العرض في الرئيسةتحليلات
انسحاب أحمد شفيق المفاجئ من انتخابات الرئاسة المِصرية المقبلة أخطر من التّسريبات عن الإملاءات الإعلامية.. وتحذيرات كتاب “النار والغضب” من انهيار مِصر يجب أن تؤخذ بجدية مطلقة
يمنات
عبد الباري عطوان
تَحتل الأحداث والتطوّرات على الساحة المِصريّة هذهِ الأيّام مساحات كبيرة في وسائل الإعلام العربيّة والدوليّة ليس لأهميّتها وخُطورتها، وإنّما أيضًا لأنّها تَعكس بعض السياسات غير المَدروسة التي ربّما يُؤدّي إلى التّأثير سلبًا على أمن البِلاد واستقرارها في المَديين المُتوسّط والبَعيد، ويُمكن تَلخيصها، في ثلاثة:
-
الأوّل: نَشر مَحطّات تلفزة مِصريّة مُعارضة (قناة مكملين) مقرها إسطنبول، تسريباتٍ لأشرطة صوتيّة تتضمّن اتصالاتٍ أجراها ضابط في المُخابرات المِصريّة برُتبة نقيب يُدعى أشرف الخولي، يُصدِر فيها تَوجيهاتٍ إلى عددٍ من مُقدّمي البرامج التلفزيونيّة في مِصر باعتبار رام الله وليس القُدس المُحتلّة عاصِمةً للدّولة الفِلسطينيّة المُنتظرة، وقد عَزّز هذهِ التّسريبات تَقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز″ أعدّه مُراسلها في القاهرة، كان سبّاقًا في كَشف أمر هذه الاتصالات، والتّوجيهات ومَضمونِها.
-
الثاني: انسحاب الفريق المُتقاعد أحمد شفيق من الترشّح في انتخابات الرئاسة المُقبلة، وإصداره بيانًا قال فيه “من خِلال المَنطق والحِساب الدّقيق للعمليّة الانتخابيّة، من حيث المَكسب والخسارة، قد لا أكون المُرشّح الأمثل لهذا المَنصب حاليًّا”، وأكّد أنّه “لم يتعرّض لأي ضُغوط.. وأن القرار يأتي لتَحقيق المَصلحة العامّة ولعُبور هذهِ المَرحلة من عُمر الوَطن”.
-
الثالث: انفجار الخِلاف السياسيّ الدبلوماسيّ مع السودان حول مثلث حلايب مُجدّدًا بعد زِيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم، وتَوقيعه اتفاقاتِ تعاونٍ اقتصاديٍّ وأمنيٍّ وعَسكريٍّ مع الحُكومة السودانيّة التي مَنحته جزيرة “سواكن” لتَطويرها سياحيًّا، وإقامة قاعِدةً عسكريّةٍ تركيّةٍ فيها، وتَوارد أنباء عن إرسال الحُكومة المِصريّة قوّات إلى مدينة كسلا استعدادًا لهُجومٍ على جزيرة “سواكن”، وتَعزيز السّيطرة المِصريّة على حلايب وشلاتين، حسب مَصادر سودانيّة، وهو ما نَفته السلطات المِصريّة.
***
إذا بَدأنا بالحَدث الأوّل، أي الإملاءات التي وردت على لسان ضابط مخابرات مصري وفنّدتها هيئة الاستعلامات المِصريّة في إطار نفيها بالكامل لها، وعدم وجود ضابط مُخابرات بهذا الاسم، فإنّها تُفسّر الماء بالماء في رأي الكثيرين، ونحن منهم، فالإعلام المِصري لم يكن مُستقلاً ويَملُك قراره في العُقود الأخيرة، وكان دائمًا يسير في تغطياتِه للأحداث وفق التعليمات الرسميّة، مثل نُظرائه في مُعظم الدول العربيّة، باستثناء فترة محدودة جدًّا، بعد انتصار الثورة المِصريّة وإطاحتها بالرئيس الأسبق حسني مبارك، وكانت فترة قصيرة تلتها تشديد السلطات لقبضتها على الإعلام مُنذ فوز الرئيس عبد الفتاح السيسي في انتخابات الرئاسة عام 2014 وحُصوله على نَسبة 97 بالمئة من الأصوات، وهُروب مُعظم الكفاءات الإعلاميّة إلى الخارج، ومن بَقِي منها في مِصر فَضّل التّقاعد الإجباري تَجنّبًا للاعتقال.
أمّا إذا تطرّقنا إلى الحَدث الثاني، أي انسحاب الفريق المُتقاعد أحمد شفيق من سِباق انتخابات الرئاسة، وقالت صحيفة “نيويورك تايمز″ أنّه فعل ذلك مُجبرًا، وهو ما نَفاه المُتحدّث باسمه، فإنّه في تَقديرنا الأكثر أهميّة لمَدلولاتِه على مُستقبل الديمقراطيّة والحُريّات في مِصر، وانتخابات الرئاسة المُفترض أن تُجرى مُنتصف العام الحالي.
فقد بات واضِحًا، حتى كتابة هذهِ السطور على الأقل، أن السلطات المِصريّة لا تُريد مُرشّحًا قَويًّا يُنافس الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي لم يُعلِن تَرشحه رسميًّا بَعد في انتخابات حُرّة ونَزيهة، فاثنان أقدما على هذهِ الخُطوة، الفريق شفيق الذي انتهى في إقامةٍ جبريّة فاخرة في فندق “ماريوت” في القاهرة على غِرار أقرانِه في السعوديّة، بعد تَرحيله من أبو ظبي على مَتن طائِرة خاصّة، إثر إعلانِه يوم 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، استعداده لتَرشيح نَفسه في الانتخابات، أمّا المُرشّح الثاني العقيد أحمد قنسوة فكان أسوأ حَظًّا، حيث جرى اعتقاله والزّج بِه في السّجن لأنّه أبدى رَغبتَه في الترشّح، والتّهمة إبداء آراء سياسيّة وهو يَرتدي الزّي العَسكري، ولا نَستبعد أن يكون مصير المُرشّح الثالث المحامي خالد علي، المُعارض الشّرس لتنازل حكومة بِلاده عن جزيرتي “صنافير وتيران” للسعوديّة، مُماثلاً للمُرشّحين الآخرين، إن لم يكن أسوأ، فهُناك قضيّة مرفوعة ضِدّه بالإساءة للذّوق العام، وإذا أُدين فيها فإنّه قد يَذهب إلى السجن، ممّا يَجعل ترشّحه باطِلاً قانونيًّا، وهذا هو المُرجّح.
يَظل هُناك مُرشّح رابِع ما زالَ مَصير ترشيحه غامِضًا، وهو محمد أنور السادات، حفيد الرئيس الأسبق، والنائب السابق في مجلس الشعب، الذي جَرى إبعاده من البرلمان بسبب انتقاداته الشّرسة للنظام، ويَعتقد كثيرون أن المَرحلة المُقبلة ستكون مرحلة النّبش في مَلفّاته بحثًا عن قضيّة فساد تُدينه، وتُبعده عن المُنافسة، ولا نَستغرب العُثور عليها.
أمّا الحَدث الثالث، أي الخِلاف المِصري السوداني فليس جديدًا، ولكن زِيارة الرئيس التركي للخرطوم، وسَحبْ الرئيس السوداني سفيره من القاهرة، وانضمامِه إلى المِحور القَطري التركي، ومَنحِه جزيرة “سواكن” الاستراتيجيّة في البحر الأحمر، فتُشكّل مُجتمعة أو مُتفرّقة صُداعات مُزمنة للسلطات المِصريّة والرئيس السيسي، خاصّةً أن السودان شَريكٌ استراتيجيٌّ لمِصر في مُفاوضات سَد النّهضة، والحِفاظ على حِصّتي البَلدين في مِياه النّيل في مُواجهة مُؤامرات لتَخفيضِها.
كِتاب “النّار والغَضب” الذي كَشف أسرار السّنة الأولى من رئاسة دونالد ترامب في البيت الأبيض، تَحدّث عن اضطرابات وحالةٍ من عدم الاستقرار قد تَسود كُل من مِصر والمملكة العربيّة السعوديّة نَقلاً عن ستيف بانون، المُستشار الاستراتيجي السابق للرئيس ترامب، ومَسؤولين أمريكيين آخرين، ومن المُفارقة أن البَلدين هُما الأكثر صَداقةً وقُربًا للرئيس الأمريكي الحالي، والحُكومات الأمريكيّةِ الأُخرى، وهُناك من المُراقِبين من يَعتقد أن حُكومَتي البَلدين، أي السعوديّة ومِصر، تُقدّمان على سِياسات تُوفّر الذّخيرة لمُعارِضيهما، وبِما يُؤدّي إلى زَعزعة استقرارِهما.
الشعب المِصري الذي يقترب من الاحتفال بذِكرى ثَورته التي أطاحت بالنّظام الديكتاتوري، يتطلّع الى الديمقراطيّة والحُريّات والعدالة الاجتماعيّة ومُحاربة الفَساد، والتّوزيع العادِل للثّروة، واللافت أن هذهِ الحُريّات تتآكل، والديمقراطيّة تتراجع، والانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة أقل شفافيّة من أيِّ وقتٍ مضى، وغلاء المَعيشة يَستفحل، الأمر الذي يُذكّر بنَظيره في إيران.
***
مِصر تُواجِه إرهابًا دمويًّا، وتخوض حَربًا شَرِسة ضِدّه، في شَرقِها وغَربِها، مِثلما تُواجه أوضاعًا اقتصاديّةً صَعبةً، وتعيش حالةً من الاحتقان السياسيّ، وهذهِ “وصفة” لانفجارٍ آخر في حال استمرارِ هذهِ الأزمات دون عِلاجٍ حكيم، ولا نَعتقد أن القبضة الحديديّة الحاليّة وَحدها هي الأُسلوب الأمثل في هذا الإطار.
الانتخابات الرئاسيّة المُقبلة في شَهر آذار (مارس) المُقبل، سَتكون هي الاختبار الحقيقي للسّلطات المِصريّة، وللرئيس السيسي تحديدًا، والمُؤشّرات الأوليّة تُوحي بأنّها قد لا تَكون شفّافة بالشّكل المَطلوب، وما يُعزّز هذا الانطباع القُيود المَفروضة على الحُريّات الإعلاميّة، وهي قُيود لا تَحتاج إلى “تسريبات” لهذا النّقيب أو ذاك لإثباتِها، والقُيود المَفروضة على المُرشّحين الرّاغبين في خَوضِها.
نحن مع استقرار مصر وأمنِها ورفاهيّة شَعبِها، وخُروجِها من كُل أزماتِها الحاليّة، لأن مِصر هي عَمود خَيمة العَرب، وقائدة المِنطقة، ولكن هذهِ القِيادة يجب أن تَرتكز على العوامِل التي جَعلت مِصر تَجلِس أمام عجلة القِيادة والرّيادة، وأبرزها مُواجهة التحدّي الإسرائيلي العُنصري، والدّعم الأمريكي له، والاعتماد على الشّعب المِصري الذي يَنضَح وطنيّة، وتَلبِية مَطالِبه الأساسيّة في الحُريّات والعدالة الاجتماعيّة، واستعادة استقلاليّتها.
هل نَحرث في بَحرٍ ربّما.. هل نَطرح حُلولاً أقرب إلى الأُمنيات لا مانِع.. هل نَجد تجاهُلاً، وربّما استخفافًا بطُروحاتِنا فليَكن.. ولكنّنا سنَقف دائِمًا في خَندق مِصر وما يُعزّز أمنها واستقرارها، ورفاهيّة شَعبِها، فالحُكّام يَأتون ويَذهبون.. والمَحروسة هِي الباقية لنا ولشَعبِها الطيّب المِعطاء.
المصدر: رأي اليوم