعادته إلى مركز الوعي والحماس الشعبي من جديد، باعتباره هذه المرة البطل والمنقذ والمخلص، والأمل الأخير في إجلاء الحوثيين عن صنعاء، وفتح الباب لحل المشكلة اليمنية برمتها.!

لكن الرياح، مرة أخرى، عاندت السفن اليمنية، وقُتل الرجل بشكل مريع، تاركاً وراءه حزنا كبيرا وخوفاً أكبر تجاه المستقبل، كما لو أن انتفاضته الأخيرة تلك كانت بالنسبة للشعب هي الاستئناف الأخير من حكم نهائي بالسجن المؤبد في غابة تحكمها مجموعة من الضباع .!

باستثناء شركائه القدامى والجدد. الإخوان والحوثيين. حزن الشعب اليمني كله عليه، بمن فيهم:

– مؤتمر هادي، بعد انشقاقه عن حزبه، ومحاولة إزاحته عن الحزب، وإعلانه الحرب عليه.. عادوا فوجدوا فيه الأمل في الخروج من شتات المنافي، وأرصفة المراهنات الخاسرة.

– أحزاب المعارضة، التي عملت ضده، طوال عقود، وتآمرت عليه مع الداخل والخارج، يئست في الأخير من كل شيء وعادت، وعاذت ولاذت به.

– ثوار 2011م، بعد ست سنوات من مناهضته وتشويهه، عادوا بعد فشل كل شيء، وعلقوا آمالهم عليه.

– رفاق صالح الذين قفزوا من سفينته 2011م، وحاولوا إغراقها طوال هذه السنين، على رأسهم الجنرال علي محسن الأحمر، عادوا وتعلقوا بسفينته لتنجيهم من الغرق.

– حتى دول الخليج، بعد ثلاث سنوات من قصف جيشه وحزبه ومقراته وبيوته وكل شيء مهم ومفيد يتعلق به..وجدت فيه مخرجا لورطتها في اليمن.!

لم يرحمه أحد في سنواته الأخيرة، كلهم شاركوا في شيطنته وإضعافه وتحجيمه وتآكل قوته ونفوذه وإمكانياته.. ثم فجأة.. أصبح هو أملهم الأخير.. في إصلاح ما أفسدته الحرب والسياسة، واستعادة ما فرطوا به بالمكايدات والمناكفات والمراهنات الخائبة.

لكن الوقت كان قد فات.. كان الحوثيون قد جردوا صالح من عوامل قوته واحدا واحدا.. ببطئ وبالتدريج.. فلم ينتفض عليهم إلا ويده خالية من كل إمكاناته التي باتت في أيديهم.!.

كان الرقم الصعب، ومن المفارقة أن يسقط بكل هذه السهولة التي لا تتناسب مع دهائه وخبرته العسكرية والأمنية المكينة، وإن كان الذهول والغموض ما يزالان حتى الآن هما سيدا الموقف الشعبي تجاه الرواية الحوثية الرسمية، وعلى الهوامش روايات أخرى غير مستبعدة، عن مؤامرة إقليمية ضالعة في اغتياله.!

صالح: أربعة وثلاثون عاماً على رأس هرم السلطة السياسية، بجانب سنوات أخرى، من قبل ومن بعد، في التأثير الحاسم على صناعة القرار والحدث السياسي، في حقبة هي الأكثر كثافة بالأزمات والحروب، والتحولات المحلية والإقليمية والدولية العاصفة.. كل ذلك جعل منه الرجل الأهم والأكثر حضوراً وتأثيرا في تاريخ اليمن المعاصر.

وكما ينبغي لإخراج رقم كبير من معادلة بسيطة، كان اغتياله حدثاً استثنائيا مزلزلا للمعادلة السياسية والعسكرية في اليمن كلها.

من الصعب التعويض عن رجل مثله، بالنسبة لحلفائه وخصومه على السواء، للمؤتمر أو للحوثيين، للرئيس هادي، أو للإخوان، لليسار أو لليمين.. كزعيم أو عدو، أو شريك، أو نقيض، أو دور متماسك في مشهد بالغ التشرذم والتشظي والعدمية.!

للرجل من الحسنات والخطايا ما ينوء بتدوينه العصبة من الكتّاب، وبالنسبة لي صالح هو الوجه الذي أحببته وتعلمت عليه الرسم في الطفولة، والرئيس الذي كرهته وتعلمت عليه شعر الهجاء في المراهقة، والحزب الذي لم أرفضه ولم انضم إليه، والسياسي الذي كتبت معه وضده في صحيفته، وحزنت عليه، كما لم أحزن على أي سياسي يمني من قبل.

عوداً على بدء. هي لحظة فارقة بين زمنين. زمن صالح، وزمن ما بعد صالح، والسؤال الكبير اليوم هو: هل سيفتح اليمنيون صفحةً جديدة من نفس الملف المضطرب القديم، أم ملفاً جديداً مختلفاً له علاقة، أيّ علاقة، بالاستقرار والتنمية والبناء والشراكة والعصر والحياة؟!

زر الذهاب إلى الأعلى